
في اليوم الموعود،لفظته غياهب السجن الكئيب.. وجد نفسه طليقا تداعب محياه نسائم الدنيا من جديد .. نفض عن كيانه أذران الزنازن الخانقة وثقل القيود المدمية بعد أشهر وأيام توالت عليه حسوما..ارتمى بشوق ولهفة بين أحضان الفضاء الفسيح مغمورا بنشوة الوصال.
احتوته القاعة الكبرى ،في ركن من أركان بيته العتيق..طاولات خشبية تمتد قي صفوف بطول وعرض الحيطان،تعلوها بقايا من أقفاص،واخرى شدت إلى السقف بأسلاك حديدية..كل الأقفاص خلت من طيورها بعد ان بيعت كلها بناء على وصية منه لذوي قرباه قبل أن تتقاذفه أهوال الزمن الصارم في محبس الشؤم،عدا قفص واحد في إحدى الزوايا..يربض في غوره طائره الوحيد والمفضل وقد ملأ الجو بتغاريد البِشْر وحفاوة الترحيب،كما لو أنه أدرك بغريزته الحيوانية أن صاحبه قد عاد إليه بعد طول غياب..
خطا نحوه بخطى وئيدة ..جلس على مقربة منه وأخذ يتأمله للحظات كما لو أنه يراه لأول مرة..ريش مزركش بأصناف من ألوان بديعة، منقار دقيق عينان مستديرتان.. زقزقات غير معهوده أدرك فحواها على الفور ..كان ينط من أرجوحة إلى اخرى.. يتمايل في كل الاتجاهات محاولا ضبط إيقاع توازنه برفرفات متوالية..
على حين غرة وبلا شعور،امتدت يده إلى بوابة القفص..فتحها ..أمسك برفق بالطائر..أخرجه بتؤدة من مربضه..حملته أفراس الذكرى إلى أغوار محبسه بالأمس القريب..استعاد غربة وضيق المكان ووحشته المريرة وتحركاته المحدودة والحصار المضروب على نماذج بشرية على شاكلته ..حينذاك تناهى إلى بؤرة مداركه أن الماثل أمامه الساعة هو أشد استشعارا لهول ورعب هذا الحيز المكاني المقيت، وربما أكثر مما يتصور..
أخذ يقلّبه بين أصابعه في كل الأوضاع..رمقه بنظرات متتالية فيها وجع وانكسار..هز رأسه مخاطبا إياه بوداعة :" أيها الطائر الأبهى..أنت مخلوق لتطير..فلتجللك العناية الربانية بجلالها..!..اذهب..فأنت الحر الطليق...!!"
تسلل الطائر على عجل استبشارا وابتهاجا من بين القبضة الآدمية مترنما بأناشيد يوم جديد..اندفع صوب الفراغ ..هناك بعيدا عبر الأجبل والأودية والسهول...
تعليق