قوافل الليل تزمجر مدوية في رحيلها ،وتشمخر أثناء عبورها جسور الفجر ،تجتر معها آزار الليل الثقيل ..تفتقت براعم الصبح فتهلل وجه الأفق .مثل ساحرة ترجل من شعرها الأبيض بأمشاط الصباح الندية على صدى تعويذة سحرية ، فيسري رونق الشباب في أوردتها ويتفتق محياها عن زهور الكاستيليا ،ثم يستحيل جسدها المشوب بالعلل إلى غيداء تختالُ تحت دالية تنتظر عاشق الليل الأسمر، القابع في محراب الخيال، يترنم بطقوس العشق الممنوع ..
. غازلت أشعّةُ الشمس الدافئة المتسللة عبر شقوق الخيمة أهدابَ عينيه المنكسرة من شدة التّعب، ومضتْ عساكر النُّعاس مَضاءً، تاركين ساحة القتال عامرةً شظايا أحلام ملونة.. كانت حُبيبات الرمل عالقة في صدره المعوشب كالحسك..على أثر فوضى خلفها غبار الأحلام .. تمطى ونشر ذراعيه المتراخيتين ثم تثائب وأطلق أهة عالقة بالزفرات .شعر بالجوع يلكز أحشائه ،تناول نظارته جال بصره في زوايا الخيمة، يبحث عن فتات الطعام ...قدور وأقداح وصحف فارغة انتحى بعضها في زاوية الغرفة . وقد تدلت أشداقها اليابسة من خوائها، فاندلقت على كثرة خوارها ، تناول قدراً فيه سائل أبيض تطفو شرائح من الدهن فوق سطحه ،قليل من مرقة لحم بقايا عشاء أمس ،أشعل النار من خلال قداحة سجائره ،استشاطت النار وتلمظ القدر من الغليان، صب منه القليل في أناء قديم يكسو حواشيه الصدأ قد تراشق بالثقوب ، ألقى كسرات من الخبز اليابس حتى يبتل ثم نثر الملح فوقه ، اذدرى القليل منه وتجشأ بعضه ثم خرج إلى العراء..
جلس فوق كومة من الرمال المبتلة، يذر بمقارضه قلاع الرمل وقبابها العالية التي شيد معالمها نقاء الأطفال، ويفني بأصابعه ماتبقى من أسوارها ،ثم يزيل أثرها العالق في كاحله، يملأ أنفاسه بعبير الصباح الطل ،وبريق الشوق يغمر نظراته الساهمة نحو الأفق الممتد على طريق الأمل ،فتسقط قطرات الفضة العالقة في ذوائب خصلاته المنكسرة لاسيما حينما تصليه تلك القشعريرة بوخزات من الألم، فيتسرب إليه اليأس وتنكسر قصائد الحلم على عتبة اليأس ثم يتهاوى في قاع مدينته الضائعة ...يمشط شطآن العبث الرابضة على عتبة إرادته، يدنو همسا من رهافته مستلدا حزن الأقدار المستلقي على حظه الزاهد...هشة هي الحياة، تنهار نحو هدير الضجيج متكدرة..واجم يتوغل داخل مدنه المصلوبة، يشرئب نحو التحدي.. لكي يضبط آليات جموحهعقد لوحته، ثم تناول فرشاته ،وشرع يخط السطور، والألوان ،ويشيد البنايات ، ثم يعتريه الإجهاد فيعرك ما بين عينيه ،كأنه قائد محنك في نزال صارم مع المجهول ، يلثم جراحه التي مزقتها سنون الفراق والحرمان ،فيبكي بكاء كنهر جرفت روافده شلال عارم من الذكريات البائسة، والتي مازالت عالقة ومرتسمة في صفحة خاطره المترع بالشوق والحنين ..يرمق السحب وهي تنساب مارقة في خياله تستعصي أن تمنحه بارقة أمل أو إطلالة ندية في بيداء الأمل ،السماء ترسل خيوط إلى الأرض فتشتت ملامح صورة ناتئة وتفاصيل لم تكتمل دورتها في طور أفكاره ،شعر بوخزات تستدر معها شحنات من طاقة نفسية متراكمة في دواخله أيقظت نشيج مرير فتلون وجهه من الغضب ،نزع اللوحة وعاث فيها تمزيقاً ،ند الإحمرار من صفحة وجهه الأملس ، عزم على العودة للبيت القريب من الشاطيء ،طوح بلوحته وألقى بها على إمتداد ذراعه فانسابت تتهادى بين الرياح مهرولة بعيداً .. ذرع الطريق ذهاباً وأياباً، يستزرع الفكرة التي بذرها في بركان الخيال .. دس يده في جيب معطفه البني يبحث عن سجائره ، أراد أن يخنق واحده بين سبابته ووسطاه كما أعتاد ،ابتلت من زخات المطر وتفتت ، لعن الحظ والرمال ،فقد توازنه ،سقطت نظارته ،حاول العثور عليها ،طوح ذراعيه يلتمس الطريق ،المطر يغمر عينيه ،اصطدم بالصخور والجدران ، دماء تسيل تغشى عينيه ولحيته وجسد هزيل أعياه نزال الرياح والمطر ،فسقط على وجهه، تسرب الطين إلى شفتيه ،بصقه ثم اقتعد الأرض واستسلم للقدر الذي سجنه بين الصخور والطين ، لمسة حانية تمتد إليه تأخذه برفق ينقاد إليها طواعية ، تخترق به الطرق ،والإشارات تندفع به في خيال جامح ،يند منها عطر فواح الشذا يذكره بعطر "شانس"القديم وذكرياته المترعة بالشوق والشغف ، كان مستسلماً بين يديها يميل برأسه منتشياً ،وذكريات ماردة تزيل صدأ الأيام في سنوات الفراق العجاف، وهمس الأماني يشدو "لم يغادر الأمل تلك البلاد" يترنم لهمسها، ويضحك لضحكتها .. أغار عليها من أبيها وأمها, ومن خطوة المسواك إن دار في الفم ِ. أغار على أعطافها من ثيابها, إذا ألبستها فوق جسم منعم ِ. وأحسد أقداحا تقبلُ ثغرها, إذا أوضعتها موضع المزج ِفي الفم ِ. إقترب من البيت وصوت فتاة صغيرة تصيحعماه ..عماه ..لقد أتيت أخيراً ، كنا نبحث عنك ..! تسرب الأحساس من يده ،وتلاشى دفء الطيف رويداً رويداً ..قبض أنامله ولثم ماتبقى من أثرها ..والدموع تنسال على صفحة خده الأملس ..!! في صباح اليوم التالي عقد لوحته قرب الشاطيء وشرع يخط ملامح وجه مضيء ،كانت الفتاة تلعب حوله وتحاول أن تستدرجه ليشاركها اللعب كعادته ،شد فضولها لوحته الجميلة تأملتها ..إنها جميلة ياعمي ..هل تعرفها ..! - أطرق برأسه ملياً ..وأطلق إبتسامة باهتة متوشحة بإيماءة - كانت فتاة جيدة ..تجيد ركوب الخيل .. غادرت إلى مكان أفضل -أومأت الفتاة برأسها وهي تحتضن الكرة ثم أطلقت قذيفة مدوية تصدع لها جدران قلبه المهتري حينما قالت : - أين ذلك المكان ..؟هل هو أفضل من شاطئنا أطلق نظرة ساهمة ،وأشار بيده المرتعشة الذابلة -هناك ..خلف أسوار الأفق ..حيث لاتستطيع العودة ..وغشي جبينه سحابة من اليأس ونكس رأسه وانسابت الدموع تجري على خده نحره - لكنى رأيت تلك الفتاة ..! أطلق ابتسامة ساخرة ..سرعان ما انخرط بعدها في وصلة من الضحك -لقد رحلت تلك الفتاة ياعزيزتي ..قبل أن تولدي لكن الفتاة أصرت على موقفها وهي تنسحب إلى لعبها وقالت - لقد رأيت تلك الفتاة حقاً ..وكانت ترتدي سواراً رخيصاً . ثقبت الكلمة أذنه ، تسرب إليه أحساس أن الرياح تخدعه وكانت تتلصص عليه وتسرق منه الكلمات وتعبث بها في الفراغ ثم تعيد الصدأ كلما أرادت أن تسلبه بعضاً من ذكرياته ..صاح والشغف يطيح به في أودية الرجاء -نوال ..انتظري ..حبيبتي ..أنت لاتكذبين ..أليس كذلك ..! - كلا أصابت منه الكلمة موقع الماء من الأرض المجدبة -كيف ؟؟ومتى ..؟ .لقد كانت تسير بجوارك ،حينما تهاطل المطر ..وارسلتنا جدتي نبحث عنك ..ثم هرولت الفتاة تدفع الكرة وتتابع اللعب تاركة الشاب غارقاً في ذهوله ..كل يوم كان يذهب للشاطيء بمفرده.. يعقد لوحته وينتظر هطول المطر، بلهفة العاشقين
تعليق