الفصل الرابع
تابعت الرحلة؛ وكأنّي كنت أهرب من قدَري إلى قدَري!
صحونا عند الفجر لنبدأ يومنا من أوله كسبًا للوقت، أدّيت صلاة الفجر مع منير وعليّ، فيما تخلف مصطفى عنا ليؤدّيها منفردًا حسب مذهبه الشيعي، تناولنا بعدها فطورًا خفيفًا، ثم سارعنا إلى سياراتنا.
توجهنا إلى غرب العراق، وقافلة السيارات تشق طريقها تحت هجير الشمس، التي راحت ترسل لهيبها، فجأة ظهرت عدّة سيارات من الجهات المحيطة بنا، وأصحابها يشهرون أسلحتهم نحونا!
- "فخّ! إنه فخّ!"
صرختُ وأنا أمدّ يدي إلى سلاحي، لكنّ سيلًا من الرصاص انطلق في الهواء وجعل يدي تتجمّد!
- "أيّة محاولة للمقاومة لن تنتهي على خير!"
- "قالها أحدهم وهو يقترب منا".
بدا بجسده الضخم وابتسامته الواثقة أنّه زعيم هؤلاء الرجال، قال ساخرًا:
- "اتّصل بنا عبد الجبّار وأخبرنا أنكم في طريقكم إلينا"
سألته:
- "من أنتم؟"
أجاب بزهو وهو يداعب سلاحه:
- "نحن أهل هاشم وعشيرته"
قال مصطفى بغيظ:
- "هكذا إذن!"
ولكن ولشدّة دهشتنا تقدم منير من الرجل وكشف عن رأسه؛ فكانت المفاجأة! أسفر غطاء الرأس عن أذنه اليسرى المقطوعة! لم ينته ِعجبي، بل الأغرب كانت ردّة فعل الرجل؛ فقد صاح والدهشة على وجهه:
- "السيد منير؟"
صافح منير بقوة وحرارة وهو يقول:
- "لم أعرفك بسبب هذا الغطاء!"
بدا واضحًا أن منير لا يريد إضاعة الفرصة :
- "نريد مقابلة الزعيم"
***
أثناء انتظارنا حضور زعيم العشيرة كان منير يحكي لنا سرّ أذنه:
- " كنت المنقذ لابن الزعيم من الإعدام؛ فهناك من وشى به، وكان سيُحكم عليه بالإعدام لكنى تدخلت لتهريبه"
- "وسبب قطع أذنك؟"
- "كان هو العقاب القاسي والرادع -كما قالوا ووصمة للخائن - حسب قوانين النظام السابق التي أعتبرها شرفًا لي على ما فعلت، ما جعل زعيم العشيرة يتعهد بردّ الدين في وقت ما."
قلت وأنا أبتسم:
- "وهذا هو وقت ردّ الدّين!"
ابتسم منير بهزة رأسٍ تأكيدًا لكلامي، حضر الزعيم مرحبًا بنا وعانق منير بقوة؛ ما دلّ على عظيم احترامه له، وبالتالي لنا!
- "مُرني يا منير"
قالها الزعيم ونحن نتناول أقداح الشاي بعد عشاءٍ دسم.
- "نريد الحديث مع هاشم"
بدا القلق على وجه الزعيم:
- "هاشم؟"
قال منير:
- "لا تقلق، نحن فقط نريد معلومة بخصوص عمله السابق"
ظهر هاشم في تلك اللحظة وقال ببرود:
- "عملي السابق لا شأن لأحد به!"
قال الزعيم محرجًا:
- " رحِّب بضيوفنا يا هاشم!"
قال بنفس البرود:
- "لم أعتد أن أضع يدى في أيدى الخونة!"
قال منير بعصبية:
- "الكويتيون ليسوا خونة؛ فقد ضحّوا كثيرًا من أجل العراق من قبل!"
قال هاشم ساخرًا:
- "حقًا؟"
قلت بهدوء:
-"كل ما نريد معرفته هو مكان الأسرى؛ لقد بلغنا أنّك كنت مسؤولًا عنهم"
- "من المؤكد أنّهم في مكان ما الآن"
قالها بخبث، والزعيم يقول غاضبًا:
- "هاشم! كفّ عن عبثك هذا وأخبرهم بما يريدون"
قال بتشفّ:
- " لقد أخبرتهم بالفعل! من الأفضل لكم أن تعودوا من حيث أتيتم وتنسوا أمرهم إلى الأبد!"
تحرك مصطفى بغضب وهمّ بالفتك به، لكن أبو ثومة و حمودي - من رجال فريق منير- أوقفاه بقوّة!
قال الزعيم لمنير:
- "لا أعرف ماذا أقول لك يا منير! إنّه زوج ابنتي ولا أستطيع إرغامه على شيءٍ لا يريده، لو كان الأمر متعلقًا بي ماكنت لأتأخر عن مساعدتك"
قال منير وهو يومئ برأسه:
- "نعلم يا شيخ! أشكرك على كرم ضيافتك"
غادرنا المكان واتجهنا للخيمة الكبيرة التي أُعدّت لنا للمبيت فيها.
***
كان مصطفى يتحرك كليث هائج:
- " كنتُ أرغب في تمزيقه بأسناني! لمَ منعتموني؟"
قلت بهدوء:
- "لأننا في ضيافتهم، ولو حاولت التهجم عليه سيفتكون بنا!"
أيّدني منير:
- "هذا صحيح! هاشم له سطوة ونفوذ في العشيرة لا يقلّ عن زعيمهم ذاته!"
دخل أبو ثومة وقال والدهشة على وجهه:
- "بالباب امرأة تريد الدخول!"
قلت بسرعة:
- "دعها تدخل!"
دخلت امرأة تتلفع بعباءتها، وتغطي بيدها نصف وجهها، قالت بصوت بدا فيه التوتر:
- "أنا زوج هاشم الأولى"
ثم أردفت بعد تردّد:
- "إنّه يعلم مكان الأسرى!"
كانت مفاجأة كبيرة لنا، نظرت إليها باستغراب:
- "لماذا تخبرينا بهذا يا سيدتي؟"
قالت بحقد:
- "إنّه معدوم الانسانية! هو من تسبب في القبض على أخي، وهو من أرسل اللصوص للاعتداء عليكم!"
أذهلتنا جرأتها ونحن نُحدِّق في وجوه بعضنا بعضًا! فيما هي تتابع:
- "صدقوني فيما أقول! لقد تباهى بذلك أمامي ذات ليلة إنّه يرغب في أن يكون زعيمًا مطاعًا، ولقد علمتُ من ساعات أنّه سيرحل غدًا للأردن، ومنها إلى بلغاريا!"
خُيّل إليّ أنّها صادقة في قولها:
- "هل يمكن لكِ إذن أن تساعدينا ؟"
- "هذا سبب مجيئي إليكم، فور أن ينطلق في الغد سوف أرسل إليكم خبرًا بمساره"
سألتها بلهجة مشوبة بالحيرة:
- "سيدتي، لماذا تفعلين هذا؟"
قالت بحدّة مقتضبة تموج بشتّى الانفعالات:
- "أريد العدالة!"
ولم أكن أعلم نوع العدالة التي كانت تقصد!
***
تعليق