" .العذراء والرعوي .... ساري وميسون "
..........
على العشب الأخضر يكسو الأرض فوق متسّع السهل حتى الأفق ويتفلَّق مزدهرا بلطخات من الطيف هنا وهناك تتقاطر أسراب البنات من القرى حول البئر على جانبي الطريق جيئةً وذهاباً كزكرشة خيطٍ متقطع الالوان , ناصباتٍ جرارهن على لفة من قماش فوق رؤوسهن , مائجاتٍ على المنعطفات في الطريق , يتراقصن على إيقاعاتها لإحداث التوازن عند رجرجة الماء في الجرار .
يَمْسكْنَ بالحبل متضامنات , ويجرِيْنَ كدرّات في عقد إنفطرن حافياتٍ لتصعيد الدلو من قعر البئر بعد أن امتلأ بالماء , ينتثرن حول إحداهنّ تملأ جرتها ويتبادلن الأحاديث والحكايات , تقترب إحداهن من أخرى لتهمس في أذنها بنبأٍ لايليق بها إباحته على الأخريات .
خلال رحلته المكوكية بين منزله والمرعي يرد بغنمه الماء في الحوض الطيني عند البئر التي تتحلق حولها الفتيات , يقف تحت ظل شجرة على الطريق حتى ترتوي فيهش عليها بعصاه ويذهب .
في هذه المرة رآها , نشبت عيناه فيها ولم تغادرها .
جفّت الماء في الجبل , وانْغَزَلَ المطر خيوطا من ضباب في السماء , فهطلت مَيْسُوْنُ على السهل بجانب البئر لتجلب الماء .
الطريق من قمة الجبل إلى البئر كسحبة ثعبان ولا مساحة لحركة على الطريق غير نقل القدم إلى أمام .
منذ اليوم يرد غنمه الماء في الحوض لا يهشُّ عليها , يتريّثُ حتى تملأ جرَّتها , تحملها فوق رأسها وتذهب , تصعد المنحدر وكأن طبولا ترافقها تقرع حولها لتشكيل خطاها فوق حدبات الصخور وعلى الفراغات بينها , عندها يسوق غنمه ويواصل سيره نحو المرعي .
.كُنَّ يُقدّمنها , ويملأن جرتها قبل جرارهن , يتحالفن على سحب الحبل ورفع الدلو من قاع البئر ويتركنها تستريح , يمْلَأْنَ جرّتها , ويرفعنها فوق رأسها لتذهب وتصعد الجبل , ثم يقمن بملء جرارهن الواحدة تلو الأخرى على قاعدة الواردة أولاً تملأ أولا , سوى ميسون بنت حبيب شيخ الجبل فسيملأن جرّتها أولا في كل الأحوال .
تمنّى أن يُعَطِّلَ هذا النظام وأن تتأخرهن جميعا ليتقدم ويسحب الحبل , حبل جرّتها فحسب , يملؤها , ثم يرفعها ويستطيل ويستطيل , وحين عيناه في عينيها يضع جرتها فوق رأسها وعلى مهل .
فيما جرَّتها ممتلئة ستقتنص زمنا لايلحظْنَهُ للبقاء هنا , تلاعبهنّ , تمازحهنّ , وتراجمهنّ بحبات الطين بجانب الحوض والحصوات , حين الغنم ترد الحوض ,وترتوي , بينما ساري تحت الشجرة القريبة ينتظر غنمه حتى تقفل نحوه مرتوية .
في الأيام التاليات بدأ الغنم يتأخر عند الحوض ويرتوي على مهل , يتلمّس في ميسون التي تمسح على ضهورها برفق , فيما عيناها تذهبان إلى تحت الشجرة , وفيما هو يدع غنمه حيث عيناه تستريح تحت لمسات أناملها .
كانت تسمتع إلى حكايات صديقاتها عن الرعوي والذي تمكن من دون غيره من الناس من فتح الطريق ليلاً أمام أهالي القرى عند المثلث الذي يربط بين السهل والجبل والذي يكمن فيه حيوان القشوي (1) ليباغت فريسته من المارة ليلا ويمارس عليها طقوسه كما يفعل القط مع الجرادة بين يديه , وأن الرعوي وحده من قرر أن يجتاز المثلث أثناء الليل ليلتقي القشوي وجها لوجه ويتغلب عليه ويصرعه في المنازلة الشهيرة بينهما والتي يتحدث عنها الجميع , وليفتح الطريق أمام الناس إلى كل القرى والمحلاّت .
سُمِّيَ ساري لأنه يسري الليل في الخلوات غير آبهٍ بالوحوش والهوام , وقيل أنه ركب على النسر وذهب إلى بلاد بعيدة لايعلم بها أحدٌ سواه . .
وأن النبَّاش (2) قد نادى عليه في إحدى الليالي , وتذكرت حكايات جدتها في ليالي طفولتها بان النباش ينادي في وقت متأخر من الليل على هذا الذي اختاره من بين الساكنين أجمعين بقولته الشهيرة : يافلان حلّيتني بك (3) وأن أحدا غيرمن تحلّى به النباش لايسمع النداء, وحين يموت ويتم دفنه يأتي النباش في الليل ويحفر القبر ويحمل جثة الميّت ويذهب به إلى بيته الذي لم يستطع أحد الوصول إليه على مرّ العصور فيضعه بين مخالب وأنياب صغاره فيأكلوه , وأن النادر من الناس هم من شاهدوا النباش وهو يحمل جثّةً على كتفيه متحلِّقاً على كفنها وأن رائحة الحنوط تظل تعبق في الطريق من القبر إلى بيت النباش طوال الليل , ويصفونه بكائن ضخم من القرد والانسان , يمشي على قدمين ويكسوه شعر غزير , وله كفّان كصحني المحراث , وأظافر طويلة حادة كالمزاميل .
.
.........................
في ليلة من ليالي القمر , وعند الساعات الأولى من الفجر كان قانص إبن عمة ميسون متقرفصا في الطرف من حافة الجبل المطلة على السهل فرأى وكأن شجرة خضراء تمشي وتصعد بجانب الطريق الطالعة من السهل نحو قمة الجبل فصعق , بسط كفّيه على صدره , وأحسّ بدوار , وكاد أن يغمى عليه , فاستعاذ من الشيطان وقرأ المعوذتين وعاد ودخل البيت مسرعا كي لايشاهده الشيطان فيخترقه ويسكن فيه .
لم يخبر أحداً , سيتبيّن لهم بأنه قد فقد عقله فلم يكن قد تأكّد له بأن شجرة خضراء تدبّ على الأرض كما يدبّ الانسان .
مرةً أخرى شاهد شجرة خضراء تتحرك على المنحدر هابطة , تمشي ثم تقف , ثم تمشي ثم تقف ثم تغيب , حمد الله أنها تذهب بعيدا عنه نحو السهل , لكنها تغيب قبل أن تصل إلى السهل وهكذا تفعل الشياطين .
كاد أن يصاب بالجنون حقاً في هذه المرة حين شاهد شجرة ذات جذعين لا تتحرك على المنحدر فحسب , بل وتصعد نحو نافذة حجرة ميسون على الطرف من المنحدر .
لم يتحقّق له ولوج الشيطان إلى حجرتها , كانت حجرة ميسون تنحدر نحو الجهة المقابلة , لكن الشيطان اختفى هناك , عند انحدار النافذة .
عينا ساري تذهب في السماء , تسبح في غابة الأنجم التي اختطها حبريل طريقا في السماء حين كان يسحب الذبح العظيم من الله إلى إبراهيم ليفتدي به إبن هاجر إسماعيل (4) .
سَحْبةُ الأضحية تخلف رغوة عظيمة من أنجم تغطي برذاذها السماء .
وكل شيئ في بيته ينام الآن , الأنفاس تغوص , والديكة تصيح , تناول خنجره , شده إلى جنبه , رفع عصاه على كتفه , دفع الباب وخرج .
الشفق يتوهج فوق الجبال , يشفُّ في الأسفل على السطح , ويتألق على أكتاف الأودية , يسافر في أجوافها منحدرا إلى الغرب في قماشة من الضباب شفافة , تبيح فتنة الماء الفاتحة على أحضان الفجر . ..
الْعُشْبُ يرفل في الندى مغتبطا على السطح , ويعود رُوَيْداً رُوَيْداً , صاعداً على الجانبين من ضفاف الوديان نحو الجبال , تتخلله بعض شجيرات ككائنات بشرية نصف قائمة .
وخرير الماء الهائم أبدا كفلقات صدرها يمر به دون توقف , وعلى كف الجبل العالي يتألق منزلها بين المنازل المعلّقة فوق أكف الجبال المجاورة ككائنات مستطرقة يتم عرضها في الشرق .
وعيناها نحو القعر من المنحدر تتصيد ساري .
انفلق جسدها في الأسفل حين أسندت مرفقها على فخذها المقوس فوق النافذة مستندة على قدمها في القاع من الحجرة .
القمر يعبر السماء بين أرتال من السحب البهيجة , وهسيس الليل يزفر ويشهق في الفضاءات , وشعلة المصباح التي تنبلج الآن تتوهج من نافذة حجرتها حينا وتختفي حينا خلف ستارة شفيفة من الضباب تذهب وتعود .
يعتمر فوق رأسه عشبة خضراء , خطوتان ثم يقف , هكذا لن يلحظه أحد ضمن خرير العشب المنسكب بالخضرة على كرمشة الجبل الصاعدة حتى حجرتها .
لايمكنه الصعود إلى مستوى النافذة , كان منحدرا حادا .
تشير إليه ميسون بالدوران حول جدران حجرتها حتى يناظر بابها ويتقرفص تحت عشبته الخضراء .
تقف ميسون على أطراف أصابعها وتذهب نحو باب حجرتها لتفتحه رويدا رويدا تلافيا لأي صرير , ترسل عينيها في الأجواء حولها تترصّد أي قادم أو ذاهب في الزقاق , ثم تشير إليه قابعا كعشبة بالدخول , وتسحب الباب إليهما وتغلقه .
الحبّ هنا ليس إلا .
الحب ليس للفضاءات .
الحب محاصر في الحجرات المغلقة .
وفوق قمة الجبل المعتمرة بعمامة من الضباب يتحلّق بشر ..
تصل جلجلة حديثهم من بين الظلام من بعيد كريح في صحراء .
ولن تستطيع تمييز المتكلم منهم على الدوام
جلبة الحديث المختلط لا تدلُّ على أمر بعينه , ولا تعلن عن أصحابها .
للتو ينبلج الضوء فجأة من مصباح الغاز خلال رقرقة الضباب فيمن حوله ليفتح على الأوجه المتحلقة حول وجهه الوقور بلحيته الكثة الحمراء معتمرا فوق راسه شاله المنقوش .
كان أحدهم في طريقه إلى هنا , لم يَلْوِ على أحد غير الشيخ حبيب ليقترب منه , يدنو ويسر في أذنه بقولٍ ما .
· إنه أبي . تضع كفها الحنين بكلّ الذعر على صدرها وتبحلق في عينيّ ساري .
تطوف عيناه في المكان , ليس غير الباب والنافذة , غير أبيها بعد الباب , غير السحيق بعد النافذة , ينظر في عينيها , في وجدها المعتقل في الاعماق , يضع يده على المصباح ماذا يريد بالمصباح ؟ يتركه ويذهب نحو النافذة , ستسمك به , تقبّله تضمّه ,تذوب فيه , تصير فيه , تَهْوِيْ فيه , في وجه آخر ستطويه في قلبها , ستحفظه حيث لاأحد يراه , في جوفها , لها من دون كل الناس , تحجبه هناك , بعيدا عن أبيها عن كل البشر , عن القدر , لن تدعه يهوي إلى القعر , لكن ساري يحلق حول النافذة ويرمي بالعشبة إلى السحيق , سيقتلهما معاً إن دخل عليهما , طرقات على الباب ساخطة , تفتح ميسون الباب , يقفز ساري من النافذة , كأنها ابتلعت الجبل والشجر وأباها ,
كان يمسك به في يده وهو ينظر إليها :
· ستتزوجين إبن عمتك قانص ياميسون , غدا سنعقد القران .
.يتداول الناس بأن ساري وحين كان يركب فوق ظهر نسر عظيم صاعدا في طريقه من السهل إلى الجبل فقد نادى عليه النباش نداءه الشهير قائلا : " ياساري حلِّيْتَنِيْ بك " , وأن ساري قد سمع النداء وهو في السماء .
في ليلة من الليالي مقمرة كان ساري يركب فوق ظهر النسر العظيم هابطا من نجد في الجبل إلى السهل في تهامة , وفي حين أرخى النسر مخلبيه استعدادا للهبوط فقد حان في تلك اللحظة أجل سامي في السماء , فلم يتأخر لحظة مثلما لم يتقدم لحظة فهوى من فوق ظهر النسر وتحطم فوق الصخور فجاء النباش وحمل جثته متحلِّقا عليها فوق ظهره دون كفن ودون حنوط إلى مكان غير معلوم .
.
............
1- القشوي :حيوان من فصيلة النمور
2- النباش : في الحكاية الشعبية حيوان من قرد وإنسان صخم يكسوه شعر غزير وله كفان كصحني محراث وأظافر كالأزاميل ويمشي على قدمين ويتحدث كالانسان ويتغذى على الموتي الذين كان قد اختارهم ونادى عليهم بأسمائهم أحياء بنبش قبورهم وحمل جثثهم إلى بيته ليأكلهم مع أبنائه .
3- حلّيتني بك : جعلتك لي خاصتي لايشاركني فيك أحد .
4- هي " مجرّة أندروميدا وهي أقرب المجرات إلى درب التبانة , والتي ضمنها مجموعتنا الشمسية "
..........
على العشب الأخضر يكسو الأرض فوق متسّع السهل حتى الأفق ويتفلَّق مزدهرا بلطخات من الطيف هنا وهناك تتقاطر أسراب البنات من القرى حول البئر على جانبي الطريق جيئةً وذهاباً كزكرشة خيطٍ متقطع الالوان , ناصباتٍ جرارهن على لفة من قماش فوق رؤوسهن , مائجاتٍ على المنعطفات في الطريق , يتراقصن على إيقاعاتها لإحداث التوازن عند رجرجة الماء في الجرار .
يَمْسكْنَ بالحبل متضامنات , ويجرِيْنَ كدرّات في عقد إنفطرن حافياتٍ لتصعيد الدلو من قعر البئر بعد أن امتلأ بالماء , ينتثرن حول إحداهنّ تملأ جرتها ويتبادلن الأحاديث والحكايات , تقترب إحداهن من أخرى لتهمس في أذنها بنبأٍ لايليق بها إباحته على الأخريات .
خلال رحلته المكوكية بين منزله والمرعي يرد بغنمه الماء في الحوض الطيني عند البئر التي تتحلق حولها الفتيات , يقف تحت ظل شجرة على الطريق حتى ترتوي فيهش عليها بعصاه ويذهب .
في هذه المرة رآها , نشبت عيناه فيها ولم تغادرها .
جفّت الماء في الجبل , وانْغَزَلَ المطر خيوطا من ضباب في السماء , فهطلت مَيْسُوْنُ على السهل بجانب البئر لتجلب الماء .
الطريق من قمة الجبل إلى البئر كسحبة ثعبان ولا مساحة لحركة على الطريق غير نقل القدم إلى أمام .
منذ اليوم يرد غنمه الماء في الحوض لا يهشُّ عليها , يتريّثُ حتى تملأ جرَّتها , تحملها فوق رأسها وتذهب , تصعد المنحدر وكأن طبولا ترافقها تقرع حولها لتشكيل خطاها فوق حدبات الصخور وعلى الفراغات بينها , عندها يسوق غنمه ويواصل سيره نحو المرعي .
.كُنَّ يُقدّمنها , ويملأن جرتها قبل جرارهن , يتحالفن على سحب الحبل ورفع الدلو من قاع البئر ويتركنها تستريح , يمْلَأْنَ جرّتها , ويرفعنها فوق رأسها لتذهب وتصعد الجبل , ثم يقمن بملء جرارهن الواحدة تلو الأخرى على قاعدة الواردة أولاً تملأ أولا , سوى ميسون بنت حبيب شيخ الجبل فسيملأن جرّتها أولا في كل الأحوال .
تمنّى أن يُعَطِّلَ هذا النظام وأن تتأخرهن جميعا ليتقدم ويسحب الحبل , حبل جرّتها فحسب , يملؤها , ثم يرفعها ويستطيل ويستطيل , وحين عيناه في عينيها يضع جرتها فوق رأسها وعلى مهل .
فيما جرَّتها ممتلئة ستقتنص زمنا لايلحظْنَهُ للبقاء هنا , تلاعبهنّ , تمازحهنّ , وتراجمهنّ بحبات الطين بجانب الحوض والحصوات , حين الغنم ترد الحوض ,وترتوي , بينما ساري تحت الشجرة القريبة ينتظر غنمه حتى تقفل نحوه مرتوية .
في الأيام التاليات بدأ الغنم يتأخر عند الحوض ويرتوي على مهل , يتلمّس في ميسون التي تمسح على ضهورها برفق , فيما عيناها تذهبان إلى تحت الشجرة , وفيما هو يدع غنمه حيث عيناه تستريح تحت لمسات أناملها .
كانت تسمتع إلى حكايات صديقاتها عن الرعوي والذي تمكن من دون غيره من الناس من فتح الطريق ليلاً أمام أهالي القرى عند المثلث الذي يربط بين السهل والجبل والذي يكمن فيه حيوان القشوي (1) ليباغت فريسته من المارة ليلا ويمارس عليها طقوسه كما يفعل القط مع الجرادة بين يديه , وأن الرعوي وحده من قرر أن يجتاز المثلث أثناء الليل ليلتقي القشوي وجها لوجه ويتغلب عليه ويصرعه في المنازلة الشهيرة بينهما والتي يتحدث عنها الجميع , وليفتح الطريق أمام الناس إلى كل القرى والمحلاّت .
سُمِّيَ ساري لأنه يسري الليل في الخلوات غير آبهٍ بالوحوش والهوام , وقيل أنه ركب على النسر وذهب إلى بلاد بعيدة لايعلم بها أحدٌ سواه . .
وأن النبَّاش (2) قد نادى عليه في إحدى الليالي , وتذكرت حكايات جدتها في ليالي طفولتها بان النباش ينادي في وقت متأخر من الليل على هذا الذي اختاره من بين الساكنين أجمعين بقولته الشهيرة : يافلان حلّيتني بك (3) وأن أحدا غيرمن تحلّى به النباش لايسمع النداء, وحين يموت ويتم دفنه يأتي النباش في الليل ويحفر القبر ويحمل جثة الميّت ويذهب به إلى بيته الذي لم يستطع أحد الوصول إليه على مرّ العصور فيضعه بين مخالب وأنياب صغاره فيأكلوه , وأن النادر من الناس هم من شاهدوا النباش وهو يحمل جثّةً على كتفيه متحلِّقاً على كفنها وأن رائحة الحنوط تظل تعبق في الطريق من القبر إلى بيت النباش طوال الليل , ويصفونه بكائن ضخم من القرد والانسان , يمشي على قدمين ويكسوه شعر غزير , وله كفّان كصحني المحراث , وأظافر طويلة حادة كالمزاميل .
.
.........................
في ليلة من ليالي القمر , وعند الساعات الأولى من الفجر كان قانص إبن عمة ميسون متقرفصا في الطرف من حافة الجبل المطلة على السهل فرأى وكأن شجرة خضراء تمشي وتصعد بجانب الطريق الطالعة من السهل نحو قمة الجبل فصعق , بسط كفّيه على صدره , وأحسّ بدوار , وكاد أن يغمى عليه , فاستعاذ من الشيطان وقرأ المعوذتين وعاد ودخل البيت مسرعا كي لايشاهده الشيطان فيخترقه ويسكن فيه .
لم يخبر أحداً , سيتبيّن لهم بأنه قد فقد عقله فلم يكن قد تأكّد له بأن شجرة خضراء تدبّ على الأرض كما يدبّ الانسان .
مرةً أخرى شاهد شجرة خضراء تتحرك على المنحدر هابطة , تمشي ثم تقف , ثم تمشي ثم تقف ثم تغيب , حمد الله أنها تذهب بعيدا عنه نحو السهل , لكنها تغيب قبل أن تصل إلى السهل وهكذا تفعل الشياطين .
كاد أن يصاب بالجنون حقاً في هذه المرة حين شاهد شجرة ذات جذعين لا تتحرك على المنحدر فحسب , بل وتصعد نحو نافذة حجرة ميسون على الطرف من المنحدر .
لم يتحقّق له ولوج الشيطان إلى حجرتها , كانت حجرة ميسون تنحدر نحو الجهة المقابلة , لكن الشيطان اختفى هناك , عند انحدار النافذة .
عينا ساري تذهب في السماء , تسبح في غابة الأنجم التي اختطها حبريل طريقا في السماء حين كان يسحب الذبح العظيم من الله إلى إبراهيم ليفتدي به إبن هاجر إسماعيل (4) .
سَحْبةُ الأضحية تخلف رغوة عظيمة من أنجم تغطي برذاذها السماء .
وكل شيئ في بيته ينام الآن , الأنفاس تغوص , والديكة تصيح , تناول خنجره , شده إلى جنبه , رفع عصاه على كتفه , دفع الباب وخرج .
الشفق يتوهج فوق الجبال , يشفُّ في الأسفل على السطح , ويتألق على أكتاف الأودية , يسافر في أجوافها منحدرا إلى الغرب في قماشة من الضباب شفافة , تبيح فتنة الماء الفاتحة على أحضان الفجر . ..
الْعُشْبُ يرفل في الندى مغتبطا على السطح , ويعود رُوَيْداً رُوَيْداً , صاعداً على الجانبين من ضفاف الوديان نحو الجبال , تتخلله بعض شجيرات ككائنات بشرية نصف قائمة .
وخرير الماء الهائم أبدا كفلقات صدرها يمر به دون توقف , وعلى كف الجبل العالي يتألق منزلها بين المنازل المعلّقة فوق أكف الجبال المجاورة ككائنات مستطرقة يتم عرضها في الشرق .
وعيناها نحو القعر من المنحدر تتصيد ساري .
انفلق جسدها في الأسفل حين أسندت مرفقها على فخذها المقوس فوق النافذة مستندة على قدمها في القاع من الحجرة .
القمر يعبر السماء بين أرتال من السحب البهيجة , وهسيس الليل يزفر ويشهق في الفضاءات , وشعلة المصباح التي تنبلج الآن تتوهج من نافذة حجرتها حينا وتختفي حينا خلف ستارة شفيفة من الضباب تذهب وتعود .
يعتمر فوق رأسه عشبة خضراء , خطوتان ثم يقف , هكذا لن يلحظه أحد ضمن خرير العشب المنسكب بالخضرة على كرمشة الجبل الصاعدة حتى حجرتها .
لايمكنه الصعود إلى مستوى النافذة , كان منحدرا حادا .
تشير إليه ميسون بالدوران حول جدران حجرتها حتى يناظر بابها ويتقرفص تحت عشبته الخضراء .
تقف ميسون على أطراف أصابعها وتذهب نحو باب حجرتها لتفتحه رويدا رويدا تلافيا لأي صرير , ترسل عينيها في الأجواء حولها تترصّد أي قادم أو ذاهب في الزقاق , ثم تشير إليه قابعا كعشبة بالدخول , وتسحب الباب إليهما وتغلقه .
الحبّ هنا ليس إلا .
الحب ليس للفضاءات .
الحب محاصر في الحجرات المغلقة .
وفوق قمة الجبل المعتمرة بعمامة من الضباب يتحلّق بشر ..
تصل جلجلة حديثهم من بين الظلام من بعيد كريح في صحراء .
ولن تستطيع تمييز المتكلم منهم على الدوام
جلبة الحديث المختلط لا تدلُّ على أمر بعينه , ولا تعلن عن أصحابها .
للتو ينبلج الضوء فجأة من مصباح الغاز خلال رقرقة الضباب فيمن حوله ليفتح على الأوجه المتحلقة حول وجهه الوقور بلحيته الكثة الحمراء معتمرا فوق راسه شاله المنقوش .
كان أحدهم في طريقه إلى هنا , لم يَلْوِ على أحد غير الشيخ حبيب ليقترب منه , يدنو ويسر في أذنه بقولٍ ما .
· إنه أبي . تضع كفها الحنين بكلّ الذعر على صدرها وتبحلق في عينيّ ساري .
تطوف عيناه في المكان , ليس غير الباب والنافذة , غير أبيها بعد الباب , غير السحيق بعد النافذة , ينظر في عينيها , في وجدها المعتقل في الاعماق , يضع يده على المصباح ماذا يريد بالمصباح ؟ يتركه ويذهب نحو النافذة , ستسمك به , تقبّله تضمّه ,تذوب فيه , تصير فيه , تَهْوِيْ فيه , في وجه آخر ستطويه في قلبها , ستحفظه حيث لاأحد يراه , في جوفها , لها من دون كل الناس , تحجبه هناك , بعيدا عن أبيها عن كل البشر , عن القدر , لن تدعه يهوي إلى القعر , لكن ساري يحلق حول النافذة ويرمي بالعشبة إلى السحيق , سيقتلهما معاً إن دخل عليهما , طرقات على الباب ساخطة , تفتح ميسون الباب , يقفز ساري من النافذة , كأنها ابتلعت الجبل والشجر وأباها ,
كان يمسك به في يده وهو ينظر إليها :
· ستتزوجين إبن عمتك قانص ياميسون , غدا سنعقد القران .
.يتداول الناس بأن ساري وحين كان يركب فوق ظهر نسر عظيم صاعدا في طريقه من السهل إلى الجبل فقد نادى عليه النباش نداءه الشهير قائلا : " ياساري حلِّيْتَنِيْ بك " , وأن ساري قد سمع النداء وهو في السماء .
في ليلة من الليالي مقمرة كان ساري يركب فوق ظهر النسر العظيم هابطا من نجد في الجبل إلى السهل في تهامة , وفي حين أرخى النسر مخلبيه استعدادا للهبوط فقد حان في تلك اللحظة أجل سامي في السماء , فلم يتأخر لحظة مثلما لم يتقدم لحظة فهوى من فوق ظهر النسر وتحطم فوق الصخور فجاء النباش وحمل جثته متحلِّقا عليها فوق ظهره دون كفن ودون حنوط إلى مكان غير معلوم .
.
............
1- القشوي :حيوان من فصيلة النمور
2- النباش : في الحكاية الشعبية حيوان من قرد وإنسان صخم يكسوه شعر غزير وله كفان كصحني محراث وأظافر كالأزاميل ويمشي على قدمين ويتحدث كالانسان ويتغذى على الموتي الذين كان قد اختارهم ونادى عليهم بأسمائهم أحياء بنبش قبورهم وحمل جثثهم إلى بيته ليأكلهم مع أبنائه .
3- حلّيتني بك : جعلتك لي خاصتي لايشاركني فيك أحد .
4- هي " مجرّة أندروميدا وهي أقرب المجرات إلى درب التبانة , والتي ضمنها مجموعتنا الشمسية "
تعليق