رواية التاج المفقود/الفصل الرابع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سعد فهيد العجمي
    أديب وكاتب
    • 02-12-2015
    • 54

    رواية التاج المفقود/الفصل الرابع

    الفصل الرابع

    2003


    تابعت الرحلة؛ وكأنّي كنت أهرب من قدَري إلى قدَري!
    صحونا عند الفجر لنبدأ يومنا من أوله كسبًا للوقت، أدّيت صلاة الفجر مع منير وعليّ، فيما تخلف مصطفى عنا ليؤدّيها منفردًا حسب مذهبه الشيعي، تناولنا بعدها فطورًا خفيفًا، ثم سارعنا إلى سياراتنا.
    توجهنا إلى غرب العراق، وقافلة السيارات تشق طريقها تحت هجير الشمس، التي راحت ترسل لهيبها، فجأة ظهرت عدّة سيارات من الجهات المحيطة بنا، وأصحابها يشهرون أسلحتهم نحونا!
    - "فخّ! إنه فخّ!"
    صرختُ وأنا أمدّ يدي إلى سلاحي، لكنّ سيلًا من الرصاص انطلق في الهواء وجعل يدي تتجمّد!
    - "أيّة محاولة للمقاومة لن تنتهي على خير!"
    - "قالها أحدهم وهو يقترب منا".
    بدا بجسده الضخم وابتسامته الواثقة أنّه زعيم هؤلاء الرجال، قال ساخرًا:
    - "اتّصل بنا عبد الجبّار وأخبرنا أنكم في طريقكم إلينا"
    سألته:
    - "من أنتم؟"
    أجاب بزهو وهو يداعب سلاحه:
    - "نحن أهل هاشم وعشيرته"
    قال مصطفى بغيظ:
    - "هكذا إذن!"
    ولكن ولشدّة دهشتنا تقدم منير من الرجل وكشف عن رأسه؛ فكانت المفاجأة! أسفر غطاء الرأس عن أذنه اليسرى المقطوعة! لم ينته ِعجبي، بل الأغرب كانت ردّة فعل الرجل؛ فقد صاح والدهشة على وجهه:
    - "السيد منير؟"
    صافح منير بقوة وحرارة وهو يقول:
    - "لم أعرفك بسبب هذا الغطاء!"
    بدا واضحًا أن منير لا يريد إضاعة الفرصة :
    - "نريد مقابلة الزعيم"
    ***
    أثناء انتظارنا حضور زعيم العشيرة كان منير يحكي لنا سرّ أذنه:
    - " كنت المنقذ لابن الزعيم من الإعدام؛ فهناك من وشى به، وكان سيُحكم عليه بالإعدام لكنى تدخلت لتهريبه"
    - "وسبب قطع أذنك؟"
    - "كان هو العقاب القاسي والرادع -كما قالوا ووصمة للخائن - حسب قوانين النظام السابق التي أعتبرها شرفًا لي على ما فعلت، ما جعل زعيم العشيرة يتعهد بردّ الدين في وقت ما."
    قلت وأنا أبتسم:
    - "وهذا هو وقت ردّ الدّين!"
    ابتسم منير بهزة رأسٍ تأكيدًا لكلامي، حضر الزعيم مرحبًا بنا وعانق منير بقوة؛ ما دلّ على عظيم احترامه له، وبالتالي لنا!
    - "مُرني يا منير"
    قالها الزعيم ونحن نتناول أقداح الشاي بعد عشاءٍ دسم.
    - "نريد الحديث مع هاشم"
    بدا القلق على وجه الزعيم:
    - "هاشم؟"
    قال منير:
    - "لا تقلق، نحن فقط نريد معلومة بخصوص عمله السابق"
    ظهر هاشم في تلك اللحظة وقال ببرود:
    - "عملي السابق لا شأن لأحد به!"
    قال الزعيم محرجًا:
    - " رحِّب بضيوفنا يا هاشم!"
    قال بنفس البرود:
    - "لم أعتد أن أضع يدى في أيدى الخونة!"
    قال منير بعصبية:
    - "الكويتيون ليسوا خونة؛ فقد ضحّوا كثيرًا من أجل العراق من قبل!"
    قال هاشم ساخرًا:
    - "حقًا؟"
    قلت بهدوء:
    -"كل ما نريد معرفته هو مكان الأسرى؛ لقد بلغنا أنّك كنت مسؤولًا عنهم"
    - "من المؤكد أنّهم في مكان ما الآن"
    قالها بخبث، والزعيم يقول غاضبًا:
    - "هاشم! كفّ عن عبثك هذا وأخبرهم بما يريدون"
    قال بتشفّ:
    - " لقد أخبرتهم بالفعل! من الأفضل لكم أن تعودوا من حيث أتيتم وتنسوا أمرهم إلى الأبد!"
    تحرك مصطفى بغضب وهمّ بالفتك به، لكن أبو ثومة و حمودي - من رجال فريق منير- أوقفاه بقوّة!
    قال الزعيم لمنير:
    - "لا أعرف ماذا أقول لك يا منير! إنّه زوج ابنتي ولا أستطيع إرغامه على شيءٍ لا يريده، لو كان الأمر متعلقًا بي ماكنت لأتأخر عن مساعدتك"
    قال منير وهو يومئ برأسه:
    - "نعلم يا شيخ! أشكرك على كرم ضيافتك"
    غادرنا المكان واتجهنا للخيمة الكبيرة التي أُعدّت لنا للمبيت فيها.
    ***
    كان مصطفى يتحرك كليث هائج:
    - " كنتُ أرغب في تمزيقه بأسناني! لمَ منعتموني؟"
    قلت بهدوء:
    - "لأننا في ضيافتهم، ولو حاولت التهجم عليه سيفتكون بنا!"
    أيّدني منير:
    - "هذا صحيح! هاشم له سطوة ونفوذ في العشيرة لا يقلّ عن زعيمهم ذاته!"
    دخل أبو ثومة وقال والدهشة على وجهه:
    - "بالباب امرأة تريد الدخول!"
    قلت بسرعة:
    - "دعها تدخل!"
    دخلت امرأة تتلفع بعباءتها، وتغطي بيدها نصف وجهها، قالت بصوت بدا فيه التوتر:
    - "أنا زوج هاشم الأولى"
    ثم أردفت بعد تردّد:
    - "إنّه يعلم مكان الأسرى!"
    كانت مفاجأة كبيرة لنا، نظرت إليها باستغراب:
    - "لماذا تخبرينا بهذا يا سيدتي؟"
    قالت بحقد:
    - "إنّه معدوم الانسانية! هو من تسبب في القبض على أخي، وهو من أرسل اللصوص للاعتداء عليكم!"
    أذهلتنا جرأتها ونحن نُحدِّق في وجوه بعضنا بعضًا! فيما هي تتابع:
    - "صدقوني فيما أقول! لقد تباهى بذلك أمامي ذات ليلة إنّه يرغب في أن يكون زعيمًا مطاعًا، ولقد علمتُ من ساعات أنّه سيرحل غدًا للأردن، ومنها إلى بلغاريا!"
    خُيّل إليّ أنّها صادقة في قولها:
    - "هل يمكن لكِ إذن أن تساعدينا ؟"
    - "هذا سبب مجيئي إليكم، فور أن ينطلق في الغد سوف أرسل إليكم خبرًا بمساره"
    سألتها بلهجة مشوبة بالحيرة:
    - "سيدتي، لماذا تفعلين هذا؟"
    قالت بحدّة مقتضبة تموج بشتّى الانفعالات:
    - "أريد العدالة!"
    ولم أكن أعلم نوع العدالة التي كانت تقصد!
    ***
    التعديل الأخير تم بواسطة سعد فهيد العجمي; الساعة 06-12-2015, 12:52.
  • سعد فهيد العجمي
    أديب وكاتب
    • 02-12-2015
    • 54

    #2
    كانت ليلة صعبة؛ وكنا نخشى أن تكون خدعة من نوع ما دبرها هاشم نفسه، ما زاد الطين بلّة أنّه قد حان الصباح ونحن مازلنا في انتظارنا، لم يصلنا خبرٌ من زوجه؛ الأمر الذي جعل مصطفى يقول ثائرًا:
    - "كنت أعلم أنّها خدعة!"
    - "اهدأ يا مصطفى!"
    قالها منير بصرامة.
    - " أي هدوء؟ هل تتخيل حالة والدي وبقية الأسرى وهم في مكان يحرمهم من نور الشمس و نسمة الحرية؟"
    - "صدقني أعلم هذا جيدًا، ثم إنّي اتخذت احتياطاتي"
    سألته باهتمام:
    - "كيف؟"
    ضمّ رأس سبابته وإبهامه، ورفعهما بعزم أمام وجهه قائلاً:
    - "أرسلت فريقًا من الرجال لمراقبة منزله، وعند خروجه سوف يخبرونا عن وجهته فورًا"
    قال مصطفى ساخرًا:
    - "هذا إذا كانت المرأة صادقة أولاً فيما قالته!"
    نهرته بحدّة:
    - "أنا أصدقها، وكُفّ عن إحباطنا يا مصطفى!"
    التزم مصطفى الصمت؛ فهو يعرف بأن سكوتي على تعليقاته وانفعاله قد يخفي ردّة فعل عنيفة، وفي لحظة قد ينفجر غضبي!
    دخل أحد رجال الفريق فجأة، وقال:
    - "زوج هاشم أرسلت تبلغنا بخروجه منذ دقائق!"
    نهضنا بحماس نعدّ أنفسنا، في نفس الوقت الذى وصل فيه أحد رجال الفريق وهو يؤكد تلك المعلومة؛ فقد رأوا هاشم يركب سيارته اليابانية ذات الدفع الرباعي في اتّجاه طريق بغداد-الأردن.
    ***
    كمن أفراد الفريق في نقطة على الطريق، الذى انطلق فيه هاشم وقريبه بسرعة بالغة قاصدًا الحدود العراقية الأردنية، انطلقت رصاصة اخترقت واحدة من عجلات سيارته اليابانية، وفى محاولة يائسة للسيطرة عليها اصطدم هاشم بتربة رملية أوقفت تقدمه!
    قبل أن يفيق من الصدمة كانت أسلحة الفريق مصوبة إليه، وتم تجريده من أسلحته ووسائل الاتصال، وللمفاجأة الجميلة حصلوا على حقيبة متخمة بالدولارات الأمريكية الخضراء!
    وصلنا إليهم بعد نصف ساعة من القبض عليه، قال منير فور أن رآه:
    - "ها نحن نلتقى مرة أخرى يا هاشم!"
    تحلقنا حوله نشفي غليلنا منه فصرخ:
    - "منير! أيها اللعين أوصلتْ بك الجرأة أن تختطفني من بين عائلتي و..."
    قاطعه منير بسخرية:
    - "أين كنت ذاهبًا؟"
    قلّب بصره فينا قائلاً:
    - "في عملٍ فلدي موعد"
    قال مصطفى:
    - " موعد عمل في الأردن.. أليس كذلك؟"
    شحب وجه هاشم وقال متوترًا:
    - "عن أيّ شيء تتحدثون؟"
    سحبت منير من ذراعه على جنب وقلت له:
    - "لن نستطيع العودة لمكان عشيرة هاشم بطبيعة الحال"
    - "سننقله إلى قرية يقيم فيها أحد رجالي منعزلة نوعا ما، ويمكننا استجواب ذلك الوغد كما نريد"
    وافقت على الفكرة، كان هاشم ينظر حوله كفأر وجد نفسه في مصيدة قاتلة!
    - "اطلقوا سراحي فلو علم الزعيم..."
    قاطعه منير قائلاً:
    "لو علم الزعيم بأنك من وشى بابنه منذ سنوات، وأنك حاولت- من يأسك- القضاء عليه بعد إفلاته من مقصلة الموت، وأنك كنت تطمح للزعامة، وأنك كنت تنوي الهروب؛ فصدقني لن تتبجح بعشيرتك كما تفعل الآن!"
    - "من أخبركم بهذه الأكاذيب؟"
    كان يصرّ على أسنانه بغيظ، لكنه لم يجد ردّا ولا جدوى من الاستمرار، ويبدو أنّ ثقتنا هذه قد خلخلت توازنه النفسي فقال بانكسار:
    - " تريدون معرفة مكان الأسرى.. اليس كذلك؟"
    اقتربتُ منه، وقلت بهدوء:
    - "هو ذاك!"
    - "سأخبركم بشرط ألا تخبروا زعيم القبيلة بسرّي، وتعطوني حقيبة أموالي"
    قلت وأنا أتبادل نظرة مع منير:
    - "فليكن"
    - "الأسرى موجودون في....."
    وأدلى بعنوان ومنير يقول بحماس:
    - "إنّي أعرف هذا المكان!"
    - "لا يوجد من لا يعرفه!"
    وجّهت حديثي إلى هاشم:
    - "سنترك رجلين لحراستك، ولو ثبت تلاعبك وكذبك فسوف يقتلانك! مفهوم؟"
    أومأ برأسه مؤكدا صحة معلومته .
    ***
    كان القصف الأمريكي يملأ الأجواء؛ ويمنع تقدمنا حين توقفنا لأخذ قسط من الراحة، وعلى أضواء النار المشتعلة لمحت عليًّا يخرج دفتره الخاص بالرسوم، ويمرّر قلمه على إحدى الصفحات!
    - "ماذا تفعل يا علي؟! هل تراك ترسم لنا حكاية جديدة أيها الرسام البارع؟"
    - "كنتُ أريد أن أكون رسامًا.. لكن والدي رفض بحزم!"
    يبدو أنّ نظرتي الهادئة استفزّته؛ فرفع أصابعه في وجهي بقوّة:
    - "هل تعلم أنّه كان يحرق أصابعي بالنار حتى أنسى ذلك؛ بحجة أنّه حرام ولا يجوز؟!"
    كانت قصة لا يملّ عليّ من تكرارها وكأنّها متنفسا له.. لاحت الصورة بشعة في ذهني؛ فأصابعه تحمل آثار الحروق بوضوح، وشعرت بكمِّ الحقد المكبوت في أعماقه على ظروف لم يتقبلها أو يتحملها، وحلم وَأَدَهُ أبوه في مهده قبل أن يعبّر عنه! لكني أخطأتُ إذ ظننت أنّ توبته كانت سبب صمته، حاولت تغيير مجرى الحديث:
    - " أبليتَ بلاءً حسنًا في هذه الرحلة "..
    - "لم أكن أعلم أنّي سأواجه ما واجهت!"
    ربتُّ على كتفه بموّدة:
    - "هوِّن عليك يا عليّ"
    ابتسم ابتسامته الغامضة من زاوية فمه:
    - "أنت مخطئ.. هل تظنني أشكو؟! أنا سعيد بما يحدث!"
    اتّسعت عيناي بدهشة؛ فتابع بشيء من الاعتداد بالنفس:
    - "منذ طفولتي وأنا أحقق ما أريد بالكذب والدهاء والمراوغة، لم أعتد أن أكون في مواجهة الخطر مباشرة، وأن أحارب الشرّ بشجاعة!"
    ذلك الشرّ الذي يبدو أنّ عليّ يتوقعه بلوحاته قبل حدوثه، صمتَ وعاد يتأمل في دفتر رسومه...
    حيّرتني تلك الرسوم كثيرًا منذ تلك الليلة التي رأيتها مع فهد، الذي لم أكن أتخيل حين عرفتني أميرة به أنّي سألتقيه ثانية، وفي مثل تلك الظروف العجيبة!
    ***

    تعليق

    • سعد فهيد العجمي
      أديب وكاتب
      • 02-12-2015
      • 54

      #3
      شتاء 1991
      تحررت الكويت؛ وبدأت ورشات الإعمار تجرف كل آثار الغزو العراقي ومخلفاته، لكنها وقفت حائرة أمام آبار النفط المشتعلة، التي تملأ السماء بغيوم سوداء تحجب أشعة شمس الظهيرة؛ لتحولها إلى ليل!
      كنت قد تركت العمل في الصحافة، وقد تغيرت شخصيتي بعد الغزو الذي بدّل مفاهيم القومية لدي، وكان لموت والدي وعشرتي مع العم ناصر تأثير كبير عليّ، و بدا واضحًا تأثري بطريقة ملبسه وكلامه وسواكه؛ لتصنع مني جاسم جديدًا، ومن ثمّ فقد أصبح العمل بسنة النبيّ -محمّد صلّى الله عليه وسلّم- هو الأجدر بنظري من تقمّص الشخصيات؛ فتركت لحيتي تأسيًا به، وأخذت أقرأ بهمّة عالية الكتب الدينية، المهتمة بالفقه والتاريخ الإسلامي، ولم أكبح جماح الجدال مع من يخالف ثقافتي المكتسبة الجديدة، ولو كان الشيخ عبدالقادر نفسه !

      كان من تبعات الغزو وأحداثه ألا أعود لتلك الأناقة المفرطة، التي كنت أحبّ تقليدها أينما صادفتها، شيء ما استقر في أعماقي وألهمني أن أحافظ على لحيتي، وستعلمون السبب يومًا ما!
      في تلك الفترة تزوجت من سارة ابنة العم ناصر، وأسكنتها في منزلي بسلوى، بينما استقرت أمي وإخوتي مع شقيقي سليمان في منزله بالقرين، بعد الدمار الذي طال جزيرتنا الجميلة.
      عادت بي الذاكرة إلى اليوم الذي تقدمت فيه لطلب سارة من والدها، وقد رأيت فيها الفتاة البريئة التي نشأت بعيدًا عن مغريات الدنيا ومفاسدها، ورغم أنّي غرقت في لهو الدنيا لسنوات قبل التزامي مع العم ناصر، إلا أنّ رغبتي كانت شديدة بأن تكون أمّ أولادي من تربية بيت هذا الرجل!
      كنت قد كسبت المزيد من ثقة العم ناصر بي؛ فلم يتردّد في الموافقة على طلبي رغم أنّه كان من أصول قبلية، وتعتبر موافقته هذه في قبيلته بمثابة وصمة، وكذلك سبق أن اعتُبر تزويجه لعائشة من عبدالقادر؛ لذلك كانت مقاطعة أبناء عمومته له حاسمة.
      وافقت سارة على زواجي بها أخيرًا بعد طول ممانعة؛ ورضخت لإرادة أبيها بعد أن أخفقت في التهرب من زواج لا تريده، ورفضته بإصرار عندما شاهدت لحيتي الطويلة، ولا أخفيكم أني كنت على استعداد لحلق لحيتي لو أنّها أصرّت على الرفض؛ كي أضمن موافقتها!
      قالت لها صديقتها ذات يوم:
      - "ها قد تزوجتِ من رجل متدين أخيرًا وخالفتِ قناعاتكِ!"
      - "مُكرَهٌ أخاك لا بطل! هذه إرادة والدي.. ثم إنّ تديّنه خفيف!"
      - "كيف يكون التديّن مخففًا؟ لم نسمع بهذا من قبل!"
      - "هو لا يتشدّد معي كما يفعل والدي، ويشجعني على الخروج إليكن.. بل ويسمح لي بقيادة السيارة."
      - " لكنك لم تكملي تعليمك الجامعي كما اتفقنا!"
      خفضت رأسها بحزن؛ فتداركت صديقتها الأمر:
      - "نحن نجتمع يومًا في الأسبوع عند إحدانا ليستمر تواصلنا، هلّا شاركتِ معنا؟"
      - "أجل سأحدث زوجي بالأمر، بلغي الصديقات تحياتي"
      استغربت الأمر حين استأذنتني في الذهاب لصديقاتها؛ فأنا لم أفكر في منعها يومًا من زيارة أو خروج، كنت أشعر بحاجتها لنزهة أو زيارة صديقة أو تسوق من خلال عصبيتها المتزايدة، وتعاملها القاسي مع الخدم؛ فلم تكن تغفر هفوة ولا تحتمل أيّ تقصير أو تأخر في تلبية ندائها.
      في الحقيقة كان انشغالها عنّي يسرني؛ فعبء الالتزام بقيود العائلة كبلني وحصر تحركاتي، وأنا بطبيعتي لا أستطيع الهدوء ولا أهوى الاستقرار، وقد أصبح العمل الدعوي ومركز التاج شغلي الشاغل للوصول إلى هدفي! لطالما تمنيت أن أكون العم ناصر ذاته، فلربّما كان ذلك هو تاجي المنشود!
      واقترب تحقيق الحلم؛ فقد توالت الأحزان تباعًا على عمّي ناصر- ذلك الرجل الصلب؛ فأقعده المرض، وانقطع عن ملازمة التاج وقد هدّت الأحداث قواه؛ كقطرة ماء انصبّت على مدى الأيام على صخرة صلبة فنخرتها! في تلك الآونة أحببت الإقامة في التاج، وفي حجرة العمّ ناصر بالذات!
      ناداني ذات يوم :
      - "أنت من اقترحت تسمية التاج على المركز الديني، وعليك أن تتابع الرسالة وتهتمّ بطلبة العلم الشرعي"
      كنت قد اقترحت الاسم لغاية في نفسي، ولسعادتي فقد وافق يومها -بلا تردد- بتسميته مركز التّاج، بدلاً عن تلك الجملة الطويلة التي كان يحملها:
      ( المركز الدعوي للعلوم والدراسات الشرعية)
      استدركت فورًا:
      - " وتلك أغلى أمنياتي يا عمي! ستكون المزرعة كلها في عهدتي وتحت ناظري"
      - "والمكتبة.. لا تنسَ المكتبة التاريخية؛ فهي إرث العائلة، وكنز التّاج الثمين!"
      ساعدني وجود الشيخ عبد القادر، رغم أنّه ابتعد عني لسنوات مضت؛ انتقلت أنا فيها إلى مراتب أعلى، وعملت لصالح السفارة العراقية، وسعى هو أيضًا لتأمين نفسه؛ فاستلم إدارة مطبعة خاصة لأحد الكويتيين، في تلك الآونة ازداد التزامه عند العم ناصر، و تزوج خلالها ابنته الشهيدة عائشة، ثمّ بات بعدها يمضي أوقاته ما بين مركز التاج والعناية بصحّة الرجل المريض.
      نسينا أو تناسينا سنوات الجفاء، وما كان بيننا من تنافس خفي للوصول إلى غاياتنا. كان في الماضي يتقرب منّي بإلحاح، لكن الآن انقلبت الأدوار وأصبحتُ في هذه المرة تابعًا له؛ بحكم مكانته و علمه، ومع ذلك لم يعاملني مثلما كنت أعامله، بل أوكل لي مهمّات جسيمة؛ فقدّمني لمن يعمل معهم بشكل مغاير للحقيقة، محرّفًا تسمية وهدف التاج في توجيه الشباب طالبي العلم الشرعي، وقد وافقت لأسباب ستكشف في حينها!
      ***
      فهمت مغزى هذه المقولة: ليس من الجميل أن نعرف كلّ شيء.. ففي جهل بعض الأمور لنا.. راحة!
      شيء ما في أحاديث عليّ وتصرفاته المريبة جعلني أسعى إلى المقهى الخاص به حيث يعمل فهد، الذي استقبلني كعادته فرحًا بابتسامة واسعة ضاحكة، تكاد تحتل نصف مساحة وجهه، وكأنّ صورة أميرة التي يحبّ تنطبع في ذاكرته كلما رآني؛ فيُقبل ببنيته التي أصبحت ضئيلة، والتقوس الواضح على ظهره كأنّه أمضى عمره منحنيًا، وببشرته المصفرّة؛ بفعل المكوث في الظل والظلام بعيدًا عن ضوء الشمس.. يذكرني شكله بأحدب نوتردام في ضعفه وصدق مشاعره!
      - "مرحبا بالفنان العظيم! أرنا يا فهد ماذا رسمت لنا اليوم؟"
      رحّب بي بطريقته الخاصة تلك وهو يعرض علي آخر رسومه.. لست عاطفيًا بطبعي؛ فقد تعودت الغلظة منذ نعومة أظفاري، بل قل أنّي تعلمت قسوة القلب، إلا أنّ شيئًا ما في منظر فهد وهو منكبّ على رسومه، ومنهمك في إبراز تفاصيلها بانشغال تام يحرك في أعماقي إحساسًا.. هو أقرب للشفقة!
      فتح دفاتره بسعادة ليريني فنه الجميل، وراح يقلب أوراقه، أثارت رسومه الجديدة اهتمامي؛ كانت أكثر إتقانًا، وفيها إيحاءات ورموز كثيرة، لا بل كانت غريبة نوعًا ما!
      توالت الرسوم العجيبةأمامناظري!
      في تلك الليلة قررت الحصول عليها.. مهما كلفني ذلك!
      ***
      التعديل الأخير تم بواسطة سعد فهيد العجمي; الساعة 06-12-2015, 12:49.

      تعليق

      • سعد فهيد العجمي
        أديب وكاتب
        • 02-12-2015
        • 54

        #4
        اعتدت في صباي أن أكون كالخفافيش؛ فأنشط في الليل وأغدو أسرع حركة؛ لذا عدت إلى المقهى تحت جنح الظلام، وتسلّلت محاذرًا لفت أنظار تلك الطغمة المخدَّرة، المتجمعة في ذلك الركن المظلم؛ كان هدفي الوصول إلى دفتر فهد ورسومه دون أن يشعر بي أحد، لكن حساباتي جانبت الصواب!
        كان الظلام مسيطرًا على المكان، وظلال أنوار تتسلّل من الخارج، تحركوا كالأشباح.. أشكال بلا ملامح.. اقترب مني أحد هؤلاء الذين يدعون أنفسهم عبدة الشيطان؛ يبدو أنّ وجودي قد استفزّه، ثم لحق به آخر.. ثم آخرون.. راحوا يتحرّكون حولي بشكل دائري، كنت أعرف أنّ للدائرة عندهم قوانين، وهي من أهم طقوسهم، تسمّرت في مكاني وقلبي يدقّ بعنف لم أعهده من قبل، لكن فجأة وبدون مقدمات توقفوا وابتعدوا؛ حين تحركت سياراتهم في الخارج.
        (لابد أنّ وراءهم مهمّة ما!)
        لم ألمح فهد بالقرب؛ فتحركت بسرعة وخفّة وقلبي يزداد خفقانه، فسحبت من دفتره الرسوم الأخيرة وخرجت مسرعًا لا ألوي على شيء، واتجهت إلى مكتبي حيث أكون وحيدًا؛ لأدرس الرسوم على مهل، وأحاول فهمها وفكّ طلاسمها!
        تناولتها أتأمل تفاصيلها برويّة.. أمامي خمس لوحات متقنة الرسم بشكل يثير العجب، تحمل كل واحدة منها حكاية ما، لا أعرف كيف وصل خيال هذا الفتى غير المؤهّل لعبقرية تصوّر أمورًا خطيرة إلى هذا الحدّ!
        آلمني أنّي - وربما لمرات نادرة- لم أكن فطنًا بما يكفي لاتّقاء شرّ ذلك السيل الهادر من الأذى، والذي عمَّ الكلّ بلا استثناء!
        قلّبت الرسوم كثيرًا بنظري، هناك رسم فيه شيء مريب أثار اهتمامي.. تلك زوجي سارة؛ التي أميّز ملامحها مهما حاول طمسها أو إخفاءها، وعلامات مبهمة حولها .. في يدها علبة دواء! أمر غريب! لا أعرف أنّ سارة تتعاطى أيّ نوع من الدواء، وهي لا تعاني من شيء، اللهمّ إلا من صداع يداهمها مرّات فجأة، ثم يختفي بسرعة!
        (علبة دواء، وفي أعلى الصفحة ساعة تشير إلى تاريخ اليوم، وإشارة x باللون الأحمر..) لها دلالتها و... يا إلهي سارة في خطر!
        ألقيتها من يدي وسارعت إلى البيت.
        ***
        دخلتْ سارة وبيدها كوب الماء، وحين همّت بتناول جرعة الدواء أخذتها بقوّة منها، وسألتها بلهجة حادّة:
        - "منأينحصلتِعلىهذاالدواء؟"
        استشعرتالخطرفيلهجتي:
        - "من صديقتي؛ وقدنصحتنيبهكلماداهمنيالصداعالشديد."
        أدركتْ أني لم أصدقها؛ كانت عيناها تكذبان؛ فقالت بانكسار:
        - "أعطاه لي عليّ!"
        عليّ! أي لعنة حلّت بذلك الشاب؟! وكأنّه الدعيدع.. كتلة من الحجر تتحرك، تخاله إنسانًا.. وحين تقترب منه تجده صخرًا صلدًا؛ تحجّر فيه كل شيء حتى الدمع!
        رحمة الله ساقتني إليها اليوم، لا أدري ما كان بداخل العلبة بالضبط، وقفت أنظرإليهامذهولًا؛ وهي تحكي بلسانها اعترافات بدت غريبة جدًا!
        منذ سنوات نصحها عليّ بالتمارض؛ لتهرب من الزواج مني حين وافق والدها على طلبي دون مشورتها، علّمها كيف تستخدم الدواء للتظاهر بالمرض؛ فيبدو عليها الوهن.
        - "أوَ فعلتِ؟! ومن أين أحضرتِ الدواء؟"
        - "هو بنفسه كان يحضره لي كلّما نفذ."
        - "ألا تعلمين أنّه يسبب الإدمان؟"
        - "لست أدري.. لكني فعلاً لا أستطيع الاستغناء عنه!"
        كان هذا آخر ما يمكن أن يخطر لي ببال: زوجي مدمنة!
        أحمد الله أني أنقذتها قبل أن يودي بها، أصبحت على يقين أيضًا أن ذلك كان سببًا قويًا في عدم إنجابنا!
        يا إلهي! كم من الشرّ المطلق يحمل عليّ في جوفه لمن حوله!
        وماذا تخبئ لنا أيضًا يا عليّ؟ وما عساها أن تكشف الرسوم الأخرى من مصائب؟
        ***
        حين عرفتني أميرة بفهد؛ لم تكن تعلم أنّه يومًا ما سيرسم بأنامله المبدعة تلك.. نهايتها!
        أرتني يومها بعض رسومه المدهشة، وكيف علَّمته أن يرسم بدقّة بمجرد أن يسمع أو يرى شيئًا؛ فيتحرك خياله الخصب ويرسم أدق التفاصيل ببراعة تامة، ولقد رسم فهد.. وأبدع في الرسم!
        مسكين فهد رسم بيده الشرّ بوحي من عليّ ودون وعي منه! ليتني كشفت الأمر قبل ذاك التاريخ.. لكنّه القدر !
        صحيح أنّه لا يمكن لأحد أن يغيّر قدره، لكن لربّما كانت النهاية تغيرت- كما يغير الدعاء أحوالنا- لو أنّي نجحت في فكّ رموز الورقة التالية:
        أميرة!
        بدأ خالد يتلو دوره من ورقة في يده، أمام إحدى تلميذاته في معهد الفنون المسرحية، تلعثمت الطالبة كثيرا، وأخرجته من تقمّصه للدور.
        تابعت أميرة تداعيات المشهد أمامها، شيء من الغيرة تسلّل إلى قلبها.. لمحته يختلس النظر إليها بين الفينة والأخرى؛ كانت عيناه تستنجدان بها .. تسارع نبضها وهي تصعد إلى خشبة المسرح لتأخذ الدور؛ وتكمل مشهد الشرفة العاطفي -الذي اقتبسته من قصة روميو وجولييت- وتبثّ مشاعرها!
        وقفت أمامه تحتويه بنظراتها؛ محدّقة إلي صدغين زيّنهما الشيب بوقار.. تابعا الحوار بتناغم رائع.. روت ما فيقلبها ..تجاوب معها بحماس جميل.. لم يكن ما يُعرض تمثيلًا.. كانايتبادلانالحبّأمامالجميع،دونأنيشعربهما أحد!
        كانافقط .. يعشقان!
        ((روميو :
        آه يا جولييت إن كانت نفسك قد فاضت بالفرحة
        مثلي ولديك اللغة القادرة على التعبير الصادق
        خيراً مني؛ فأشيعي في النسمات حوالينا عطراً
        من أنفاسك وليحك لسان الموسيقى الخصبة
        بهجة إحساسك وسعادة قلبينا في هذه اللقيا

        جولييت :
        يصور الخيال بهجة من الأفعال لا الأقوال
        مزدهيًا بمخبره ......... لا بجمال مظهره
        لا يستطيع أن يحصي نقوده إلا الفقير
        أما أنا فقد نما حبّي وزاد عن كل الحدود ))
        كالعادة كان عليّ وسط الطلبة؛ يقتنص الفرصة لرؤية أميرة، كما يفعل المرة تلو الأخرى، لاحظتُ ذلك منذ أن قمتُ بتقديم أميرة لعائلتي الجديدة في إحدى المناسبات.. تابع عليّ المشهد؛ وعيناه تدرسان تعابير وجهها!
        للحظات.. حين يراها يتسلّل نبض خفيّ بين جنباته، رغم الغلظة والجفاء القابعين في أعماقه! وبدهائه المعروف، وحاسة الترقب التي كبرت في داخله فهم عليّ المشهد كما هو.. لا كما يفهمه الآخرون!
        لن تفطن أميرة له أبدًا.. وخالد بينهما! أغلق أبواب قلبه في صمت؛ إذ بات يدرك أنّها لن تكون له بأي حال!
        ***

        تعليق

        • سعد فهيد العجمي
          أديب وكاتب
          • 02-12-2015
          • 54

          #5
          وكأنّ القلوب حين تتعانق بلقاء المحبة؛ تتضافر الأحداث فتذلّل لها الصعاب لتلتقي!
          - "أميرة لم تفلح بإقناع والدتها بالموافقة على زواجنا"
          جاءني خالد يحمل همومه حين أخبرته أميرة بهذا، وأدرك بحدسه أنّ أمامه مواجهةصعبة، اتفقت معه ومع سارة وعليّ أن نكون نحن أهله في مقابلة أمّ أميرة دون وجود والده؛ إذ كان المرض قد أقعده وأصبح لا يغادر كرسيه المتحرك، بعد سلسلة من الجلطات التي أصابته وجعلته لا يتحرك إلا بصعوبة!
          توجهنا بعد يومين أنا وسارة وخالد -على موعد - لزيارة أمّ أميرة في بيتها، استقبلتنا خالة أميرة- التي تصغر أمها- بحفاوة بالغة ودعتنا إلى غرفة الاستقبال، بلمحة سريعة كوّنت فكرة عن المستوى الجيد للبيت وأهله، حيث تجتمع البساطة والأناقة معًا في الأثاث والستائر واللوحات، التي تزين الجدران بذوق وحسٍ فني مرهف.
          في المقعد الكبير جلست جدّة أميرة لأمها، سيدةمن أصل فارسي عجوزطاعنةفيالسنّ تبدوملامحهاالطيبة كعنوان لنفسها الصافية البريئة، اشتهرت في محيطها بالعلاج بالأعشاب، وجلست ابنتها إلى جوارها؛ وراحت تكرّر عبارات الترحاب ريثما حضرت أميرة، التي دخلت على استحياء بوجه ذابل أرهقه القلق، بعد دقائق دخلت أمها منتصبة القامة في اعتداد، رحّبت بسارة ترحيبًا جميلاً، وألقت علي نظرة سريعة مترددة، ثم نظرت إلى خالد قائلة:
          - "تفضلوا بالجلوس".
          بادرتها سارة معتذرة أنّ والدها مريض، ومرضه يمنعه من الحركة لذا تخلّف عن الحضور معهم، وأوكل المهمّة لها ولزوجها جاسم.. مشيرة إلي..
          بترت ترحيبها وهي تحملق في وجهي مذهولة:
          - "جاسم! أنت جاسم الغريب؟"
          - "أجل يا سيدتي، أنا جاسم الغريب."
          أردفتُ قائلًا لأذهب رهبتها من لحيتي الطويلة:
          - "ما زلتِ كما عرفتكِ امرأة قوية الشكيمة تعرف ما تريد."
          تبسمت بكبرياء، وجلست في مقعد مقابل وهي ما تزال تحدّق في وجهي:
          - "لكن ما الذي غيرك؟ منظرك يوحي بالتشدّد!"
          - " اللحية؟ هي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وأنا مسلم فعلي الاقتداء به."
          - "ما عهدتك تهتمّ بالمظاهر الدينية كثيرًا!".
          نظرت إلى ابنتها بطرف عينها نظرة ذات مغزى؛ فهمتها سارة:
          - "ولكن بوجود التفاهم والمحبة يتوارى الخلاف المذهبي... "
          تجاهلت العبارة، وتابعت مخاطبة ابنتها:
          - "وهل تعلمين أن والده هو ناصر الفايز المتشدد دينيًا؟"
          ثم أشارت إلي ساخرة:
          - "انظري ماذا فعل جاسم بنفسه؛ كي يحوز على رضا ناصر لتزويجه ابنته!"
          تدخلتُ لأقطع حوار الأم وابنتها؛ عندما وجدت الحوار قد طالني :
          - "هذا كان بقناعة مني، ولا أجد سببًا لإصراركِ على أن تجعلي لحيتي عائقًا بين عاشقين، ألا تذكرين أنّي والشيخ عبدالقادر وقفنا معكما ضد ياسر وزوجه: خالتي مريم!"
          اعترضت أميرة وقد اكتفت من المجادلة العقيمة:
          - "أمّي! الزمن قد اختلف، وأبي -رحمه الله - كان طيبًا محبًا لكِ ".
          تكلمت الأمّ الكبيرة مهدئة للأجواء:
          - "نحن لم نمنعك في السابق والزمن تغير يا ابنتي، امنحيهما الفرصة"
          تابعت عنادها في إصرار:
          - "لن يتمّ الأمر بسهولة"
          ثم استدركتْ وقد شعرت بكثرة الضغوط عليها من الجميع:
          - " أنا بحاجة لاستشارة السيد!"
          وتقصد رجل الدين في المذهب الشيعي.. انسحبت أميرة غاضبة، وأحسّ خالد أنها تضع العراقيل في طريقه؛ فنهض وسارع بالخروج وتبعته فورًا.
          لكن.. حدث مالم يكن في الحسبان!
          أسرعت أميرة إلىالشرفة حين انصرف خالد، وقد أدركتْ أنّه إن خرج مرفوضًا فلن يعود، انحنت على سور الشرفة ونادته بجزع:
          - "خالد لا تذهب .. أرجوك ! "
          التفت خلفه رافعًا نظره للشرفة و تعلقت عيناه بها، سارعت أمّها لتمنعها وجذبتها إلى الوراء؛ فنفرت من قبضتها؛ ولم تشعر بنفسها إلاوهيتهويمن أعلىفي لحظة نحوه! أغمضت عينيها، وبحركةعفوية تلقاهابأحضانه.. تشبثت بعنقه وأحاطته بذراعيها.. وقف الجميع ينظر في ذهول لعناق المحبَّين.
          موافقة السيد أصبحت حتمية؛ وحسمالأمر.. وحكمبزواجالعاشقين!
          وتم الزواج.. في الحقيقة كان ذلك خارج حدود علم الشيخ ناصر ومسامعه!
          ***

          تعليق

          • سعد فهيد العجمي
            أديب وكاتب
            • 02-12-2015
            • 54

            #6
            أحيانًا تطغى آمالنا وطموحاتنا على الكثير من المبادئ التي تعلمناها، أو فرضت علينا بالقوة!
            دخلت أميرة عشّ الزوجيةبحبّ ملأ كيانها، وعاشت فرحًا لم تعرفه من قبل؛ فأسبغت على خالد كل ما اختزنته من مشاعر فياضة، وارتشفت من راحتيه الحنان الذي افتقدته في رحيل أبيها.
            وقفت خلف النافذة ككل يوم تنتظر عودته، سرحت بخيالها في تلك الأيام التي كانت تنتظر حضوره إلى المسرح؛ ويخفق قلبها بعنف حين تلمحه من بعيد، وفي مخيلتها صورة والدها المعلقة على الجدار وبجانبه صقر الرشود، وكأنّها وجدتهما أخيرا في خالد!
            لم تفطن لوصوله؛ فتح خالد الباب بمفتاحه وتسلل خلفها بهدوء، شعرت بأنفاسه في الشقة فجرت إليه تعانق فيه روحها!
            على مائدة الغداء تطعمه بيدها؛ يضحكه إحساسه بالطفولة من جديد، ومع قهوة الصباح تهديه أشعار حبّ تتغلغل في مسامه، ويحلّق معها كل يوم في عالم من الوفاء ملأ حياتهما رضا، وعمر قلبيهما سعادة.
            في الصباح قرأ على المرآة ما كتبته بقلم أحمر الشفاه:
            وَبِي إِلَى نِسمَةِ عِطرٍ حَنِينٌ
            تَفوحُ ، إذَا قُلتُ يَا.. خَالِدَا

            فأكملها خالد قبل أن يخرج :

            تَنفّسِي حُبّي وَحِين اللّقاَء ِ

            أمِيرَتي، لنَا اللَّيل ُمَوعِدَا..
            شاركته أميرة هوايته في أجمل أوقاتهما، تقاسما معًا الأحلام وسويعات الصفا، رسما حدود المستقبل، وفي بعض الأمسيات كانا يستعيدان معًا- و بسعادة- تلك الذكريات.
            لكن لا أحد يعلم خبايا القدر!
            ***
            اجتمعنا في بيت خالد ولأول مرة منذ زمن كعائلة بعيدًا عن أنظار العم ناصر، جمعتنا فرحة خالد وأميرة للتهنئة والاطمئنان عليهم، كانت الشقة صغيرة وأنيقة؛ فيها ملامح حميمية تجعلك تشعر بمدى سعادة ساكنيها!
            كانت معي سارة وأمّي التي أصبحت تتردّد علينا كثيرًا؛ بعد أن أصبحت علاقتها بسارة قوية؛ كانت كلتاهما في حاجة إلى الأخرى، فأمّي ترى فيها البنت التي لم تلدها، وسارة تجد فيها الأمّ التي فقدت حنانها صغيرة!
            جاء عليّ بعدنا بقليل فرحب خالد بقدومه ترحيبًا كبيرًا، استغربت سارة الأمر فوضح لها بابتسامة عريضة تملأ وجهه:
            - "لأخي عليّ الفضل في التقائي بأميرة؛ فهو من شجعني سرًا للالتحاق بالمعهد المسرحي حيث التقيت أميرتي، وهو من جهّز لنا شقتنا هذه."
            استدرك وهو يلتفت إليّ ضاحكًا :
            - "وزوجكِ من شجعني على خطبتها!"
            - "ولمَ لمْ تشجعني يا عليّ للالتحاق بالجامعة سرًا لأكمل دراستي؟"
            سألته سارة بلهجة ساخرة تشوبها المرارة، وكأنّها فتقت جراحه القديمة، فأجابها من زاوية فمه:
            - "والدكِ كل شيء عنده ممنوع.. كلّ شيء حرام! الشيء الوحيد المسموح هو الأكل والنوم! لو يعلم أنّ خالدًا كان يدرس المسرح لوقع ساكتًا! "
            تداركت سارة بسرعة:
            - "رغم حبّي الشديد له، لكن من حسن حظي أنّ زوجي ليس متعصبًا مثله!"
            - " ومع هذا أراكِ كما أنتِ لم تتقدمي خطوة؛ تخرجين بالنقاب رغم أنكِ تقودين سيارتكِ بنفسكِ، وحياتك تمضي على نفس الوتيرة المملة!"
            انتقدها عليّ بقسوة، كان خالد وأميرة يتابعان الحديث بصمت، ويبتسمان كلما التقت عيونهما، وكأنّها تقول ( لقد اجتزنا ببساطة كل هذه العقبات!).
            تدخلتُ في هذا النقاش العقيم:
            - "وماذا تريدها أن تفعل أكثر من هذا؟ لا تنسَ أنكم من أسرة محافظة!"
            - "هذا لا يمنع أن تدرس أو تسافر، سارة محرومة من كل ما تتمتع به صديقاتها، خاصة التعليم العالي."
            تحمّست سارة لفكرة السفر:
            - "صديقتي منى تدعوني للسفر معها إلى أوروبا الأسبوع القادم، وأنا في حيرة من الردّ إلى الآن.."
            أخذتني الحميّة لأباري عليّ في تشجيعها:
            - "وما يمنعكِ حبيبتي؟ يمكنك السفر متى شئتِ ."
            كتمت ضحكتي وأنا أرى أمّي تضرب بيدها على فمها لتكتم شهقة؛ محتجّة على كلامي، وترفع حاجبيها بقوة وهي تحاول ثنيي بنظرات عينيها عن ذلك!
            أيضًا شجعتها أميرة:
            - "سافري يا سارة لن تندمي، ستعودين بروح جديدة بعد الرحلة، أذكر هذا حين سافرت وأمّي بعد حفل تخرجي؛ كانت رحلة رائعة!"
            سألتني سارة بشيء من الاستغراب:
            - "أتوافق حقًا؟ أتمنى السفر فعلًا.. سأبلغها هذا حالاً "
            ليس عجبًا أنّي وافقت فورًا، بل وللحق وجدته متنفسًا من إلحاحها الدائم لمرافقتي!
            حين أزفَ موعد السفر طلبت مني سارة أن أوصلها إلى المطار، جلست أنتظرها في السيارة، وضعت في المسجل شريط (كاسيت) ورفعت الصوت –كعادتي- أقطع الوقت بسماع نشيد يعجبني، ولكن حين خرجت سارة من الباب كان منظرها صاعقًا! هل تتخيلون معي المشهد؟!
            لقد بلغت بها الجرأة أن تخلع النقاب! للحظات بُهتُّ ولكن لم أملك محاسبتها فلست أنا من فرضه عليها! في الواقع منذ زمن لم نعد أنا وسارة نشعر بأننا عائلة؛ فقد انشغلت هي بالسفر والترفيه عن نفسها، ورضيت أنا- على مضض- بغية التفرغ لأعمالي في مركز التاج وتحقيق طموحي في الوصول إلى قمّة ما، لم أكن أهتم للطريقة ولو كانت على مبدأ (الغاية تبرّر الوسيلة!)
            ***

            صحت أميرة من نومها على صوت جرس الباب، فاتجهت لتفتحه مستغربة زوار الصباح الباكر! لم تجد أحدًا، لكنها لمحت ظرفًا كبيرًا أسمر تحت عقب الباب، تناولته ووضعته على الطاولة، ثم أحضرت قهوتها وجلست ترتشفها قرب النافذة. مدّت يدها إلى الظرف وفتحته.. فجأة اعتصر الألم قلبها ودارت الدنيا بها!
            صور كثيرة تجمع خالد مع فتاة جميلة في أماكن شتّى، وبتاريخ قريب! انهار شيء ما في أعماقها ( أبعد كل هذا الحبّ يا خالد؟!).
            لم تصدق ما رأت عيناها عادت تمعن النظر، أرادت أن تكذّب عينيها؛ فقد أقسم لها مرارًا أنّه لم يعرف فتاة غيرها! دارت في الشقة تشدّ على قبضتيها بعنف؛ تريد أن يؤلمها شيء أكثر من هذا، لكن لم تفلح في جلب بعض الهدوء لنفسها الثائرة! ولم تعد تطيق صبرًا. ألقت معطفها على كتفيها وقبل أن تخرج أمسكت بقلم و خطت أناملها على ظرف الصور بدون تفكير:
            (لماذا؟! يا من أحببته أكثر من روحي!)

            تناولت مفاتيح سيارتها وانطلقت على غير هدى . راحت تتزاحم في رأسها أفكار بغيضة! قادت سيارتها بلا اتجاه.. توالت الصور أمام ناظريها وعيناها تجولان في التفاصيل من خلف الدموع!
            لم تسمع أبواق السيارات ولا صرخات التحذير! آخر صورة كانت تلك الحافلة الكبيرة المركونة قرب الرصيف... وأغلقت عينيها إلى الأبد!
            صدمة مروّعة!
            بدأت أفهم سرّ الرسوم القاتلة ولكن بعد فوات الوقت، وعسى أن أفلح في منع ما تبقّى من لوحات الإجرام هذه!
            يبدو أنّه كان يطمح لفتنة بين الزوجين تحطم سعادتهما، ولكن لم يخطر له ببال أنها قد تودي بحياة أميرة! المفاجأة التي ملأتني قهرًا أنّ موت أميرة كان موجودًا في الرسم الثاني!
            ( فتاة تبكي بحرقة خيانة زوجها، وتضغط أصابعها بقوة حول رقبتها التي وضعت علامة x عليها)
            أحزنني موت أميرة فقد كنت أعتبرها بمثابة ابنتي، بل جميعنا حزن لفقدها؛ انهارت سارة وحملناها إلى المشفى في حالة إغماء، كانت تهذي بفعل الصدمة؛ فقد أحبت أميرة في تلك الفترة القصيرة، وكأنّها رأت فيها الحرية التي كانت تصبو إليها.
            حُزن خالد كان موجعًا ولم نفلح في مواساته! ومن يملك أن يريح ضميره من كارثة ظنّ أنّه قد تسبب بها؟ ومن يعوضه سعادة واستقرارًا وحنانًا افتقده منذ وفاة أمه؟
            حمل جعبة آلامه ورحل بها إلى مكة؛ يلتمس بعض السكينة لروحه في رحاب بيت الله الحرام وما حوله، شجعناه على هذا التغيير الطيب، لعل الأجواء المباركة تجلب له السلام والطمأنينة.
            ***

            التعديل الأخير تم بواسطة سعد فهيد العجمي; الساعة 07-12-2015, 14:03.

            تعليق

            • سعد فهيد العجمي
              أديب وكاتب
              • 02-12-2015
              • 54

              #7
              لم يتعلم عليّ أنّ:
              دستور السعادة يبيح التسامح والمحبة والغفران، ويجرم الحقد والكراهية والخذلان!
              دخل فجأة بوجه محتقن لا يحمل أيّ تفسير، ودون أن يلقي التحية خلع سترته غالية الثمن وألقاها على مسند المقعد، ثم انهال بجسده عليه مرددًا بسخرية:
              - (مستر إكس )
              نظرت إليه مستغربًا فقال قبل أن أسأله:
              -"استقبلني صبيان الحيّ بالجري أمامي وهم يصرخون بمكر : مستر إكس.. مستر إكس! كدت أضربهم كما فعلت في المرات السابقة!"
              - "ماذا يقصدون بها؟"
              استغربت ضحكه المفاجئ:
              - " لقد سمعوها من الكبار، يقصدون أن ملابسي الثمينة والمظهر الراقي الذي أبدو به لا يتناسب مع شكلي الذي لا يعجبهم!"
              صمت فجأة حين رأى الرسوم بين يدي؛ وأخذ يهزّ قدمه اليمنى بحركة سريعة، حركة أعرفها في عليّ كلما كان متوترًا، وراحت أصابعه تلهو بقداحته الذهبية، حاولت استنطاقه:
              - "ما بك يا عليّ ؟ماذا تخفي عني؟"
              أجابني بنظرة من زاوية عينيه:
              - "أبدًا لا شيء؛ فقط أخشى أن توهم والدي أنّي أرسم؛ فيعود لحرق أصابعي من جديد! بصراحة لن أحتمل الألم هذه المرة!"
              - "ما هذا القول يا عليّ؟ العم ناصر مريض عافاه الله، وما أظنه قد فعلها عمدًا"
              رفع أصابعه في وجهي مقاطعًا، وهو يضغط على الكلمات:
              - " انظر كيف امّحت بصماتي! هل تتخيل أنّك تحرق أصابع طفلك فقط لأنّه يرسم؟!"
              بدت على وجهي علامات الاستهجان فتابع بحنق:
              - "هل تعلم معنى أنّك تنام وتقوم في خوف من شخص ما؟ هل جربت أن تعيش وحيدًا وسط أهلك؟"
              كان وجهه ينطق بالحقد والكراهية لا أعلم لمن! غيرت وجهة الحديث، كنت مصرًا على اكتشاف خفايا هذه الشخصية التي بداخله:
              -" لكنك تمضي الليالي في السهرإلى وقت متأخر، ولا أصدقاء لديك، لم لا تحاول الانسجام في مجتمع الأهل والجيران؟"
              لأول مرة يجيب فورًا ولا يكون غامضًا:
              - " لم أعتد هذا.. وجدت نفسي أكبروحيدًا خارج جوّ العائلة، وصرت أتجنب أهل الحيّ كي لاأسمع كلمةجارحة منأ حدهم."
              - "ليس الأمر هكذا يا عليّ، حذرتك مرارًا أنك تستفزّهم بمقهاك، وزبائنك غريبي الأطوار، وكما تعلم الناس هنا محافظون؛ لا يتقبلون فكرة مقهى الحرية الذي تديره!"
              انحنى إلى الأمام في جلسته ملوحًا بسبابته أمامي، قائلًا:
              - "وما شأنهم بعملي وبمقهاي؟"
              - "أهل الحيّ اشتكوا كثيرًا خوفًا على أولادهم من الفتنة، ثم فهد يا عليّ! هذا شاب لا يستطيع التفكير فكيف تفاهمت معه؟"
              - "فهد يعمل بجدّ ويطيع أوامري بلا نقاش، وهذا ما كنت أحتاجه."
              - "لكني قربته منك ليكون شريكا لك وليس خادمًا! كيف سخرت إمكانياته لحسابك؟"
              حدّق في وجهي بعينين متسعتين، ثم أطرق في وجوم ولم يجب، كنت أدرك أنه يستغله ويسخره لمقاصده، بل حتى أنّه استغل موهبة فهد في الرسم ليعوض عقدة خوفه القديمة، ويرسم بأنامل فهد وريشته كل الشرّ الذي يضمره!
              لم أندم على عمل في حياتي كما ندمت على تقريب الفتى فهد من عليّ الغامض غموض العتمة! فقد شارك والد فهد عليًا في المحل الذي أنشئ فيه المقهى، بقصد تأمين مصدر رزق لفهد المسكين؛ تعويضًا عن هجره له، وليعتمد عليه في تدبير أمور معيشته، وتأمين مستقبله!
              لكنّي لم أرَ أشدّ من هذا الوضع غرابة!
              كان لفهد نصف المقهى ومع ذلك نجح عليّ بأن يجعله يعمل فيه كنادل!
              ***
              التعديل الأخير تم بواسطة سعد فهيد العجمي; الساعة 08-12-2015, 19:42.

              تعليق

              • سعد فهيد العجمي
                أديب وكاتب
                • 02-12-2015
                • 54

                #8

                صعب جدًا أن يغدو الحبيب عدوًّا؛ فكيف إن كان هذا الحبيب.. ولدك؟!
                تأملت الرسم الثالث.. كان منذ فترة وجيزة مجرد لغز أحاول فك طلاسمه، لكن- وبعد أن رأيته يمثّل أمامي حيًا بكامل تفاصيله- أصبح بوسعي قراءته حرفًا حرفًا!
                ألقى عليّ سترته كعادته فوق ذراعه، و توجّه مسرعًا مشبعًا بالحماس إلى غرفة والده، قال والبهجة تغلب على نبرات صوته:
                - "وضعت الإبل في مرابضها الجديدة، وأريدك أن تذهب معي الليلة إلى المزرعة لتراها بنفسك."
                وافق الوالد فورًا وهو راضٍ؛ فالخروج إلى المزرعة نزهة يتوق إليها، ورؤية الإبل تسرّ خاطره:
                - "عملت طيبًا اليوم، يا عليّ!"
                أحنى رأسه في صمت؛ لقد أثنى عليه والده لأول مرة !
                تجوّل بوالده على كرسيه ذي العجلات في أرجاء المزرعة، التي أفنى عمره في العناية بها وتحديثها، كانت المزرعة مقامة على مساحة كبيرة، تصل إلى أكثر من خمسين ألف متر، وقد قسمت لأحواض لزراعة الخضار على جانب، والسكن والديوانية على جانب آخر، وتوزعت فيها برك الماء، وهناك في أقصاها قسم للحيوانات منها الإبل والغنم ، و قسم للطيور، وأيضًا اسطبل للخيل، وفي الجانب المقابل منه سكن العمال.
                وفي قسم خاص بالطلبة توجد ديوانية، وقسم للنوم، ومكتبة ضخمة تحوي تراثًا قيّمًا من الكتب الدينية، بينما تنتشر أشجار السدر لتكون سُورًا طبيعيًا للمزرعة، بالإضافة الى أشجار النخيل المنتج للرطب، كان العم ناصر فيما سبق يشرف على العناية فيها بنفسه، ولكن بعد مرضه لم يبقَ له إلا الشوق لرؤيتها.
                واصل حديثه بحماس وهو يشرح لعليّ -وكأنه لا يعلم- كيف بنى هذا، وزرع هنا وهناك، وكم كلفه ذلك الصرح، وعليّ يهزّ رأسه موافقًا، وينظر إلى ساعته بين الفينة والأخرى؛ يستعجل الخروج.
                أدخله المبنى، وهيأ له مكانًا مريحًا ليمضي فيه سهرته قائلاً:
                - "استأذنك يا والدي لقضاء بعض مشاغلي، ومن ثم سأعود لأكمل السهرة معك، ولعل جاسم أيضًا ينضم إلينا في المساء."
                - "أحضر لي إذن قبل ذهابك مصحفًا من المكتبة؛ أمضي الوقت معه، ولا تتأخر!"
                أسدل الليل أستاره؛ وبدأ النعاس يغلب الرجل المريض:
                (تأخّرعليّ!)
                سمع من بعيد هرجًاعاليًا، وأصواتًامنكرةتزعق من بعيد فأخذ ينادي،ولكن ما من مجيب!
                ازدادت الأصوات وحشية، وعلا في الخارج صخب وضجيج وموسيقى مرعبة! شيء لا يمكن حدوثه هنا في مزرعته.. يحدث بالفعل! صارت لديه رغبة قوية ليخرج ويستطلع ما يحدث، كان المطرقدبدأيهطل حين تحرك بكرسيه إلى الخارج.
                من خلال الظلام لمح أشباحًا تتراقص من بعيد.. كأشكال الشياطين،راحت تقترب منه شيئًا فشيئًا؛ حتى أحاطت به.. لم يتبين كنهها.. فقد بدت له وجوهًا قبيحة.. أخذت تدور حوله وهي تحمل سيوفًا وسكاكين كبيرة، وفجأة تحولت إلى الإبل.. وفجعه المنظر!
                كانت الإبل تحشرج؛ وهي تتساقط تحت ضربات السكاكين والسيوف بأيدي الأشباح! كانت أصوات ضحكاتهم المخيفة تهزّ كيانه! استمر هطول المطر، و بدأت تتجمع حوله بحيرات من المطر والأوحال.. ودماءكثيرة؛ أدرك أن ثمّة مصيبةأكلت إبله الغالية؛وقضت عليها!
                دقائق أخرى.. وتعالت النار بسرعة هائلة من المكتبة؛ تآكلت الكتب التاريخية بفعل ألسنة اللهب؛ وأكلت كل أحلام العجوز الضعيف أمام ناظريه.. أصابه ما يشبه الشلل في كامل جسده؛ وعجز لسانه عن النطق!
                اختفى الجميع بسرعة كما حضروا! حاول التحرك، لكن لم تساعده قدماه على الوقوف؛وعجزعن التقدم؛فبقي غارقًا في الطين الدامي إلى حين وصولي؛ في موعد عودتي مساءً، ولكنّه لم يكن ككل مساء..
                هناك مأساة تنسج خيوطها أمامي!
                من آخر العتمة لاح ظل عليّ.. يمشي بتؤدة كما هو دائمًا.. هل تراه هو؟ انتظرته، لكنه لم يصل إلي! ازدادت عتمة الليل وتأخر عليّ، اقتربت وحدقت جيدًا.. لم أجد أحدًا.. ثمّة حجر كبير في المكان ولا شيء سواه.. يبدو أنّي أتوهم! استدرت للعودة فشعرت بحفيف خلفي؛ التفت ورائي فجأة .. لم أجد الحجر!
                لبسني الرعب! هل تقمص الحجر عليّ؟ أم أن عليًا قُدَّ من حجر؟!
                (آه يا أمّي، وحكاياتكِ القديمة قِدَم الزمان، وعمر الجزيرة!)
                أسرعت نحو عمي ناصر الغارق في الوحل، أحيانًا وفي لحظات الذعر لا يستوعب المرء ما يرى! تسارع نبضي و أنفاسي، أغمضت عيني، ضجت في أعماقي معزوفة وادي الذئاب؛ تواترت النغمات الحزينة مع اللوحة المؤلمة لترسم حيرتي.. كتردد الأصوات التي تتصاعد في ذهني باكية، شاكية.. اقتربت من العجوز.. انسلّت من أعماقي آهات مؤلمة، مع الأنغام الملحّة في شجن؛ وأنا أنتشل جسده من الوحل!
                كان كل همّي هو الخروج به من هنا.. انسحب اللحن بهدوء؛ وانسحبت معه مبتعدًا عن تلك الكارثة، وأنا أحمله على كرسيه لأعود به إلى البيت.
                انهارالجميع عندما شاهدوامنظروالدهم المزري، وسارعوا بإدخاله المشفى للعلاج، لم يعلّق أحد على هذه الكارثة سوى عليّ؛ قال: أنّ ذلك من فعل الشياطين!
                هي شياطين الإنس بحق؛ و كان شيطانهم الأكبر بيننا دون أن ندري!
                تلك كانت الورقة الثالثة، والأشد إيلامًا لقلب الرجل المريض، مزيج من الخيانة والعقوق والخذلان، لم أفهمها، وفشلت في منع ما حدث رغم أنّها كانت صارخة!
                ( كانت اللوحة مشبعة باللون الأحمر القاني.. الإبل على الأرض ذبيحة، وحولها ما يشبه شياطين يرقصون، وقد مُلئت اللوحة بعلامات x على الإبل).
                ***
                التعديل الأخير تم بواسطة سعد فهيد العجمي; الساعة 08-12-2015, 19:41.

                تعليق

                • سعد فهيد العجمي
                  أديب وكاتب
                  • 02-12-2015
                  • 54

                  #9
                  اللوحة الرابعة كانت الأكثر إثارة للحنق والغضب؛ فقد طالت الحي بأسره، وهل هناك أشد وطأة من خيانة الأهل والجيرة؟!
                  صحا أهل الحيّ في الصباح على كارثة!
                  كانت جدران بيوتهم مليئة بصور تمثل نساءهم وبناتهم عاريات! صور فاضحة مقيتة؛ ملأتهم خزيًا وعارًا؛ كل بيت عليه صوره و كلٌ باسمه! ضجّ الأهالي بالشكوى والصراخ! راح الرجال يتسابقون في نزع الصور المهينة عن الجدران، وتمزيقها وحرقها، في حين توارت النسوة في البيوت خجلاً؛ ودموعهن تسيل بغزارة؛ علّها تغسل ما علق بأرواحهن من أذى، بل منهنّ من نالها من الإهانات من الأخ أو الأب مثل ما فعلت الرسوم، وربما أكثر، كأنّها هي الجانية، حتى أنّ إحداهنّ لم تكن تجرؤ على النظر لأختها!
                  اجتمع الرجال يتشاورون في المساء، وتعالت الصيحات والتهديدات بالويل والثبور للفاعل؛ الذي يعرفونه تمام المعرفة! كان يقف خلف النافذة في الأعلى، متفرجًا على أكثر المناظر التي أدخلت في نفسه البهجة:
                  ( ها أنتم تتراكضون وتتصايحون حانقين، سترون مني العجب أيها الأغبياء جزاء سخريتكم مني؛ وهكذا نطوي صفحتكم!)
                  أيقن الجيران أنّ الذي شهّر بهم في تلك الرسوم الملعونة.. هو عليّ !
                  ***
                  (وحين تتوالى النكبات على المرء، وتعمل معاول الهدم في داخله بانتظام، تتحطم جدر مقاومته مهما كان جبّارًا! وكثيرًا ما تقضي الخطوب- إذ تتراكم- على أشدّ الرجال صلابة!)
                  اشتدَّت العتمة!
                  واشتدّ الظلم والظلمة على تلك العائلة المنكوبة! حطّم الدعيدع عليّ كل جميل فيها! يوحي إليك بمنتهى الإنسانية، وحين تقترب منه تجده متحجّر المشاعر، وفي غفلة منك.. ينتقل بجحوده إلى مكان آخر!
                  لكن لا حزن يعادل أحزان عجوز فقد كلّ أولاده!
                  في تلك الأيام كان العم ناصر في حالة يرثى لها؛ بعد أن بلغ من الكبر عتيًا واحتاج ذراعًا يستند إليها، يلتفت حوله فلا يجد سوى سارة الضعيفة منهارة بعد ما حدث لإخوتها، ورغم أنّها لم تعد للبس النقاب إلا أنّها باتت تمضي معظم وقتها في الصلاة والدعاء والتقرب إلى الله، ولم تعد تخرج من غرفتها إلا نادرًا.
                  راشد الذي اختفى أيام العدوان العراقي ولا أحد يعلم عنه شيئًا، وخالد استسلم لأحزانه بعد مقتل زوجه وهاجرَ إلى مكة، وها هو عليّ يهرب من شرّ أعماله!
                  لأول مرة أرى الدموع في عينيِّ ذلك الرجل الصلب، الذي لم يعد يجد من يرعاه؛ سوى الممرض الهندي عارف -كما كنا نطلق عليه- لأنه كان يقول عن كل شيء: عارف!
                  شعرت بحاجة العجوز إلي؛ ولم تطاوعني نفسي البعد عنه، صحيح أنّه لم يكن يشكو، لكنّه في إحدى المرات قال لي بانكسار:
                  - "أفتقدهم حولي، لم أعد أجد صدى لصوتي حين أناديهم.. ماذا فعلت بنا يا عليّ؟ بل ماذا فعلنا بك؟"
                  وأجهش بالبكاء! ما أشدَّ مرارة دموع الرجال!
                  أصبحت مهمّتي الجديدة أن أبحث عن عليّ، رغم أني لم أعد أحبّه بل وتمنيت أن يقع في شرّ أعماله، لكنها رغبة شيخ متعب هدّته الأحزان، ويبدو أنّه قد عفا عنه!
                  عرفت كيف أجد عليّا؛ فهو لن يجد مكانًا أكثر أمانًا له من بيت فهد! كانت مهمّة إقناعه بالعودة شبه مستحيلة؛ فما زرع حوله من أحقاد وضغائن بدأ حصاده الآن، وأصبح يتوقع كل سوء من الجميع! في الواقع.. لم تكن في لغة علي ولا مفاهيمه مفردات التسامح!
                  أقسمت له ليصدقني؛ أقنعته بعفو والده، حدثته باللغة التي يفهمها:
                  - إنّه محتاج إليك؛ فقد أصبح ضعيفًا مهيض الجناح!
                  ***
                  ذات مساء، رجعت.. ومعي عليّ!
                  كانت الساعة متأخرة، وقد اتفقت مع والده أن يعود تحت جنح الظلام؛ لتجنب الجيران الغاضبين، حين اقتربنا من البيت كان العجوز مستكينًا على مقعده، في حوش المنزل ينتظر بلهفة، أسرع عليّ في خطواته.. حاول أن يقبل يد والده، لكنّ الرجل أمسك بيده بين راحتيه الكبيرتين.. وضمّها بقوة!
                  رائع هو إحساس الأبوة؛ حين يشعرك أنّ الكون كله قد تجمّع.. في هاتين الكفين!
                  كان عتابه موجعًا؛ كسر كل الحواجز التي كانت بينهما:
                  - "كيف أمكنك أن تحرق المركز الذي جاهدت سنين لبنائه؟ كيف تحرق تراث أجدادنا في مكتبة لامثيل لها؟ أردتك يا بني أن تكون شعلة نور لمن حولك ومن بعدك؛ فغدوت نارًا تحرق نفسها، قبل أن تحرق غيرها!"
                  وقف عليّ مذهولًا أمام هذه العذوبة المنسابة من عتاب والده، ولم ينطق! تابع العجوز بصوت منكسر، وهو يقلّب أصابع عليّ المحروقة في يده:
                  - " كيف تملّكك كل هذا الشرّ يا عليّ؟ أتراني أخطأت في حقك؟ ينتابني إحساس بالأسى لما أصاب هذه الأنامل المحروقة، ما قصدت ظلمك يا ولدي!"
                  بكت أعماق عليّ حسرةً:
                  ( وأخيرًا يا أبي! أمضيت عمري وأنا أتساءل لماذا؟!)
                  كان ما يحدث أمامي فوق طاقة احتمالي؛ فأنا أيضّا لم أعتد هذه المواقف الإنسانية، ولم يخاطب أحد مشاعري بهذه الرقة يومًا، لكن حيرتي زالت بعد دقائق...
                  اكفهرَّ وجه العم ناصر فجأة؛ واشتدّت قبضته على يد عليّ؛ وهو يقول بضعف:
                  - "سامحني يا ولدي! لم يعد بوسعي فعل شيء.. سبق السيف العذَل!"
                  التفت عليّ حين شعر أنّ الحركة قد ازدحمت خلفه، و شاهدتُ العم ناصر يشيح بوجهه؛ كي لا يرى عليّا بين عشرات الأيدي التي امتدت لتسحبه، و تتجاذبه بقوة بعيدًا عن والده! أصابه الذعر من المفاجأة؛ حين أدرك أنّ أهل الحي كلهم متربصون به.. أمام ناظري أبيه!
                  هجموا عليه يقطعون ملابسه الثمينة بكل ما يحملون من قهر وألم؛ جراء ما لحقهم منه من أذى، وانهالت اللكمات على بطنه وظهره وكل أجزاء جسده.. كان يتحمل ضربهم بصمتٍ أخرس!
                  ومن جديد.. تحجرت مشاعره؛ فوالده قد غدر به!
                  حاولت الدفاع عنه ولم أفلح؛ كانوا كثرة.. و تعالت الأصوات، صاح أحدهم وهو يسدّد لكمة قوية إلى مقدمة فكّه:
                  - "أيّها المأفون.. أيّها المتهور عديم الأخلاق! "
                  - "من العار أن تكون ابن الشيخ ناصر، وتسيء لسمعته بين جيرانه!"
                  قاوم عليّ بضراوة ذلك الاعتداء المفاجئ، إلا أنّ الكثرة غلبت الشجاعة؛ فصرخ متألمًا حين كسرت رباعيته! بصعوبة خلصته من بين الجموع، وهربت به نحو السيارة؛ وإحساس بالغضب من فعل العجوز ينمو داخلي؛ صدقًا لم أتوقع منه ذلك!
                  هالني منظر عليّ في السيارة.. وجهه متورّم مغطّى بالدم، وكان.. يبكي!
                  بات من المؤكد أنّه هو من صنع كلّ هذا الشر؛ وربما هي اللوحة الوحيدة التي عادت خربشتها بالويل عليه وحده!
                  مازالت بيدي لوحة أخيرة، كان يقيني أنّها تحمل كارثة عجزت عن فكّ رموزها، إلا أنّ الأيام القادمة ترجمتها لي دون عناء!
                  ***

                  تعليق

                  • سعد فهيد العجمي
                    أديب وكاتب
                    • 02-12-2015
                    • 54

                    #10
                    وحين يُرزأ المرء.. تتكاثر الخطوب!
                    وكأنّ ما حدث لأسرة العم ناصر لم يكفهم؛ ففي أحد تلك الصباحات الكئيبة توقفت سيارات عديدة من أجهزة أمن الدولة أمام مزرعته، دون سابق إنذار.
                    دخل العديد من رجال الأمن، ومعهم عناصر متخصصة؛ مصطحبة كلابها الضخمة المدربة لتفتيشها، كانت لديهم أدلة ملموسة وشواهد، وقوائم بأسماء كل من التحق بذلك الصرح، اعتُبر جميع الموجودين في التاج مشبوهون، و تمّ اعتقال طلبته ومشايخهم واتهامهم بالإرهاب! أسماء كبيرة نعرفها اختفت من الساحة، وكأنّها تبخرت؛ وهرب البعض إلى خارج البلاد.
                    زاروا منزل العم ناصر وحققوا بقسوة معه؛باعتبارهمالك المزرعة وصاحبها المسؤولالمباشر - رغم كونه مقعدًا-عمايجريفيها، وتم إبلاغه رسميًا بأنّ الدولة حجزت عليها، وأنّها لم تعد ضمن دائرة أملاكه!
                    صبّ عمّي ناصر جام غضبه عليّ؛ واتّهمني بإساءة استخدام التاج؛ وأمرني بالابتعاد كليًا عن أملاكه، وأجبرت على اعتزال نشاطي السابق، والابتعاد تمامًا عن المزرعة والتاج وبالطبع منزله، ومنذ ذلك اليوم اختفى أيضًا عبد القادر! شيء ما على غير العادة اعتصر دموعي؛ لتصبّ مدرارًا تخضّل لحيتي؛ التي طالت تلك الفترة لتشابه لحية الشيخ عبد القادر، رغم أنّه حاول استغلالي إلا أني-والحق أيضًا- لم أكن في كل ما بنيناه معًا صادقًا معه؛ بل كان جسرًا لأحلامي التي لا تنتهي عبر مظاهر التدين بكل أشكاله، وبمصاهرة العم ناصر، وحين انقطع الجسر انهار كل شيء!
                    أحزنني غيابه.. لا تستغربوا! لقد تشاركنا كل شيء إلا النهاية المؤلمة! لم أكن أتخيل أنّها نهاية اللعبة، و لم أكن أفهم سرّ تشبث عبد القادر بالعمل معي، وحين عرفت ما خفي عني لم أغضب ولم أحاسبه، و أيضًا لم أفشِ سره؛ فطبيعة عمله استهوتني، بل يسرت لي الحصول على معلومات كثيرة كنت أجمعها، وكان تأييده لي أمام الشباب للانضمام إلى التاج، وإقناعه لهم أنّي أعمل للصالح العام، خير داعم لخطتي التي عانيت الكثير لتنفيذها؛ والوصول عن طريقها لمجد لم ألامسه!
                    أرهقتني معضلة التاج والتحقيقات مع أجهزة الأمن، بعد أن اعتزلت الصحافة؛ لأتفرغ للمهمّة التي انتهيت منها على الوجه المطلوب، رغم أنّي لم أحقق لنفسي أي انتصار.
                    أجل.. لقد كانكل شيء كان منذ البداية.. تحتأنظارأمنالدولة! وربما عوضتني عن هذه الخسارة مكافأتي التي قدمت لي؛ كتسهيلات ودعم لمزاولة نشاطي التجاري من جديد.
                    ***
                    بعد اختفائه إثر صدمته بموت أميرة، عاد خالد من جديد إنسانًا جديدًا متزنًا؛ وقد استعاد ثقته بنفسه، وحطّ به الرحال في بيت العائلة.
                    على الدكّة أمام البيت الكبير بجوار والده؛ جلس خالد العائد من مكة، مستغرقًا في التفكير؛ وقد مسحت أحزانه الثقيلة ملامحه، وانعكست بقوة على محيّاه.
                    اقترب من والده الملتصق بكرسيه المتحرك، وبجانبه مرافقه عارف، وناوله كوب الشاي مسامرًا:
                    - "ما قولك يا والدي؟ أسعى لإحياءالتاجمنجديد؛ بروحجديدة,حسبمفاهيم معتدلة."
                    تحدّث لوقت غير قليل؛ وهو يشرح لوالده وجهة نظره محاولاً إقناعه، والعجوز صامت يستمع:
                    - "بعيدًاعنالتعصبالأعمىلأيّتراث ديني، أواجتماعي، أوقبلي،ومستمدُامنالشريعةالسمحة"
                    ساد صمت طويل؛ لم ينبس العم ناصر خلاله ببنت شفة، بل لاحت في وجهه علامات شجن مكتوم؛ تشي أنه لم يعد يهتم لشيء؛ بعد انهيار مركزه الدعوي، وكيان العائلة التي عاش لإنشائها فانفرط عقدها، وخرج زمام الأمور من يده!
                    اعتبرها خالد موافقة ضمنية - لتحقيق حلمه- لم يصرّح الوالد بها!
                    في اليوم التالي سارع لفوره للاهتمام بالمركز، وتجهيزه لطلبة من نوع جديد؛ فقد كانت رغبته تكبر في محاولة التقريب بين المذاهب، بمشروعه الجديد (حلم خالد)إكرامًا لأميرة!
                    تغيرت سارة كثيرًا؛ وأصبحت شخصية مختلفة تمامًا عن تلك الفتاة البريئة التي عرفتها يوم أن طلبتها للزواج؛ بعد أن أضحت سيدة أعمال ناجحة، أذهلتني شخصيًا بتفوقها وقدرتها على تجاوز قيود والدها المتزمتة، وعادات قبيلتها التقليدية، ساعدها في هذا أننا لم نرزق بأولاد، ربما بسبب الأدوية التي كانت قد أدمنت تعاطيها، وعانت كثيرًا لتشفى منها وتتجاوز هذه المرحلة، إلا أنّ ذلك التحول في شخصيتها لم يعد يروق لوالدتي التي بدأت تحرضني عليها، وتطالبني بكبت طموحها!
                    لبستُ ثوب جاسم القديم، وتراجعت عن التزامي بالمظهر الذي اتخذته تلبية لعملي مع العم ناصر، ورجعت إلى روتين حياتي القديمة.
                    وهكذا، أمضيت معظم سنوات عمري أسعى بإلحاح لهدف واحد :
                    أريد أن أحقق مجدًا يتوج هامتي بأيّ ثمن.. وما زلت أسعى خلفه!
                    ***

                    تعليق

                    • سعد فهيد العجمي
                      أديب وكاتب
                      • 02-12-2015
                      • 54

                      #11
                      ***
                      نهاية الرحلة
                      2003
                      شارفت مهمتنا على الانتهاء؛ وقاربنا من الوصول إلى هدفنا، ومعرفة مكان أسرانا، تابع عليّ النظر إلى الطريق الممتدة بلا أيّ تعبير على وجهه، كانت هناك أسئلة ما زالت تدور في ذهني؛ تحيرني.. لا أحد يعرف لها إجابة سواه! لوحاته الأربع كُشفت، بل لنقل أنّها حدثت، ولكني -رغم توبته- مهتم بمعرفة سرّ الورقة الخامسة؛ من تلك الرسوم الملعونة:
                      (قيود حديدية تحيط بمعصمين، موصولين بسلسلة مربوطة إلى قضبان نافذة في أعلى الجدار بجوارها علامة x)
                      سحبتها من حافظة أوراقي، وقربتها من وجهه، أجفل منها ونظر إلي مرتبكًا:
                      - "ما هذه؟"
                      - "الإجابة عندك، هذه الورقة الوحيدة التي لم أفهمها بعد!"
                      - "وماذا تعنيك الآن؟"
                      - "سأفهمها كما فهمت الرسوم السابقة، آمل ألا تكون كارثة جديدة!"
                      أطرق بجمود ولم يجب!
                      كنّا في طريقنا للفلوجة؛ حيث يوجد برج الإذاعة الذى يستقر تحته سرداب يضم بداخله الأسرى!
                      صاح مصطفى وهو يلوح بيديه بحماس:
                      - "أ كاد أشمّ ريح أبي!"
                      ابتسمتُ لفرحته على الرغم مني؛ بغضّ النظر عن ضيقي من تصرفاته المتهورة المندفعة؛ فالموقف حساس أيضًا، كان عليّ يجلس بصمت ويداه ترتعشان؛ أدرك حاله جيدًا وأشعر بإحساسه، هل تراه يقابل راشد بعد تلك السنوات الطوال؟!
                      انتبهنا عند مرور قطيع من الغنم يسدّ علينا الطريق؛ ما جعلنا نتوقف مضطرين، وما أن عبر القطيع حتى فوجئنا بعدة سيارات تسد علينا الطريق! كانت نفس السيارات التي اختطفتْ عليًا في البداية!
                      هتف منير وهو يضرب جبينه بيده:
                      - "لقد نسيت الخائن الذى يعمل لحسابهم!"
                      وكأنّ حركته هذه هي إشارة البدء؛ فقد انهالت علينا الرصاصات كالمطر!
                      كنا نحاول السير في طريق أفقي؛ بحيث تقل الخسائر لأقصى حد ممكن، وأمكنني- وسط الرصاص المتناثر- أن أحدّد شخصية الخائن، لقد كان أبو ثومة ذاته!
                      كان واقفًا متفرجًا يضمّ سلاحه لصدره، دون أن يطلق الرصاص على أفراد العصابة!
                      صرخت في منير:
                      - "إنه أبو ثومة!"
                      - "ماذا؟"
                      رفعت صوتي:
                      - "إنه أبو ثومة! الخائن هو أبو ثومة!"
                      حدّق في وجهي بدهشة، في حين سمعني أبو ثومة فاربدّ وجهه، وبدا ذلك اعترافًا لا يقبل الشكّ في حقيقة هويته! ويبدو أنّ صوتي قد وصل أيضًا لحمودي؛ وأرعبته معرفته بأنّ صديق عمره هو الخائن؛ فضاع تركيزه في تحديد هدفه؛ وكانت النتيجة أن أصابته رصاصة في فخذه!
                      لأول مرة أشاهد عليًا يتصرف بسرعة، ودون أن يلجمه الخوف كالعادة؛ فقد أمسك بسلاح حمودي؛ وراح يطلق النار على سيارة تقترب منا بسرعة وهى تمطرنا برصاصاتها، وتسبّب هذا في أن تنقلب على الأرض بقوة، وأجساد أصحابها تنزلق في الرمال!
                      لقد أنقذ هذا الشاب الشجاع حياتنا بمبادرته تلك! لكن الأوغاد استطاعوا أخذ سيارتين من سيارات الفريق الأربعة؛ فانتقل بقية أفراد الفريق إلى السيارتين الباقيتين.
                      وهنا- وبقدمه السليمة- قام حمودي بركل أبي ثومة لخارج السيارة، وهو يصرخ:
                      - "أيها الخائن!"
                      سقط أبو ثومة على الرمال الحارقة بظهره، ونحن نفلت من ذلك الحصار المجنون! انضم كاظم ومصطفى ومعه كلبه جعبل لسيارة حمودي وعلي، وانطلقت من جديد، وقبل أن ندرك ما جرى دوَّى انفجار هائل في الصحراء!
                      كان لغمًا أرضيًا تسبب في انفجار سيارة حمودي!
                      أصيب مصطفى إصابة بالغة، بينما لقى الكلب جعبل مصرعه ما جعل كاظم ينتحب وهو يصرخ كأم ثكلى("جعبل! جعبل!")
                      أحاطه مصطفى بذراعه والتأثر على وجهه، متجاهلًا الدماء التي تنزف من ساقه هو الآخر، بينما ألجم الخوف والرعب وجه حمودي!
                      كانت لحظة من اللحظات الرهيبة؛ التي شاهدنا فيها الموت يحوم حولنا!
                      ***
                      من رحمة الله بنا أن كنّا بالقرب من قرية مأهولة تتواجد فيها عيادة؛ فاتجهنا إليها ونحن نحمل مصابينا وجراحنا، كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب.
                      - "لابد لنا أن نلحق بالمكان قبل أن يحلّ الظلام"
                      قالها مصطفى وهو يحاول النهوض.
                      - "أنت مصاب أيها العنيد!"
                      قال من بين أسنانه:
                      - "لن أترككم تذهبون وأمكث هنا كالنساء"
                      نظرت إليه بشكّ، فقال بسرعة:
                      - " لا يمكن أن أتحمّل مكوثي هنا، وأنت تتّجهون لمكان يوجد فيه أبي!"
                      أحنيت رأسي بصمت (هذا الوجع لا يمكن الضغط عليه أكثر).
                      سأله منير وهو يشير لساقه:
                      - "وإصابتك؟"
                      - "يمكنني أن أتحمل الآلام!"
                      ومن ثمّ؛ فقد كنا في طريقنا إلى هناك، عدنا إلى الطريق العام، وكان من الطبيعي أن نمرّ بأثار معركتنا مع العصابة، لكن لم نتوقع أن نجد ثُلّة من الناس تتجمع حول ما يشبه الحريق، الذى تتصاعد سحب دخانه لعنان السماء!
                      - "ما الأمر يا شباب؟"
                      ضرب رجل كفًا بكفٍ مندهشًا:
                      - "عصابة إرهابية هاجمت السيارات بقذائف صاروخية!"
                      تبادلتُ مع منير نظرة دهشة؛ سرعان ما استحالت إلى نظرة فهم وذعر، ومنير يصرخ:
                      - "هاشم!"
                      تنحّى جانبًا، وطلب رقم أحد الرجلين اللذين يحرسان هاشم، لكنه لم يجب!
                      - "لقد خدعنا هاشم!"
                      أجبته:
                      - "لابد أنه زجّ بنا في هذا الطريق بالذات، وهو يعلم بأننا سنذهب إلى هناك!"
                      - "هذا الأمر لا يُستغرب على أخلاقه الوضيعة!"
                      تأملتُ السيارات المحترقة، وإلى جثث أبي ثومة ورفاقه:
                      - "هؤلاء التعساء!"
                      - "من تقصد؟"
                      قلت بحزن:
                      - "القاتل والمقتول!"
                      التعديل الأخير تم بواسطة سعد فهيد العجمي; الساعة 08-12-2015, 10:50.

                      تعليق

                      • سعد فهيد العجمي
                        أديب وكاتب
                        • 02-12-2015
                        • 54

                        #12
                        نهاية الرحلة
                        2003
                        شارفت مهمتنا على الانتهاء؛ وقاربنا من الوصول إلى هدفنا، ومعرفة مكان أسرانا، تابع عليّ النظر إلى الطريق الممتدة بلا أيّ تعبير على وجهه، كانت هناك أسئلة ما زالت تدور في ذهني؛ تحيرني.. لا أحد يعرف لها إجابة سواه! لوحاته الأربع كُشفت، بل لنقل أنّها حدثت، ولكني -رغم توبته- مهتم بمعرفة سرّ الورقة الخامسة؛ من تلك الرسوم الملعونة:
                        (قيود حديدية تحيط بمعصمين، موصولين بسلسلة مربوطة إلى قضبان نافذة في أعلى الجدار بجوارها علامة x)
                        سحبتها من حافظة أوراقي، وقربتها من وجهه، أجفل منها ونظر إلي مرتبكًا:
                        - "ما هذه؟"
                        - "الإجابة عندك، هذه الورقة الوحيدة التي لم أفهمها بعد!"
                        - "وماذا تعنيك الآن؟"
                        - "سأفهمها كما فهمت الرسوم السابقة، آمل ألا تكون كارثة جديدة!"
                        أطرق بجمود ولم يجب!
                        كنّا في طريقنا للفلوجة؛ حيث يوجد برج الإذاعة الذى يستقر تحته سرداب يضم بداخله الأسرى!
                        صاح مصطفى وهو يلوح بيديه بحماس:
                        - "أ كاد أشمّ ريح أبي!"
                        ابتسمتُ لفرحته على الرغم مني؛ بغضّ النظر عن ضيقي من تصرفاته المتهورة المندفعة؛ فالموقف حساس أيضًا، كان عليّ يجلس بصمت ويداه ترتعشان؛ أدرك حاله جيدًا وأشعر بإحساسه، هل تراه يقابل راشد بعد تلك السنوات الطوال؟!
                        انتبهنا عند مرور قطيع من الغنم يسدّ علينا الطريق؛ ما جعلنا نتوقف مضطرين، وما أن عبر القطيع حتى فوجئنا بعدة سيارات تسد علينا الطريق! كانت نفس السيارات التي اختطفتْ عليًا في البداية!
                        هتف منير وهو يضرب جبينه بيده:
                        - "لقد نسيت الخائن الذى يعمل لحسابهم!"
                        وكأنّ حركته هذه هي إشارة البدء؛ فقد انهالت علينا الرصاصات كالمطر!
                        كنا نحاول السير في طريق أفقي؛ بحيث تقل الخسائر لأقصى حد ممكن، وأمكنني- وسط الرصاص المتناثر- أن أحدّد شخصية الخائن، لقد كان أبو ثومة ذاته!
                        كان واقفًا متفرجًا يضمّ سلاحه لصدره، دون أن يطلق الرصاص على أفراد العصابة!
                        صرخت في منير:
                        - "إنه أبو ثومة!"
                        - "ماذا؟"
                        رفعت صوتي:
                        - "إنه أبو ثومة! الخائن هو أبو ثومة!"
                        حدّق في وجهي بدهشة، في حين سمعني أبو ثومة فاربدّ وجهه، وبدا ذلك اعترافًا لا يقبل الشكّ في حقيقة هويته! ويبدو أنّ صوتي قد وصل أيضًا لحمودي؛ وأرعبته معرفته بأنّ صديق عمره هو الخائن؛ فضاع تركيزه في تحديد هدفه؛ وكانت النتيجة أن أصابته رصاصة في فخذه!
                        لأول مرة أشاهد عليًا يتصرف بسرعة، ودون أن يلجمه الخوف كالعادة؛ فقد أمسك بسلاح حمودي؛ وراح يطلق النار على سيارة تقترب منا بسرعة وهى تمطرنا برصاصاتها، وتسبّب هذا في أن تنقلب على الأرض بقوة، وأجساد أصحابها تنزلق في الرمال!
                        لقد أنقذ هذا الشاب الشجاع حياتنا بمبادرته تلك! لكن الأوغاد استطاعوا أخذ سيارتين من سيارات الفريق الأربعة؛ فانتقل بقية أفراد الفريق إلى السيارتين الباقيتين.
                        وهنا- وبقدمه السليمة- قام حمودي بركل أبي ثومة لخارج السيارة، وهو يصرخ:
                        - "أيها الخائن!"
                        سقط أبو ثومة على الرمال الحارقة بظهره، ونحن نفلت من ذلك الحصار المجنون! انضم كاظم ومصطفى ومعه كلبه جعبل لسيارة حمودي وعلي، وانطلقت من جديد، وقبل أن ندرك ما جرى دوَّى انفجار هائل في الصحراء!
                        كان لغمًا أرضيًا تسبب في انفجار سيارة حمودي!
                        أصيب مصطفى إصابة بالغة، بينما لقى الكلب جعبل مصرعه ما جعل كاظم ينتحب وهو يصرخ كأم ثكلى("جعبل! جعبل!")
                        أحاطه مصطفى بذراعه والتأثر على وجهه، متجاهلًا الدماء التي تنزف من ساقه هو الآخر، بينما ألجم الخوف والرعب وجه حمودي!
                        كانت لحظة من اللحظات الرهيبة؛ التي شاهدنا فيها الموت يحوم حولنا!
                        ***

                        تعليق

                        • سعد فهيد العجمي
                          أديب وكاتب
                          • 02-12-2015
                          • 54

                          #13
                          من رحمة الله بنا أن كنّا بالقرب من قرية مأهولة تتواجد فيها عيادة؛ فاتجهنا إليها ونحن نحمل مصابينا وجراحنا، كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب.
                          - "لابد لنا أن نلحق بالمكان قبل أن يحلّ الظلام"
                          قالها مصطفى وهو يحاول النهوض.
                          - "أنت مصاب أيها العنيد!"
                          قال من بين أسنانه:
                          - "لن أترككم تذهبون وأمكث هنا كالنساء"
                          نظرت إليه بشكّ، فقال بسرعة:
                          - " لا يمكن أن أتحمّل مكوثي هنا، وأنت تتّجهون لمكان يوجد فيه أبي!"
                          أحنيت رأسي بصمت (هذا الوجع لا يمكن الضغط عليه أكثر).
                          سأله منير وهو يشير لساقه:
                          - "وإصابتك؟"
                          - "يمكنني أن أتحمل الآلام!"
                          ومن ثمّ؛ فقد كنا في طريقنا إلى هناك، عدنا إلى الطريق العام، وكان من الطبيعي أن نمرّ بأثار معركتنا مع العصابة، لكن لم نتوقع أن نجد ثُلّة من الناس تتجمع حول ما يشبه الحريق، الذى تتصاعد سحب دخانه لعنان السماء!
                          - "ما الأمر يا شباب؟"
                          ضرب رجل كفًا بكفٍ مندهشًا:
                          - "عصابة إرهابية هاجمت السيارات بقذائف صاروخية!"
                          تبادلتُ مع منير نظرة دهشة؛ سرعان ما استحالت إلى نظرة فهم وذعر، ومنير يصرخ:
                          - "هاشم!"
                          تنحّى جانبًا، وطلب رقم أحد الرجلين اللذين يحرسان هاشم، لكنه لم يجب!
                          - "لقد خدعنا هاشم!"
                          أجبته:
                          - "لابد أنه زجّ بنا في هذا الطريق بالذات، وهو يعلم بأننا سنذهب إلى هناك!"
                          - "هذا الأمر لا يُستغرب على أخلاقه الوضيعة!"
                          تأملتُ السيارات المحترقة، وإلى جثث أبي ثومة ورفاقه:
                          - "هؤلاء التعساء!"
                          - "من تقصد؟"
                          قلت بحزن:
                          - "القاتل والمقتول!"
                          ***
                          وصلنا قبل الغروب لمنطقة الفلوجة، كانت القوات الأمريكية تحيط بالمبنى بتحفّز، سألت القائد الأمريكي:
                          - "ما الأمر يا جنرال؟"
                          أشار للمبنى:
                          - "هناك بعض الإرهابيين يمكثون بالداخل!"
                          قلت بتوتر:
                          - "وماذا عن الأسرى؟"
                          حدّق في وجهي؛ وقال بدهشة:
                          - "لا يوجد أسرى هناك!"
                          صاح مصطفى بعصبية:
                          - "ماذا؟"
                          أمسكتُه من ذراعه، وقلت للجنرال:
                          - "هناك معلومات شبه مؤكّدة بأنّ السرداب القابع أسفل هذا المبنى يوجد به بعض الأسرى الكويتيين"
                          قال بصرامة:
                          - "أؤكد لك بأنّه لا يوجد أحدٌ هناك!"
                          - "دعنا نتأكّد بأنفسنا إذن"
                          - "هذا غير مسموح به الآن، عندما نقبض على هؤلاء الإرهابيين يمكنكم الدخول على مسؤوليتكم الشخصية"
                          وافقت مرغمًا وأنا أفكر في الخطوة التالية.
                          ***
                          -

                          تعليق

                          • سعد فهيد العجمي
                            أديب وكاتب
                            • 02-12-2015
                            • 54

                            #14
                            - "انظروا!"
                            صاح عليّ وهو يرينا قصاصة جريدة -لا أعرف من أين أتى بها- تناولت نظارتي الطبيّة ووضعتها على عيني؛ لأقرأ مقالة فيها حديث مع سجين خليجيّ، صادف بعض الأسرى الكويتيين في سرداب يقبع تحت مبنى الإذاعة، لكنّ المعلومة الأكثر إثارة أنّ ذلك السجين سار في سرداب سرّي طوله ستة كيلومترات؛ ليصل إلى قرية مجاورة!
                            قال مصطفى بحماس:
                            - "فلنذهب إذن؟"
                            اقترح عليّ:
                            - "ألا ننتظر بزوغ الفجر؟"
                            قلت بتصميم:
                            - "لا يوجد لدينا وقت! فلنذهب يا رفاق!"
                            لا مفرّ! لم يرغب أحد في مساعدتنا؛ فالكل يقوم بوصمنا بالخيانة.. في تلك القرية قال أحدهم:
                            - " لم يعد ذلك السرداب سرًا؛ فقد كشفنا أمره بعد سقوط نظام صدّام!"
                            سألته:
                            - "وماذا عمَّن بداخله من أسرى؟"
                            قدّم الرجل الكريم الشاي لنا، وهو يقول:
                            - " لم نرَ أحدًا!"
                            لم يكن لدينا صبر للتوقّف، ولا لتناول أيّ شيء، هرعنا جميعًا إلى داخل السرداب.. لهفتنا تسبق أقدامنا، وأشواقنا تسابق دموعنا.. لم نكن نعلم أهي دموع فرحة أم دموع ألم انتظار، وعذابات أشهر طويلة! كانت رائحة العطن تملأ المكان، ونحن نهبط عبر سلّم قديم ضيّق.. تخفق القلوب، ويتسارع النبض متواترًا بلا رحمة.. هنا أحبتنا يقبعون في هذه الظلمات!
                            تباطأ مصطفى من رهبة الموقف؛ لابد أنّه خائف من رؤية والده في الأغلال! سرقتنا أحلام اليقظة ونحن نتقدم، حتى وصلنا السرداب القابع تحت مستوى الأرض إلا قليلًا.. الظلام يسود المكان، وإلى أن اعتادت أعيننا العتمة.. بدأنا نميز ما فيه.. لم يكن هناك أحد!
                            فقط الوحشة والظلمة.. وجدران قديمة قاتمة؛ امتلأت بخربشات آلامهم.. بحبر من دمائهم!
                            سيطر الخوف الممزوج بالغضب والصدمة علينا!
                            - "لقد خدعنا هاشم مجددًا"
                            قالها مصطفى بغضب عارم؛ وهو يضرب قبضته في الجدار، كنتُ أتأمّل المكان ببطء:
                            - "كان هناك أناس منذ زمن قريب!"
                            قلتها وأنا أتفحص المكان..
                            ( للعذاب رائحة تنغمس في الصميم؛ لا يدرك طعمها إلا من عاناه!)
                            ثمّة ثقوب في الجدران؛ تتسلّل منها بخجل بقايا أشعة الشمس، ومن بين بقع الدماء والألم، وأثار التعذيب الملطّخة على الجدران، بدت خيوط الشمس كنجوم تتراقص في سماء بعيدة؛ تنير لهم طريق الحرية التي انتظروها طويلًا، وهي تنساب من خلال الثقوب الصغيرة؛ كجواهر تتلألأ فتمزّق ستائر العتمة، وتخفّف قليلًا من وحشة الصدور الغارقة في أحزانها الطويلة!
                            كما لو كانت.. جواهر من نور!
                            ***
                            غادرنا المكان بحزن يرهق كواهلنا؛ جلسنا متجاورين في صفّ واحد، أنظارنا تعانق الأفق البعيد، ووجع الخيبة يجثم على صدورنا؛ فجأة أجهش مصطفى بالبكاء وهو يردّد:
                            - "أين أنت يا أبي؟!".
                            بعد الفجر بدأنا نجمع معلومات عن حقيقة السرداب، وإن كان أحد يعرف حقيقة ما جرى هناك، وفى نهاية المطاف وصلنا لحارس سابق للسجن.. رجل يجلس إلى جدار قديم بملابس رثّة، ويحدّق بين الفينة والأخرى إلى السماء بشكل غريب، قال وهو يشير إلى تلّة قريبة:
                            - "رأيتهم والقوات العراقية تقودهم لأعلى التل، ثم ...."
                            سأله مصطفى بلهفة:
                            - "ثمّ ماذا؟"
                            أجابه الرجل:
                            - "ثمّ تقوم بإعدامهم!"
                            - "هل أنت متأكد؟"
                            - "لقد كنتُ حارسًا لذلك الجحيم؛ ورأيتهم بعيني"
                            اعتصرت قلبي قبضة ألم خانقة! إنّها النهاية التي كنتُ أتوقعها؛ منذ شممتُ رائحة الموت والحزن في السرداب!
                            فجأة! شرع الرجل في البكاء بهستيريا:
                            - "لم أكن قاتلهم؛ لكني ساعدتُ على قتلهم بصمتي وجبني"
                            انتبه مصطفى فقال بلهفة:
                            - "لكن هل أنت متأكد من كونهم من نقصد؟"
                            رمقنا بعينين مليئتين بالدموع:
                            - "لا أعرف إن كانوا هم أم لا.. أيًا كانوا فدمهم في رقبتي!"
                            ربتُّ على كتفه لأمنحه بعض الهدوء:
                            - "صف لي ما حدث؟"
                            - "كانت أيديهم مقيّدة من الخلف، ووجّهوا أسلحتهم لمؤخرات أعناقهم! رصاصة واحدة؛ كانت كافية لقتل كلّ واحد منهم!"
                            جذبه مصطفى من ذراعه، وهو يخرج من جيبه صورة لأبيه:
                            - "هل رأيت هذا الرجل من قبل؟ أخبرني!"
                            حذا عليّ حذوه؛ فأخرج صورة لأخيه راشد، وقرّبها من عيني الرجل:
                            - "وهذا الشاب أيضًا، هل رأيته من قبل؟ أرجوك تذكر!"
                            بدت الحيرة على وجه الحارس، وقال:
                            - "لا أذكر! لستُ متأكدًا"
                            ارتسم الإحباط من جديد على وجه مصطفى وعليّ! وصلت أمّ الرجل فجأة؛ وسحبته من ذراعه بعيدًا وهي تقول:
                            - "اتركونا في حالنا! لقد فقد ابني عقله في ذلك الجحيم! دعونا وشأننا!"
                            ***
                            وصلتنا الأخبار بأن الجيش الأمريكي قبض على الإرهابيين، ومشّط السرداب بالكامل ولم يجد أحدًا!
                            فجأة ظهر رجل مقطوع اليدين وقال:
                            - "اتبعوني"
                            تبعناه بلهفة وهو يصعد التلة، وقف عند نقطة معينة، وقال وهو يشير للأرض:
                            - "إنّهم هنا! تحت الأرض!"
                            تذكرتُ قول هاشم الوغد؛ عندما قال بأن الأسرى ليسوا في حاجة إلينا! الآن فهمت قصده!
                            حقًا ما عادوا بحاجة إلى البشر الأحياء؛ فقد قضوا!
                            كان من الممكن أن يخبرنا بالحقيقة، لكنه لم يفعل ولم أفهم قصده، ربما كان يشعر بالخجل من جرائمه، أو ربما قصد إتعابنا و إصابتنا بالحيرة، والتلاعب بنا! قلت بصوت مخنوق بين الحزن والتعب:
                            - "أعتقد أنّ المهمة قد انتهت!"
                            قال مصطفى معترضًا:
                            - "هل ستصدّق هذا المجنون؟"
                            قلت باستسلام:
                            - "اثنان يؤكدان بأنّ ثمة من أُعدم!"
                            - "ومن أدرانا أنّهم هم المقصودون؟"
                            قلت بعد تردّد:
                            - "أشعر أنّهم هم!"
                            رمقني مصطفى باستغراب؛ فقلت:
                            - "لقد اكتشفوا مقبرة جماعية في السماوة!"
                            هوى مصطفى على ركبتيه يائسًا، وكأنّ قدميه ما عادتا تحملانه! بدا الإعياء عليه حقًا؛ بعد ساعات طويلة من الصبر والعناد والتصميم.. هالني انهياره المفاجئ.. ولم أعد أطيق صبرًا؛ فتركتُ العنان لدموعي أخيرًا.
                            ***

                            تعليق

                            • سعد فهيد العجمي
                              أديب وكاتب
                              • 02-12-2015
                              • 54

                              #15
                              كانت الشمس قد بدأت تميل للرحيل عنا.. قرصها الأحمر يذكرني بلون الدّم في السرداب، وتغوص في أعماقي تلك الصور الكئيبة.
                              بدأنا نتهيأ للعودة ونحن نجرجر أذيال الخيبة.. اتّجهوا إلى السيارات، كلٌّ يحمل وجعه بين جنبيه، الغريب في الأمر وما أزعجني حقًا؛ أنّ عليّا لم يهتزّ له جفن، بعد ذلك الحماس وتلك اللهفة للتوصل لمعرفة مصير أخيه راشد، بل قال فجأة وهو يقلب شفته السفلى:
                              - "حزن مصطفى مصطنع ومبالغ فيه جدًا! لا أفهم علامَ كلّ هذا العويل؟!"
                              ذهلت! كنت لا أزال متوترًا مما حدث فلم أصدّق ما أسمع! صحت بغضب وأنا أحملق فيه بشدّة:
                              - " كفاك جحودًا! لم تنزل منك دمعة واحدة؛ لمنظر مآسٍ تهتزّ لها الرجال!"
                              انقلبت ملامحه فجأة؛ اختفت سمة الحزن، وببرود قاتل تساءل:
                              -" رويدك لم كل هذا الانفعال!؟ فعلت ما بوسعي ولم أفلح في شيء، كل إنسان ينال نصيبه من هذه الدنيا، وراشد قد شبع منها!"
                              بدأ نبضي يزداد وأنفاسي تتسارع، تداخلت في مسامعي أوركسترا الدخول الى الجنة؛ لتصف ما يجيش بقلبي، تسمّرت حدقتا عيني وأنا أصرخ فيه بجنون:
                              -"ماذا؟! ماذا أسمع؟ أتشمت في أخيك؟"
                              تعالت أصوات الكورال مع صوت علي؛ وهو يبتعد بظهره إلى الوراء، ويردّد:
                              - "لم أصدّق أني ارتحت من تأنيب الضمير! أتريدني أن أحاسب نفسي كلّ العمر عن غيابه؟"
                              أغمضت عيني، ورفعت رأسي عاليًا الى السماء؛ أتنسّم أنغامًا تطفئ غيظي:
                              - "أيّها المأفون! أيؤنّبك ضميرك حقًا؟ هل تملك هذا الضمير!؟"
                              توقّف بغتة، كانت النيران تخرج من فِيهِ وتشتعل حولي، وهو يصرخ بنبرات حاقدة:
                              - "لا، ولا أريد له أن يعذّبني؛ كما عذّبني الجميع؛ فليذهب راشد بلا عودة! لن أفني عمري لإرضائكم؛ اذهبوا جميعًا إلى الجحيم! ليتك قُتلت في انفجار ذلك اللغم!"
                              ملأني كلامه قهرًا! أيقنت أنّه هو الذي كان يشي بنا طوال الرحلة! لحقت به بلا وعي؛ أَودُّ الأخذ بتلابيبه:
                              - "أيّها الوغد الجبان! تتمنّى موتنا ونحن في مهمّة إنسانية؟"
                              فجأة توقف! وراح يدور حولي في دائرة واسعة؛ مثيرًا الغبار والأتربة حوله، وهو يصيح بتشفٍّ:
                              - "أتمنى لو قضوا عليكم جميعًا! كان غباء منهم ألا يحدّدوا التوقيت المناسب؛ مع أنّي أخبرتهم بدقّة!"
                              - "أوقعتَ بنا أيّها التعس!"
                              خالط صوت الكورال المتحمّس صوت عليّ، وتوالت اعترافات أذهلتني؛ وهو يصرخ بشكل هستيري:
                              - "راشد كان غبيًا.. صدّقني وذهب لينقذني.. فأخذوه! طلبته في الهاتف.. صرخت بخوف: أنقذني يا راشد أنا في ورطة .. حضر بسرعة.. إنّه غبي فهو دائمًا يصدقني! انسحبت أنا ووقع هو.. أخذوه معهم!"
                              قهقه بأعلى صوته:
                              - ذهب راشد؛ وبقي والدي وحيدًا!"
                              كان يواصل دورانه حولي، بدأت الدنيا تدور بي؛ والدماء تصعد إلى رأسي بقوة:
                              - "لا أصدّق ما أسمع!"
                              صاح بصوت أعلى.. تعالت الأصوات وهو يدور، ويكمل تفاصيل مكيدته:
                              - "وخالد كان أشدّ غباءً.. أحبَّ الفتاة الجميلة أميرة.. كنتُ أولى بها منه، أنا من ساعده في زواجه.. أتسمع؟ أنا ساعدته.. وأنا حرمته منها.. قتلتها الصور!"
                              عجزت حتى عن الكلام! كان بودي لو أمسك بخناقه، لكنّي لم أنَل منه.. سارع بالجري رافعًا ذراعيه باتجاه قرص الشمس الأحمر؛ والنيران تزداد توهجًا، وهو يقهقه بجنون:
                              - "كلّكم عاجزون! أنا فقط .. أنا أفعل ما أريد!"
                              ظلّ يجري.. ويجري أمامي باتجاه الشمس، وبقايا أشعتها الباهتة تحيط به وتسحبه إليها؛ حتى اختفى بين ثناياها!
                              (يا إلهي! أجئتُ في رحلة البحث عن الأسرى حاملاً معي حقيبة الكراهية هذه؟!)
                              بدأت أعصابي تتآكل قهرًا! سقطت على الأرض أمام نيران عليّ.. وهي تتفجّر في السماء!
                              خلف الأفق.. هناك.. حيث غابت شمس ذلك اليوم، كما غاب عليّ.. انهارت كل أحلامي!
                              ***

                              تعليق

                              يعمل...
                              X