مانشو

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الحميد عبد البصير أحمد
    أديب وكاتب
    • 09-04-2011
    • 768

    مانشو

    رحل مانشو من عشيرة الفئران الحمر في ظروف غامضة ،تاركاً وراءه إرثاً من الذكريات البائسة والكوابيس المزعجة حمل متاعه القليل وامتطى قاربه الصغير وانطلق يمخر به عباب الماء في رحلة مجهولة بحثاً عن السكينة إلا أن الأقدار كانت تعد شيئاً في جعبتها وثيقة عليها بضعة أسطر بلغة مبهومة لايذكر منها سوى كلمة مانشو كانت السحب مكفهرة والرياح ظلت سحابة اليوم ساكنة والموج يتلمظ تارة ويسكن تارة اخرى إلى أن هبت الرياح وزمجرت بسياط العواصف وزفرات الأعاصير التي شيدت أعمدة هائلة من الموج إنفجر كالبركان إلى عنان السماء واستحال المطر وابلاً مدراراً كأنها خيوط تنفذ من مغزل لتحيك ثوباً جديداً للبحر ثم تلقفته الأمواج الغاضبة وشرعت تركله في عنق وغضب إلى أن سكنت العاصفة وتوقف المطر إلا من زخات قليلة تزيل أثار الفوضى العارمة التي افتعلتها الرياح والأعاصير وصل مانشو إلى حافة نهر "ساو "عالقاً في طرف قاربه الممزق حيث تقع غابة "شيدو "المهجورة ملاذ المفترسات من شتى أنواع الحيوانات البرية وكائنات النازغول الأسطورية ..إبتلع مانشو ريقه بصعوبه وهو يفرك بين عينيه ويتفرس الأشجار العملاقة التي إنحدرت إلى حافة الماء ..كانت الغابة تغط في نوم عميق والسكون يلتحف المكان إلا من صرير الماء حينما يرتطم بالصخور المتأكلة وينفذ داخل ثقوبها ..ارتد مانشو على عقبيه فغاصت مقارضه في الماء ..أيقن أنه في مأزق لامناص منه وثعابين الماء تنتظر الفرصة للإنقضاض عليه إستسلم مانشو للواقع المفروض عليه عندما عجزت حيلته عن إيجاد مخرج ما ..فوطيء الغابة في صمت وحذر وهو ينصت لهمس يخلع قلبه
    -ذبابة وضيعة وطئت الغابة العظيمة ..من يجروء؟؟تباً لثعابين الماء ثم ارتد الصوت واختفى بين أعالي الأشجار وهو يردد ..بدلوا الحرس ..ياله من وقح، تجلد مانشو وقد اندس بين الأعشاب الندية وانزلقت مقارضه في الأوراق اليابسة التي اكتسى بعضها فوق الأعشاب كان الخوف يدب في أوصاله ويسري في قلبه فيصاب بالهلع وهو يرمق إلى وميض يقدح بالشرر يرتقي الأغصان العالية ,ثم سرت أنفاس باردة تتلمظ بالغضب والسخرية، كانت الغابة تتثائب في زفراتها ،انتزع الخوف تجلد مانشو ،فوثب بين الأوراق وشرع يعدو ويثب حتى انزلقت مقارضه فوق الأعشاب الملساء التي اكتحلت بالندى فسقط فوق كتله لزجه قد تخضبت بالمخاط والروث وسائل هلامي قد علق بمقارضه وقفص عظمي أبيض مهتري قد نُصب فوق اللحم ء،نشب مانشو مقارضه في أطراف كتلة اللحم النائي ثم مضغ بعضه وتفرسه بأنفه المدبب فأرسل إحداثيات نسبية إلى مركز العقل الذي شرع في إختلاق صور متعددة لحيوانات برية ،إلى أن استقر على حيوان ثدي من فصيلة الحمار الوحشي ، بصق مانشو قطعة اللحم وأخذ يتقيأ ماتسرب إلى ريقه ثم لسعته أنفاس حارة فرمق ضبع يكشر عن أنيابه ليغرزها في لحم الفريسة يلوك بعضه ويتجشأ قليلاً ثم يهرول بعيداً
    كان مانشو قد اندس بين طبقات اللحم المهتريء خوفاً أن يلحظه الضبع فيصير وجبة طازحة وعشاء دهني يستسيغ به الضبع لحم الحمار الوحشي اليابس ،انتزع مانشو عظمة حادة ناشبة في اللحم كان الضبع قد أكل ما حولها ..قام مانشو بكسرها لتكون مسننة وأكثر حدة ثم تسلق الأعشاب الملتفة حول المنحدر وعاد إلى طريقه ثم اهتدى إلى بقعة قد تخللها ضوء القمر فالتمعت قطرات الندى العالقة من ذوائب الأعشاب فصارت كالقناديل ..غرز مانشو عظمته بين الأعشاب واستلقى بجوارها ولم يكد يغفو حتى رنا إلى مسامعه صرير زاحف كان قد التف حوله في حركة دائرية ..إنها الأفعى السوداء ذات القشور الناتئة إبتلع مانشو ريقه بصعوبة كأن روحه حشرجت في خندق يزداد ضيقاً إنثنى مانشو وتكور بين الأعشاب اليابسة وتحلب العرق من مفرك رأسه وهو يرمق ثلاثة فئران قد حبلت بهم الأفعى بين امعائها وبطنها المتخم المثقل بتلك الوجبة الدسمة يطلق غازات وروائح كريهة قد عفرت المكان ثم أطلقت نفسها للرحيل تجر زنبها المصبوب حدج مانشو إلى الأفعى وتحركت فيه الحمية فلعن الأفعى وسلالتها ثم نصب عظمته الواهنة واستلقى بجوارها وتدثر ببعض الأوراق ثم رمق القمر يلملم أشلاءه بين ظلال السحاب فرنت إلى ذاكرته بقايا أسطورة قديمة قد عفى عليها ردحاً من الزمن فتذكر كم كان أجداده وأباءه يمارسون طقوس غريبة لإستدعاء سيد القمر الفأر المعجزة "موردخاي " لطلب النصيحة والمشورة وقت الأزمات والكوارث ..تسلق مانشو بعض الشجيرات وقصف بمقارضه أعواد القنب وشرع يثب بين الأوراق وينهب الأعشاب إلى أن حل عند ضفة نهر صغير تتلألأ حباته من إنعكاس خيوط القمر عند سقوطه فيلتمع ويصدر بريقاً مكث مانشو يستند إلى مقارضه يلتقط أنفاسه وهو يلهث تعباً ، ثم عمد إلى الماء يحتسى قطرات منه ليروي ظمأه ،وماكاد يفرغ حتى هاله شلال عرم يستنزل من قمة عالية فوثب بين الصخور الصغيرة ثم نظر لأعلى وحدق إلى الأفق ليجد طريقاً سالكاً إلى الصعود فتسلق بحذر ولهفة مخافة أن تلحظه أفاعي الصخور فيصير وجبة دهنية تشحذ بها الأفاعي أسنة شفراتها الحادة النافذة ..تمكن مانشو من الصعود وارتقاء التلة العالية التي ينحدر منها شلال النهر ..ثم شرع يتذكر الخطوات الأساسية لممارسة الطقوس المقدسة فأشعل بعض الأوراق الخضراء وخط نصف دائرة بحروف وأرقام ثم جلس داخلها وشرع يتمتم بكلمات ما ينتسب بعضها للغة الهيروغليفية وأخرى للغة السريانية ولغات الحيوانات واصواتها وانتظر مانشو انشقاق القمر كما روت أساطير "فول"ولم يحدث شيء حتى فطر مانشو وأصابه الإبتئاس وأرهقته الحيرة فأطرق ملياً حزيناً أسفاً ،وماكاد يولي ذيله حتى تكور السحاب وانشق منه القمر ثم برق واستحال فاراً أبيض له أعراف كالديوك ويرتدي رداء أبيض مرصعة اطرافه بالألماس وأزرته يواقيت بيضاء لامعة براقه تجري في ذوائبها الحياة ، يتكيء على عصاة بيضاء كان يدعى " ماردوخ الحائر ، الناسك " صعق مانشو عندما تجسدت أمامه الأسطوره فظل يحملق إليه غير مصدق ..لكن ماردوخ قطع صمته
    -ليس هناك وقت أيها الفأر التعس من عشيرة الفئران الحمر الهالكة ..لقد اقترب بزوغ الفجر
    - هل أنت ماردوخ الحائر..؟
    - إنني ماردوخ الحائر أتيت عبر النداء البعيد
    - مانشو ساخراً..ياله من أسم نازي يبعث القلق
    - لقد رأيت حيرتك تدور كالطاحونة في قلبك ..لقد فقدت إيمانك منذ أن غادرت عشيرتك .
    - هناك أصوات تدق في رأسي ،وسيل عارم من الأسئلة يحتاج إلى نهر من الإجابات حتى يتدفق ويسكن إليه
    -أيها الفأر البائس ..كونك غير قانع بما فطرك عليه الخالق ،فلن تجد جواباً شافياً ..الكثير من الناس لايفتأون يدعون الحاجة ويتململون ولاينفكون يريدون المزيد ..فالضعيف غير راض والقوي يريد المزيد والقبيح يشتكي والجميل يتململ ..الجميع يبحث عن المثالية الزائفة ،ولايمكن خرق القوانين التي سنها الخالق ،وإلا فسدت المادة وسقطت الإنسانية في الفوضى
    -مانشو ساخراً ..أيها السيد الفأر لم أقطع تلك المسافة وأجتاز تلك الصعوبات لأنصت لهذا الهراء .
    - حسناً أيها البائس الفظ ..قطعت خلوتي من أجل لا شيء ..سأرحل الأن
    - تمهل أيها السيد الفأر ..كل تلك الصعوبات والمشقات التي تعرضت لها قد تكون زعزعت إيماني وجعلت بذور الشك تورق وتثمر في قلبي..أحتاج فقط للسكينة ..أرني
    -أنظر داخلك ..فلكلاً منا مشعل داخله ينير دروبه متى حل الظلام وعمت الفوضى ..ذلك المشعل لاينضب فإيمانك هو الذي يغذيه
    تنسم ماردوخ عبير طل وملأرئتيه منه وقال في تثاؤب
    -لقد حل الفجر ..تسلح بالإيمان
    ثم أملس الخيال وطفق بعيداً يترنم بصوت بالغ العذوبة والجمال
    شعر مانشو بالحيرة واليأس وماكاد يلتفت حتى رنا إلى مسامعه صرير زاحف وفحيح يرعد ويزبد ثم استطالت بين الصخور أفعى عظيمة ترمق للفأر البائس بأعين حادة ثاقبة ..لم يجد مانشو سبيلاً سوى أن يقفز في أعماق النهر ويسبح في الماء الجارف ثم يعلق بغصن هار ويتسلقه ثم يقفز بين الصخور الصغيره حتى يصل لضفة النهر ويجفف جلده المكتسي بقطرات الماء ثم يطلق تأوهات وزفرات من شده الحيرة واليأس اللذان لحقا به ..في طريقه إلى الغابة انتزع وريقة خضراء وأخذ يمضغها ويلوكها ويتجشأ بعضها ..كان مانشو يتمتم بكلمات من شدة الغضب والفتور ويصب اللعنات على "ماردوخ الناسك" ويكيل السباب لتلك الغابة الملعونة ولحظه العاثر الذي أفضى به إلى هذا المأزق ..بيد أن هناك حركات مريبة كانت ترصد مانشو تصدر من خلف الشجيرات الصغيرة مما أثارت حفيظة مانشو واقشعر جلده وارتجفت أوصاله وهو يتلفت يميناً ويساراً والخوف يدب في قلبه الصغير يكاد يخلعه من أحشائه ،تجرع مانشو ريقه بعثره وهو يتفرس بحاسة السمع القوية تلك الحركة الصامته التي تحتضن الشجيرات القريبة منه ..شعر مانشو أن هناك مفترس يقف خلف الشجيرات يتلذذ بحيرته وبؤسه ينتظر أن ينشب مخالبه في جلده الطري الغض ،كانت حركة مانشو بطيئه وحذره ومقارضه تغوص في طبقات الأوراق اليابسه ثم سرعان ما وثب فوق الأوراق وأطلق مقارضه للرياح يلوذ بالفرار بين الأغصان العالقة المهترئة وألياف الأعشاب الندية يلتمس طريقاً للنجاة حتى وطئت مقارضه بقعة جافة مضيئة بين الأشجار قريبة من النهر ..ألتقط مانشو أنفاسه ثم هرع إلى جذع هار فانتزعه ثم سدده إلى أعلى وصرخ
    -هلم أيها الرعديد ..لا أبالي أياً تكن ..اكشف عن نفسك ..فلن أكون طعاماً سائغاً هذا اليوم ..ثم برزت بين الشجيرات والأعشاب الأفعى السوداء ذات الحراشف الناتئة وقد تكورت حول نفسها ثم أطلت برأسها واستطالت عالياً حتى ظهر مانشو ضئيلاً ضعيفاً، هزيلاً ،ثم إنها أطاحت بالجذع من خلال ضربة من ذيلها الفولاذي ثم عاجلت مانشو بضربة أخرى سريعة قبل أن يلوذ بالفرار ألقت به عالياً ليصطدم بشجرة عملاقة أفقدته قوته فترنح كأنه قد سكر تلك اللحظة ،ظلت الأفعى تركل مانشو بذيلها وكأنها تستمتع بإذلال فريستها ثم أطاحت به عالياً وقبل سقوطه كانت تغني
    - ليس هناك ماهو أعذب من عناق "شيرو" ثم توشحته بأغلال ذيلها وتفرست في وجهه وهي تردد
    - لابد لي من لثم أصدقائي ..فليس هناك ما هو أعذب من لثمات "شيرو " وماكادت تطبق فكها حتى قطع لذتها وأفسد نشوتها صراخ ووعيد
    - شيرو أطلقي الفأر
    شيرو وقد أكفهرت من شدة الغيظ والحنق ..من المتبجح الذي يجروء على إفساد متعتي وإقحام نفسه في مصيره الهالك ،ثم استطالت شيرو بعد أن أطاحت بمانشو وهي تتلمظ من شدة الغيظ وتقدح شرر من بؤبؤ عيناها ..تتلفت يميناً ويساراً وزاد غضبها مما جعلها تكور نفسها كأنها تستحضر طاقة غاضبة ثم تنتفض بذيلها كالبركان لتحطم الأغصان اليابسة وتتساقط الأوراق في أستعراض لقوتها ولدحر الخوف الذي بات يتلبد في قشورها الناتئة من ذلك المجهول الذي وثب عالياً بين الأشجار ونشب أشواكه الحادة في ذيلها مما جعلها تئن وتتوجع ثم توقف وأزال دروعه الشوكية ..كانت الدماء قد ندت وسالت من ذيلها فلثمتها بلسانها المشقوق وابتسمت ساخرة
    -ماكيرو الأحمق ..كن متيقناً أنني سأتركك تنزف يوماً ما ثم أتركك للثعابين الصغيرة ترتشف دمائك لأخر قطرة ..ثم ولت تجر ذيلها المجروح تتمتم وتتوعد ..أفاق مانشو من غفوته يتوعك ويتأوه ثم أبصر ماكيرو فشكره على صنيعه
    -لا أدري كيف أشكرك ..لكنني لن أنسى لك هذا
    حاول مانشو أن يصافحه ..لكن ماكيرو لم يعره إنتباهاً
    -لم أتي من أجلك يا هذا ..دين صغير على شيرو أن تسدد قسط منه ..دائماً ما تكون الطفيليات مثيرين للمشاكل
    شعر مانشو بالإهانة فرمق ماكيرو
    -لابأس .
    تحسس مانشو رأسه المشدخة من أثر ضربات الأفعى مضغ بعض الأوراق ثم لثم جراحه النازفة .كانت عظامه الدقيقة في حالة لايرثى لها من أثر قبضة الأفعى القوية ،إتكيء مانشو على جذعه وصار يترنح حتى وصل إلى نفقه وهناك ألقى بثقله على الأوراق الخضراء اللدنة ثم مط جلده وتكور ليغط في نوم عميق..مكث مانشو ثلاثين يوماً لايبرح سردابه حتى شفيت جراحه والتئمت واستعاد عافيته ثم خرج إلى النهر واغتسل ثم عاد إلى نفقه والتهم بعض الأوراق اللدنه ثماللدنه ثم خرج يتفقد المكان وقد فقد القليل من مهارته في البحث والتقصي ،حاول أن يستعيد ثقته فوثب فوق الأعشاب بخفة ورشاقة وتسلق الأشجار بمرونة وقفز بين الأغصان وظل يعدو يقطع المسافات بسرعة هائلة حتى غربت الشمس فكان الأفق الشرقي الذي يحد أطراف الغابة قد تبدل من سواد الليل إصفراراً ثم تخضبت حواشيه حمرة قانية كأنما يشب فيه حريق مضرم ،عاد مانشو إلى نفقه يتأوه من شدة الأجهاد وكأنه تجرع كأس من الأرهاق ،ألقى بجسده بين ألياف الأعشاب التي أتخذها فراش وثيراً له ثم غط في نوم عميق عند الصباح أستيقظ مانشو وتمطى، فرك بين عينيه عندما تسلل إليهما ضوء الصباح ، ثم خرج من نفقه وقد تأوه عندما علق بفرائه شوكة حادة من عناقيد الأشواك التي غرزها في فتحة النفق الذي إحتفره خوفاً من مهاجمة المفترسات ،دأب مانشو كل صباح على ممارسة العدو والقفز بين الأعشاب وتسلق الأشجار لزيادة سرعته فكان يحدث نفسه دائماً :مقدار المسافة التي تجعلني أمناً ،هي ذات المسافة التي تبقيني حياً،وبعد مرور 40 يوم إكتسب مانشو قوة وسرعة غير عادية وقدرة على القفز وتخطي الحواجز والموانع من الأغصان والأعشاب الملتفة ذات الألياف المعقدة..وفي أحد الأيام أثناء جمعه لبعض الثمار التي يدخرها لفصل الشتاء رنا إلى مسامعه تأوه وسعال ممزوج بصراخ وسباب تفقد مانشو بحذر وترقب مصدر الصيحات المزعجة وقد استل شوكة عظيمة تحسباً لما هو أت ،كان الخوف يدب في أوصاله لكنه عزم على معرفة الخبر، فتسلق شجيرة قريبة منه ثم نشب مخالبه الحادة في قشورها المهترئة، وتفقد بحاسة الشم القوية محيط المكان فأيقن أن الخطر المحدق لم تبلغ مؤشره علامة الخوف ،فلم يجد مانعاً من الأقتراب منه فوثب مانشو إلى شجيرة قريبة قد اكتست بالنباتات العالقة فقصف أعناقها بمقارضه الحادة وتوغل بين النباتات فهاله رؤية "ماكيرو" وهو يسعل بشدة ،يتقيأ الدم و يتجشأ المخاط العالق بسائل لزج أصفر ، غرز مانشو مقارضه في الدماء اللزجة وتأوه لرائحتها الكريهة ،لكنه تذوق منها وكأنه يرسل إحداثيات وقياسات المادة اللزجة العالقة بالدماء ،ومخاط السائل الأصفر ذو الرائحة الكريهة إلى عقله بطريقة إليكترونية دقيقة حتى يتلقى إستنتاج قريب من توصيف الحالة ، سارع مانشو بتفقد ماكيرو الذي وهن من شدة المرض ،فعاونه على الوقوف وتلقى ماكيرو تلك المساعدة بغطرسة شديدة ،عندما ولى ظهره لمانشو ومضى في سبيله ، تمتم مانشو ببضع كلمات مريبة أصابته بالهلع ،أنثى الدبور ياصديقي لقد لثمت نقطة ضعفك ،أخشى أن تكون قد أفرخت داخلك ،كانت هناك حركات مريبة ، تصدر خلف النباتات العالقة بجذور الأشجار ترصد الموقف ،لم يعبأ مانشو بما يجري خلف النباتات ،لكنه كان يعرف أن هناك من يتتبعه منذ أيام ،فأطلق ضحكة ساخرة وقال : فلتلحق بي إن استطعت ، ثم وثب بين الأشجار يتخطى العوالق والآجام الملتفة ويجتاز المنحنيات بسرعة هائلة إلى أن تسور شجرة عالية قريبة من النفق الذي يسكنه وارتق أحد أغصانها ، ثم ترقب بعينين جاحظتين موطء الغريب المجهول الذي يتتبعه ، وتكشفت ملامحها لاسيما عندما اقتربت من النفق وظلت تلحظ بأنفها الدقيق معالم النفق الذي توشح بالقش والأعشاب وقد نتأ منها أسنة الأشواك الحاده ،شرعت تلك الفأرة تتبع أنفها داخل النفق وهي تشم الثرى بحثاً عن الطعام ،لكنها اشتمت رائحة الخطر المحدق بها ويترصدها فجالت ببصرها أرجاء المكان وما كادت تلوذ بالفرار حتى انقض عليها مانشو وعاجلها بضربة قوية اطاحت بها خلف الشجيرات الصغيرة فارتطم رأسها بأحد الأغصان المتدلية فندت الدماء من رأسها وأغشى عليها ،تفقد مانشو تلك المتردية خلف الشجيرات، فهاله رؤيتها ، والدماء نزقت منها ،بلا حراك فرق لحالها وتألم قائلاً
    بربرياً ..لا أختلف عن المفترسات ..الغابة القاسية تصيبني بالإنحطاط والجنون ،ثم حمل جسدها الهزيل إلى داخل النفق ..لثم جراحها بروث الأيل حتى التئم ،وقام بإطعامها قرابة 15 يوم إلى ان تعافت واستردت عافيتها ..وفي أحد الأيام أبدت إمتنانها العميق لصنيعه الرشيد ،وغادرت مارفيل حصن مانشو أثناء وجوده في الغابة ،وعندما عاد صدم لرحيلها ،ونكس رأسه مغتماً،ثم تبعها ..قطعت مارفيل مسافة قصيرة في عمق الغابة فكانت تشعر بالوحدة الشديدة ،أخذتها العبرات فانسلت الدموع من مآقيها ،وقطع أنينها صيحات وسكون مريب شعرت بالفزع لاسيما تلك النظرة التي تند من بريق حاد لقنبرة تعتلي غصن قريب منها وقد وجهت بصرها لتلك الحركات الساكنة بين الأعشاب ،أيقنت مارفيل أن خطر محدق يتربص منها وأنها صارت فريسة تسير لشرنقة الصياد ..أعين حادة ثاقبة تترصد فريستها لتنقض عليها ..ومن هناك غير "شيرو"التي تستمتع بإثارة الفزع والرعب قبل التهام فرائسها ،شرع الخوف يدب في أوصالها ،وكأن سم شديد الوطئة يسري في جسدها حتى ترسب في أعماقها وقد أفقدها الحراك فتجمدت مكانها تكاد تبتلع ريقها اليابس بصعوبة ، وقد أيقنت هلاكها فأطبقت عينيها واستسلمت لمصيرها ،أنقض مانشو وأطاح بجسديهما بين الشجيرات وأطبق على فمها وأشار بالسكون ريثما ترحل الأفعى "شيرو "التي أطلقت سيل من اللعنات على ضياع وليمتها في غفلة منها ..نظر مانشو إلى مارفيل وقد اغرورقت عيناها بالدموع فدعاها للمكوث عنده ريثما يجد لها ملاذ أمن ..قام مانشو بأصلاح نفقه عبر توسعته من خلال حفر وإخراج المزيد من الثرى وتهيئته وكسية أرضيته بالقش اللدن وإحضار المزيد من أنياب الحيوانات النافقة وغرزها في فتحة النفق لإثارة الهلع لدى المفترسات عند اقترابها ، تساعده وتعاونه في ذلك مارفيل ،ثم لا يفتاون يجمعون ثمار التوت والقنب يدخرونه في بياتهم الشتوي إيذاناً بهطول الثلج وندرة الطعام في الغابة ..بدأت قوافل الشتاء تغزو قلاع الغابة المنيعة فنصبت أردية الصقيع والبرد فوق أعناقها الشاهقة ،ثم قصفت أوراقها اليابسة بسياط الجليد فتجمدت أغصانها المترفة بالثمار ،واكتست الغابة بطبقة رقيقة من ندف الثلج المتساقطة ..وبعد أن تدثرت الغابة بعباءة الجليد خرج مانشو ومارفيل يتفقدان الغابة بحثاً عن الطعام بعدما قارب مخزونهما على النفاذ ،وفي طريقه تذكر ماكيرو فعرج على نزله ..لكنه لم يجد أحداً هناك ،ساوره القلق ،فالتفت إلى مارفيل قائلاً : يجب أن أبحث عنه ..أومأت مارفيل بالإيجاب ثم وثبا سوياً ينهبان الغابة بحثاً عن "ماكيرو" يقفزان بين الأعشاب وبؤر الجليد حتى رمق "شيرو" تحاول الفتك
    -إنها معركة غير متكافئة ..مارفيل ،سأحتال على الساقطة شيرو ،حتى أصرف اهتمامها عن ماكيرو ..ليتسنى لكما الفرار والعودة للنفق ،لكن مارفيل فزعت وخشيت عليه
    -تلك الأفعى يمكن أن تؤذيك ..مانشو مازحاً
    - هل تقلقين على .
    -أجل ..ولم لا
    - إذا سيكون لدي سبب قوي للعودة..ثم وثب بين الأشجار وأطاح برأس شيرو عندما نشب في رأسها أشواك الآراك ،فاغتاظت الأفعى وتأوهت من شدة الضربة ..فظلت تحدق لماكيرو طويلاً ثم صرفت أبصارها لمانشو وهي تتوعده بانتقام مميت ،وثب مانشو بقوة بين جذوع الأشجار فارتمطت رأسه بالأرض عند سقوطه وكاد يفقد توازنه ثم نهض وتابع ركضه ، والأفعى تلحقه بسرعة رهيبة يدفعها وقود الأنتقام للنيل من الفأر الذي أفسد وليمتها ،كان مانشو قد أعد الفخاخ للأفعى طريق وعر قد نثره بالأشواك الحادة ،والصخور المدببة ،عرج عليه مانشو وقلص المسافة التي بينه وبين الأفعى حتى لايترك لها الفرصة للتفكير عند سقوطها ،اقتحم مانشو أسراب الأعشاب المكدسة وقد نزق منهما أسنة الأشواك الحادة ،أنزلقت الأفعى الغاضبة داخل الفخاخ التي أعدها مانشو يدفعها الأنتقام والثأر ،فنشبت عناقيد الأشواك في قشورها فتلمظت من الغيظ فعلقت بين الأشواك وما عادت تستطيع الحراك ،رمقت مانشو يقترب منها محذراً

    - لاتكابدي العناء ..إنكي عالقة ..وكلما اشتدت مقاومتك ..نفذت الأشواك إلى جلدك

    - إنكي تنزفين ،ستخور قواكي قريباً ..وقد لاتستطيعين العودة

    - لاتهنأ كثيراً أيها الفأر ..لقد كنت محظوظاً فقط.. حاولت الأفعى الفكاك فنفذت الأشواك إلى جدلها ،وتعمقت جراحها المثخنة بالألم

    - لما تتركي لي خيار..أردت فقط العيش بسلام .

    - تباً لك .

    - الإنتقام بصقة في الرياح لاترتد إلا لصاحبها

    - دع عنك العبرات ..ستحتاجها قريباً ..عندما اقتص منك .

    اجترت الأفعى "شيدو" جسدها الموبوء بالجراح وعناقيد الأشواك العالقة في جلدها ..كانت حركتها بطيئة أليمة ..لكنها تحاملت على نفسها وقد أذهل المشهد سكان الغابة من الحيوانات الذين أظهروا الشماتة بشيرو وهي تغادر متجرعة طعم الهزيمة وقد أيقنت أن صورتها المرعبة قد تداعت في أذهان الحيوانات الذين كانوا يخشونها ويتهامسون كلما وطء الحديث ذكرها ..قفز السنجاب باتشي المهرج ولثم بمقارضه دماء "شيرو" وصرخ عالياً
    - لقد نزفت الأفعى اللعينة دماء أشد حمرة من شفق الغروب ..لقد فعلها الفأر ذو الأنف المدبب مانشو ..اشتد الهتاف والتصفيق واحتفت الغابة بمانشو وحملوه على الأعناق إلى نفقه ..فرحت مارفيل بعودة مانشو وأخفت سعادتها خلف سحابة من الحياء والوجل ،،لكنها أبدت قلقها على حالة ماكيرو التي ساءت ..شعر مانشو بالحزن الكئيب وقصوره الشديد في إنقاذ ماكيرو الذي لايتوقف عن تقيأ السعال المخضب بالدماء والمخاط..كان ماكيرو يتألم بشدة ولاينعم بالنوم إلا من بعد أن يتجرع الترياق الذي يقدمه له مانشو فيدخل في نوم عميق وكانه قد فقد الوعي ..لانت عريكة ماكيرو شيء فشيء وشعر بالإمتنان تجاه ما قدمه مانشو وشكره على صنيعه ..فتوطدت أواصر صداقتهما واستعاد ماكيرو جزء من عافيته ..خرج سوياً يتنسمان عبير الصباح ،جال ماكيرو ببصره في أرجاء الغابة ،رمق الأغصان المتدلية وأوراقها اليابسة ثم قال
    - كنت أدرك أنها أنثى الدبور ..كانت ترقبني منذ أيام ،وتتحين الفرصة لتنؤ بثقلها ..وفي يوما كئيب أسرفت في التهام كومة من اليعاسيب وبيض البوم ثم تجرعت شراب التوت حتى ثملت وفقدت وعيي ،ورأيتها وهي تهبط قريباً مني ثم طعنتني في خاصرتي كاللدغة وكأنني أنصت لأزيز أجنحتها وهي تخفق بعيداًعني ..لم أعير الحدث أدنى اهتمام ومضيت في طريقى ..وكنت أشعر بتقلصات استحالت وخزات حادة كأنها سياط تلهب أمعائي ،فكنت أكل الطين حتى يسكن الألم المبراح ،كنت التهم أكثر من طاقتي وكأننى أطعم أفواه فاغرة تئن داخل أحشائي ..مازالت أنثى الدبور تراقبني أسمع طنينها يثقب أذني ،صوتها يكاد يدق في رأسي ،تنتظر إفراخ بيضها داخلي ..إنهم يلتهمونني من الداخل ياصديقي ..لم يتبقى سوى خمسة أيام يجب ألا يذهب موتى سُدى ..حاول مانشو أن يهدأ من روعته ..
    - سنجد حلاً ..لاتقلق
    - بإمكانك أن تساعدني..!
    -كيف..؟
    - ستعلم عندما يحين الوقت ..!دعك من هذا الأن ..كنت أسمع أحاديث متوارية عن غريب سيأتي الغابة يوماً ما..ليفسر تلك الرموز والأشارات التي تركها أجدادنا ..سكان الغابة يعولون عليك كثراً
    -ماذا ...؟
    -سرت شائعة قوية أنك الغريب الذي تنتظره الغابة..!
    - غريب.! ما الذي تقصده ..؟
    مضى ماكيرو تاركاً مانشو عالقاً في فراغ من الأسئلة .
    في اليوم التالي كانت جموع من الحيوانات تعسكر عن حفرة مانشو ،تذمر مانشو لجرأة هؤلاء المتطفلين، ولم يخفي إستيائه .نظر مانشو إلى ماكيرو وهو يمضغ ورقات التبغ ويبصقها في سعال شديد
    - ماذا يريدون ..؟
    - يريدون ما تملكه
    - ماذا تقصد ؟
    أشار ماكيرو إلى أحدهم ..هناك
    استرد مانشو نظرته والتفت خلفه ،فوجد سلحفاة كبيرة هزيلة تتكيء على عصاة من الخيرزان وتدنو منه وقد أنهكها السير فقالت بصوت متقطع رفيق.
    -مرحباً سيد مانشو ..أرجو أن تسامح تطفلنا ..فكما رأيت لقد فوضني سكان الغابة كوني أكبر المعمرين هنا في الحديث إليك ..ثم أخذت شهقة واستطردت قائلة
    - هناك بعض الغيبيات والظواهر التي تكتنف الطبيعة وتحيطها بسياج من الأسرار والغوامض ومايلبث المرء في قلق منها وحذر كونها تهدد عوامل البقاء، وعند الكشف عن تلك الأسرار تتبدد سحب الخوف وتتبخر غيم المجهول
    ولعلك تدرك أن جذوة المعرفة لاينضب زيتها ولاتأفل شعلتها ..منذ أكثر من مائة عام كانت الغابة تتعرض للدمار عن طريق الحرائق التي كانت تحدث نتيجة هبوب الرياح الساخنة أو بسبب الصواعق الحارقة ..وكما ترى أن الغابة عبارة عن جزيرة حصينة يحيط بها الماء من كل جانب إذاً فلا مفر ولا نجاة من الهلاك إلا في أحضان ثعابين الماء أو تنانين البحر ..لكن في ذلك الوقت إستطاع أحدهم إيجاد طريقة لإنقاذ سكان الغابة عبر مخطوط قديم منقوش على قطع الحجارة ..لكن للأسف لايوجد أحد منا يجيد القراءة لمعرفة تلك الرموز وتفسير هذه الأشارات ،ولعل هناك تساؤل عالق في ذهنك يحتاج لجواب ..
    - حسناً..سأفصح لك ..لقد أصبحت مشهوراً سيد "مانشو"..وترددت شائعات داخل الغابة تناولتها الأشجار العملاقة عن فأر موهوب يعرف لغة الكلمات ويرسم حروفها .
    قاطعه مانشو مغتاظاً: تمهل ..تمهل ..!! ماهذا الهراء الذي تتحدث عنه ..شيء مخيف قادم ، ومخطوط ،صخور ..ماعلاقتي به ، إنني مجرد فأر ضال ، أتيت من هناك وأشار بيده ،ما وراء ذلك البحر ،علقت بلوح خشبي طرحنى هنا ،أبحث عن طريق يصلني بموطني .
    - لقد وجدت الفكرة حقلاً إيمانياً تسرب إلى عقولهم ، إنهم يصدقونك ، فلا تنفي ذلك الأمل ..دعهم ينعمون به إن كان الأمل قد غادر تلك الغابة .
    -لايمكنني خداعهم .. تلمظ مانشو واستدار إليهم ،ثم صاح بحدة
    - لست الشيء الذي تنتظرونه ،ولا أملك ما أقدمه لكم ، ولا أحفل بفناء الغابة ،فليست موطني ،لاتبتئسوا من كلماتي ..لكنها الحقيقة ..أبحثوا عن مخرج ،دافعوا عن موطنكم ، إنها معركتكم الأخيرة قاتلوا ببسالة من أجل البقاء ..نظر مانشو إلى مارفيل ولم يمهلها أن تتكلم ببنس كلمة ثم دخل النفق تتبعة مارفيل وقد اكتست سحابة من الحزن على أفقها فتلمظت ببضع كلمات ..رمق ماكيرو وهو يتفوه بكلمات ساخرة يصحبها سعال متقطع ..التفت مانشو وقد شعر بالأستياء جراء تلك النظرات الحادة التي أطلقتها مارفيل ونظرات ماكيرو الساخرة فتأجج في قلبه لهيب الغضب
    - لاتنظرا إلي هكذا ..! مارفيل
    ماكان يجب أن تخذلهم
    - وما عساي أن أفعل
    - يقولون ان الأمل حلقة في جسر الإيمان .
    - إيمان ، إيمان إيمان ...لو كان لدي أمل ..ما كنت مكثت في تلك الغابة اللعينة ..تطاردني أفعى رقطاء..أختبأ في تلك الحفرة ،والتقي بسكير لايفيق من غمرات الهذيان..وأنتي ..! غضبت مارفيل وشعرت بالأستياء
    - وأنا ماذا ..تكلم !..أنت تعولني ..لقد أصبح الجميع ثقل عليك ..قريباً ستفقد كل من حولك ..ثم غادرت مارفيل وقد استبد بها الغضب ونزقت دموعها تجري كالخيوط وهرولت للخارج ..التفت مانشو إلى ماكيرو متذرعاً بالأسف والأستياء وقد ارتسمت على ملامحه بوادر الندم والحيرة ..نهض ماكيرو متثاقلاً يئن من الألم يبصق السعال
    - أنت في مأزق ياصديقي ..عليك أن تجد حلاً سريع ..لعل هؤلاء يساعدونك في العودة لموطنك ..لاتقلل من فرصك ..قد تصدق مارفيل حينما قالت : قريباً ستفقد من حولك ،أهرب ياصديقي وغادر تلك الغابة اللعينة ،فإنها ستقضي عليك في صباح اليوم التالي عزم مانشو على الرحيل من الغابة ومغادرتها بأي ثمن ،حاول أقناع "ائلاً ماكيرو "بمرافقته والعوده معه إلى موطنه ..لكن ماكيرو آبى ورفض الفكرة لكنه حث مانشو على المغادرة قائلاً:
    - قريباً ستحترق الغابة وتندثر ،لاشيء يبقى على حاله ياصديقي ..تنسم ماكيرو عبير الصباح وملأ رئتيه ،ثم تحسس خاصرته وهو يئن ساخراً
    - تغذوا جيداً يا أطفالي ..فقريباً سأطلق سراحكم ،ثم رمق بمؤخرة عينه أنثى الدبور وهي تحوم قريباً منه ..تجرع شراب الصبار حتى يُسكر المفترس الذي يمتص أحشاءه..حمل مانشو متاعه وغادر متجهاً إلى الساحل ، إجتر قاربه بعدما رأب صدوعه التي هشمتها أنياب الثعابين، عندما أطاحت به الرياح قرب الساحل ..رنا إلى مسامعه حركة مريبة تصدر بين الأغصان العالية ..تسلح مانشو بأسنة حادة نزعها ماكيرو من فرائه ومنحها إياه تقديراً له .. كان ظل أجنحة يحوم عالياً مالبث أن استحال طائر البوم عندما صفقت بأجنحتها ثم دنت قريباً منه .
    - الشمس مشرقة ،والسماء خالية من السحب والغيوم ،لاتوجد فرصة هبوب الرياح أو قدوم الأعاصير ..حراس الغابة هربوا إلى الأعماق خوفاً من القادم ، الفرصة سانحة للأبحار
    - أرحل أيها الفأر ..فلن ينجو أحداً...ثم صفقت بأجنحتها وضربت الحصى بقوة ثم حلقت عالياً وهي تردد بصوتاً مكتوم
    - أرحل ..أرحل .ظل الصدى يتردد بين قمم الجبال والأشجار حتى تبخر في الفضاء ،وثب مانشو إلى القارب وضرب الماء بمجدافة ،شعر بوخزات الضمير كالسياط تلفح جلده فقفز إلى الماء وهرول سريعاً يتخطى الأعشاب والشجيرات يبحث عن مارفيل ..لم يجد أحداً في الغابة ..تسائل : أين ذهب الجميع ..؟ الغابة خاوية عن بكرة أبيها ..هناك شيء ما يجري ..! إستدعى بذهنه صور الأحداث الأخيرة التي مرت قريبة منه ،فطن إلى مقولة السلحفاة العجوز عن مخطوط قابع بين قرني الشمس وراء منحدر الشلال ،ركض مانشو بسرعة هائلة ،تسور شجيرة عالية، قفز فوق أغصانها وارتقى عالياً لينظر أي طريق وعر حتى رمق جموع غفيرة من الحيوانات ينتظرون ينتظرون شيء ما وراء الشلال ..شرع مانشو ينهب الغابة وثباً وعدواً حتى وصل إلى مرمى الجموع الغفيرة فاخترق صفوفهم مما أصابهم بذهول تام قضى وتفاجأ البعض بقدوم مانشو الذي وصل لحافة الصخرة العظيمة التي نشب في كبدها قرنين عظيمين لمفترس من الديناصورات المندثرة ،كانت السلحفاة العجوز برفقة مارفيل وماكيرو ،وتوأم السناجب باتشيليو يتفرسون في تلك النقوش ويتداولون الأراء ويطرحون الخيارات للخروق من ذلك المأزق ..وصل مانشو وقد أضناه التعب فأخذ يلهث وهو يحدق إلى مارفيل وقد تجلجلت بسحابة من الأسف ارتسمت على جبينها وقد نكست رأسها ..تطلعت السلحفاة العجوز إلى مانشو وقد غشي جبينها علامات الأرتياح ،اقترب التوأم باتشيليو ليصافحوا مانشو ويعبروا عن مدى سعادتهم بتضامنه معهم ،رفع مانشو مقارضه وأشار متأسفاً للجميع
    - لاعليكم ..نظر ماكيرو إلى مانشو ساخراً ثم التفت للنقوش وقد بصق عليها ثم تفوه ببضع كلمات يلعن فيها الغابة وسكانها ولم ينثى أن يكيل السباب واللعن لأنثى الدبور ..دنى مانشو من القرون الناشبة في أعماق الصخرة وحاول قراءة وتأمل النقوش المهترئة والتي استعصت على الفهم والتفسير ..مانشو مذهولاً
    - لغة غريبة ..لم أرى البشر في المدينة التي كنت أسكن فيها يتعاطونها ..تحسس مانشو وضعية الحروف التي وكأنها نُحتت بأسنة العظام ..قال مانشو
    - ألا تساعدونني ..تنافر الجميع وتأهبوا لتقديم يد المساعدة ..قال التوأم باتشيليو
    - لعلها النقوش تشير إلى الغابة البديلة ..مانشو
    -ماذا ..؟
    ماكيرو ولايفتأ يبصق الدماء من فيه
    - كانت هناك أساطير عن وجود غابة بديلة ..لجأ إليها القدماء عند اشتعال الغابة ،وبعد فناء الغابة وهطول الأمطار نمت البذور وتفرعت الأشجار من جذورها وعادت الغابة كما كانت ..ولكنى أدرك حيرتك ، لعلك تتسائل: وأين الجسر أو الطريق المؤدي للغابة البديلة
    السلحفاة العجوز ديفانيور
    - لذلك نعتقد أن المخطوط يحوي إشارات ورموز ستساعدنا في إيجاد الجسر المؤدي للغابة البديلة ..ولعلك تدرك أن الوقت قصير ،ثم أشار بيده إلى الشمال : البوابة الشمالية للغابة قد احترقت تماماً نتيجة لسقوط ألسنة من النار ضربت الأشجار فاشتعلت النيران وقضت على جميع الأحياء هناك ..الرعب والفزع يسري في قلوبهم فلا تلومهم لو أغلظ أحدهم القول فورائهم أسر وعوائل ولايجيدون سوى الإنتقال من مكان لمكان سعياً وراء رزقهم .
    مانشو
    - إنني أتفهم الأمر ..لاعليك ..دعنا نبحث عن طريقة ما ،لإجلاء الغوامض عن تلك الحروف ..تكاتف الجميع وتضامنوا للمساعدة في حل الشفرات، كلاً بما أوتي من حصافة وفهم حتى انتصفت الشمس في كبد السماء ..ومع غروب الشمس وجنوح الليل وثب الظلام ينثر أرديته فوق هامة الأفق سطع القمر يشق بمجدافه أمواج عاتية من السحب المخضلة بالمطر ..قضى مانشو ورفاقة يقدحون الفكرة تلو الفكرة ويقدمون الخيارات فيسقطون في متاهة من التساؤلات حتى أعياهم السؤال واستعصى الجواب فتسرب إليهم اليأس حتى ثقل الأمر فأذعنوا للخنوع والأستسلام ..كان الافق الشرقي يبرق ويضطرب وأصوات الرعد تزلزل الغابة فتضرب الأشجار بمقصف زيوس وتحيل الصخور إلى نار ورماد ،دب الخوف فوق رؤوس الحيوانات وأدركوا أن الفأر مانشو قد عجز عن إيجاد مخرج للمأزق ، فتفرقوا وتشتتوا ومضوا يبحثون عن ملاذ وطريق للفرار ،والسلحفاة العجوز ديفانيور تحاول إيقافهم وحثهم على الرجوع .. جلس مانشو متحسراً ناكساً رأسه بين مقارضه ،أشفقت مارفيل على ما آل إليه مانشو وأربدت على راسه بلمسة حانية : لاتقلق غداً سنجد حلاً ما
    مانشو
    - أشعر كأنني خذلتهم ..مثلما خذلت قبيلتي ورحلت هارباً عنها
    مارفيل

    - أن قلبك يخلو من الكراهية ويحب الاخرين فأنت مثالي ..يكفي أنك لم تتخل عني ..ولن أنسى لك هذا ..أنت فأر طيب ..لاتحمل ضغينة لأحد ..لقد فعلت ما بوسعك، فلا تشعر بالأستياء
    مانشو
    - شكراً مارفيل ..كنتى نعم الصديقة وقت ما أحتاجها
    مارفيل
    -لابأس عزيزي ..كل شيء سيكون على مايرام
    مانشو
    - علينا البحث عن طريق أخر
    مارفيل
    - ماذا تقصد ..؟
    مانشو
    - مما تشتعل النيران
    ماكيرو
    - عندما يتسنى لها الوقود
    مانشو
    - إذاً فلنبحث عن الوقود
    ماكيرو مبتسما
    - لقد فطن الجرذ لطريق الغابة البديلة
    أتت السلحفاة العجوز ديفانيور والسنجاب التوأم بارتيليشيو، وسيد الأرانب جيكو الكسلان ،لمشاركة مانشو خطته البديلة
    مانشو
    - لا أعتقد أن هناك غابة بديلة ..ولا أرى تلك الرموز والأشارات التي تكن لها الحيوانات قدسية سوى مجرد ترهات وردود أفعال من الخوف صنعت تلك الخرافات ..الوقت يداهمنا ولابد من إيجاد حل بديل
    الخطة التي وضعتها هي مواجهة الرعود .
    أصيب الجميع بالذهول : ماذا..؟
    - هل جننت ..! أنت تدعونا للأنتحار
    بارتيلشيو
    - لابد أن الصخرة التي نقدتها قد ألقت عليك اللعنة ..
    ديفانيور
    - وراء الأمر شيء ..هات ما عندك
    مانشو
    -












    عند رحيل أخر نقطة ضوء من النهار ،تمددت جسور الليل المظلم فوق ناصية الأفق ،إيذاناً بعبور قوافل الموت المزمجرة فوق قباب المدينة المنكوبة ، بين الركام والأنقاض سقطت أخر مئذنة في حلب ، عندما نُحر الأمل داخل مدينة الأحلام الضائعة ..بضعة أسطر خالية تركها المدون دون تفسير سوى الكثير من علامات الإستفهام داخل ذاكرة التاريخ، جزء ناقص في وجدان تلك المدينة الضائعة استشعر المدون حرجاً في كتابته دون عنوان ..لن يكون هناك مستقبل يُذكر ما لم يرأب مدون التاريخ الصدوع التى استحالت شقوق تمنع طي تلك الصحيفة البائسة ..ليس هناك شواهد ،تفسيرات ،حقائق ..تعلل صورة الحدث ،القضية ، المصيبة ،النكبة التى حاقت بالمدينة ..الذين مروا من هناك ،تحجرت أعينهم ،وهم يرون الأنسانية تتجرد من أدميتها ..ما أسعدك اليوم يا لوسيفير وأنت تختن أجساد العذارى بوشم الدماء ،والقناديل البيضاء تتدلى بابتسامتها تحت جدران الإنتصار .
    التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 14-12-2016, 08:00.
    الحمد لله كما ينبغي








  • وفاء حمزة
    أديب وكاتب
    • 11-12-2015
    • 628

    #2
    خيال واسع وجميل تحتاج فقط للتكثف حتى لا تفقد المتلقي
    مع التحية
    https://www.facebook.com/profile.php...ibextid=uzlsIk

    تعليق

    • عبد الحميد عبد البصير أحمد
      أديب وكاتب
      • 09-04-2011
      • 768

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة وفاء حمزة مشاهدة المشاركة
      خيال واسع وجميل تحتاج فقط للتكثف حتى لا تفقد المتلقي
      مع التحية
      ليست بقصة فصيرة ..بل مقطع صغير اعدها لتكون رواية ..
      ولم أثبت بعد على تلك المقدمة ..مجموعة افكار فقط

      شكرا لمرورك وفاء
      الحمد لله كما ينبغي








      تعليق

      • أميمة محمد
        مشرف
        • 27-05-2015
        • 4960

        #4
        لك قلم سردي رائع وأرجو أن نراها رواية ، ليس عصيا على قلمك ومزيدا من الجهد للوصول لنهايتها
        قصة فأر وخيال واسع وأسلوب ممتع... مع نهاية وعبرة، سيكون هذا جيداً.. تساءلت أي نوع من الروايات تريد لها أن تكون
        وكقصة قصيرة كما قالت وفاء تحتاج للتكثيف
        أحمد فريد قلم يعمل بجد ويركز كتاباته في القصة.. التخصص جيد ونأمل له مجموعة أو مجموعات قصصية.. بالتوفيق

        تعليق

        • رقية عبد الرحمن
          أديب وكاتب
          • 07-02-2016
          • 145

          #5
          نص اطول بكثير من ان تكون قصة قصيرة
          تملك المقومات اخي اسلوب قصصي ممتع
          ولغة جميلة
          ممتنة

          تعليق

          يعمل...
          X