سحر الشرق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نورالدين لعوطار
    أديب وكاتب
    • 06-04-2016
    • 712

    سحر الشرق

    سحر الشرق

    وصل إليها أخيرا ، كانت رحلة شاقة ، فمجرد السفر إليها ألصق به شبهة حب القتال ، لم يكن مظهره حاملا لأمارات السوء ، ليس بالأعور و لا بالأعرج ، لا تنسج بنيته هالة حرب ، لا شجّة سنان بصمت جسده الهادئ ، فتى متأنّق لا يملك لحية تستجدي العفو و لا شاربا يستوجب القصّ ، كابد عناء الانتظار بين الإدارات ليمنح تلك الرخصة ، مجرد رخصة سفر ، لم يطلب إقامة و لا عملا ، لا يبتغي علما هناك و لا فنا ، كل قصده هجرة في سبيلها .

    كانت فتاة مرنة ، فياضة بالمثل العليا ، راقية الطباع ، وديعة الصورة ، لم تغره بليلة حمراء و لا بنهار ربيعي ، مجرّد لقاء ترتوي فيه عروق صداقة مبجّلة ، تتصافح من خلاله الآمال العريضة ، تتقوى به وشائج رابطة إنسانية تعلو على وقع الخطوب ، و تجتث أشواك الرّعب ، و تبني جسور الممكن و تردم أخاديد المستحيل .

    مع قراءة أولى رسائلها عزفت أبجديتها على أوتار كمانه قصيدة عصماء ، كما نفخت حروفه في نايها نغمة العنادل ، رسمته بريشة العفوية تذكار براءة ، ونحتها بإزميل النقاء رمزا للطهارة ، يجمع بينهما حب الكلمة الموزونة فيتلذّذان بقسمات النغمة الساحرة ، و يشيّدان بيوت المشاعر كسفن راسية على بحار القوافي ، يفطران على شقشقة العصافير و تدفع عنهما قطرات الندى ثقل السمر ، و طراوة النسائم تهدهد صحوهما . عبر خيوط القمر تتلاحق أنفاسهما فيهاتفها وتهاتفه عبر الأثير المخلص .
    حطت رجله على أرض النبوّة وقلبه مفعم بروحانيات تتعاظم كلما هب صوت فيروز لاستقباله من صالون حلاقة ، أو صدحت ميّادة بتغريدة العشق من زقاق شعبي أو مالت به ماجدة صوب رقص الكلمات وهو يرتشف من قهوة الشرق فنجان الوجد ، تأمل ملامح الكنائس مزخرفة خلابة كعروس في كساء الزفاف تعلن نواقيسها ملحمة العذوبة و تترنم في رحابها مواويل الرقة ، رأى بأم عينيه شموخ المساجد بمآذنها الباسقة وهي تقبّل سحبا متناثرة في علياء السماء ، و رحمتها المهداة تنشر عبير سلام في قلبه ، تماهت روحه مع تراب الشرق الزاخر بجواهر التحف ، كلما تقدمت خطواته استحضر هندسة الشرق من بغداد إلى الشام ، يتفرس الحواضر و البوادي فتلوح له مناظر الأناضول حيث قضى سويعات هناك كانت كافية ليربط الماضي بالحاضر ويقسم أن الأرض كلها امتداد لبلاده بأوديتها الهادرة و شجرة الزيتون و ظلال الأرز و حمرة البرتقال ، تأمل حوض المتوسط بركة تطوقها جمالية بلاده ، بل يسترجع أيام غرناطة و قرطبة فيجد غرب البحيرة تمتد زينته إلى الشرق ، فتخيل نفسه وريث ابن بطوطة ، جاء يصل رحمه ، و يتفقد أبناء عمومته .
    استحلى المكوث بهذه البلدة للاستراحة والتقاط الأنفاس والاستعداد للقاء القريب الوشيك ، هي هادئة مريحة لكأنه في دياره لولا بعض تشفير لغوي يعكر صفو تواصله فيرجع القهقرى إلى الماضي للتعبير عن حاضره والاستفسار عن بغيته ، بين الفينة والفينة يدون مصطلحا سقط من فارسية ، أو ضاع من غجرية واحتضنه الشرقيون فتزينت به قلائدهم اللغوية ، ما إن يلهج بلسان قومه حتى تحدجه العيون بنظرات سوء و استغراب فيحس نفسه ارتكب جريمة نكراء ، فيعود إلى لغة الفراعنة لعلها تمسح عنه غبنا يتمالكه ، هذه معضلة تؤرق نفسه كثيرا ، كيف للشرق أن يدير وجهه لواحدة من بنات لسانه ، و كيف له أن يحس باغتراب لغوي في أرض يستقبلها كل يوم خمسا و يعيش حيثيات عشائرها بكل تفصيل وهو الجاهل بقبائل بلاده ، يخاف أن تكون سهام حبيبته بقدر ما قاله واحد من ركاب الحافلة : أنت ماروني ؟ لا ، درزي ؟ علوي ؟ قحطاني ؟...... اكتفى بتحريك رأسه بالنفي و قد تناسلت العشائر من فم مستجوبه بلا توقف وهو يطلق قنبلته : " أنت مستعرب إذن ؟ يا سادة هذا مستعرب ، أسرع في رد التهمة عن نفسه متحدثا بلسان قومه ، فقالوا هاتفين : " وتتحدث بالعبرية ؟" احمر و ازرورق و هو يقول عندما شمروا على سواعد الشر ، يا ناس : لا اله إلا الله محمد رسول الله أنا من بلاد شمال أفريقيا . فكان ردهم قاسيا على نفسه : " آه جميل ، لهذا لا تعرف أدب الكلام ، أصلكم أهل بداوة وسكان كهوف ." تظاهر بلعبة السذاجة كي لا يفقد نفسه حين ظهر له القوم في حلة جديدة ، جاءته طرفة وقعت في مدينته حاول بها نفي التهمة عنهم حيث سألت عجوز طلبة من جنوب الصحراء يغترفون من علوم جامعة بلاده ذات يوم عن الساعة ، فردوا عليها بلسان لم تفقهه فاعتذرت قائلة : " استسمحكم حسبتكم من بني آدم" هكذا هو يرفع شعار الصفح عنهم لأنه مؤمن أنه معهم في الهوى سواء ، بعض عيوبه هي عيوبهم ، لكن بلاده لا تمارس العنف على الغرباء فهذه خاصية تكاد تكون شائعة ، بل للغريب حظوة في نفوسهم ، أهي عقدة الدونية تجعلهم يرون الغريب أحسن حالا منهم ، أم هي ثقافة كرم من نوع ما .
    خلص أن الخلاص يأتي من الغرب ، هو أيضا يمتلك هذه الميزة ، يحمل جواز سفر من بلاد الأنوار ، ولسانه تجري فيه أنهار حروفهم بانسيابية ، بل يمتلك إلى حد ما بعض طبائعهم ، فوطنه تجرع أيضا من الغرب ما يكفي ليكون غربي الإنتماء ، ربما هذا ما يجعل الشرق يحس نوعا من الغيرة ، فبلده على مرمى عين من بلاد تسود العالم من أقصاه إلى أقصاه . هاتف أمه أن ترسل إليه عملة صعبة بها يستطيع استوطان الفنادق المصنفة ، هناك سيعاشر من يؤمنون بالآخر ، و لا يبحثون في أصله وفصله ، و يعيشون عولمة الإنسان ، كانت أمه تستجيب لكل طلباته ، هي من علمته بعضا من السذاجة و الركون إلى الحلول السهلة ، رغم ذلك لايزال يبحث عن نفسه ، فهذه الرحلة ربما هي من ستسطر مستقبله ، ويحظى بشرقية تملأ قبله دفءا و تغمره مشاعره سخونة بعد أن تشاءمت روحه من مكننة طباعه في الغرب ، فأضحى شبه آلة خالية من المشاعر ، بلاد الأولياء ما استطاعت تراتيلها السيطرة على مس روحي اعتراه ، رأى في الشرق مهد الحضارة ومهد الأرواح ، فحتى كثير من أعلام بلاده بحث له عن نسمة شرقية بها يشبع روحه ، فمنهم من بحث عن شعرة نسب تربطه بهم ومنهم من جعل نصب عينيه امتلاك بحور علومهم ، تكون له نغمة فخر تمسح عنه صبغة البداوة ، ومنهم من استشرق كلية فقط لأنه أحب أن لا يكون إلا شرقيا ولو بالقوة . لا يهم يحبون هوى الشرق و متاع الغرب فأينك ياشهامة الأطلس ، أم أنهم فقط يصعدون على هامتك تطلعا إلى الشرق والغرب ، يا من تسرقين من الغرب ثلوجا بيضاء و تجرين من الشرق قيض الهجير ، لتغزلي ثوب الربيع لأبنائك ليهاجروا روحيا شرقا وماديا غربا . صفعته حقيقته الهشة و بحث عن ذاته بين شرقية وغربية فوجدها تائهة مغبرة ، صبغت أصباغا مكشوفة ، لكن لا بأس ، فإن كان الشرقيون تنكروا لشرقيتي ، فسألبس قميص الغرب ، فلساني يرفرف بأعلامهم ، و عيني تكاد تخبئ زرقتها و الأخرى شيئا من اخضرارها .

    بسرعة البرق أرسلت له جمعيته بطاقته عبر الفاكس مشفوعة بوصل باحث في قضايا الشرق . تعجب من قدرة الغرب على الابتكار و إيجاد الحلول ، تعجب من مؤسسات الشرق ومنظماته الحكومية وغير الحكومية كيف لا تستطيع منح مظلة للفرد ، يحتمي بها من بطش بني جلدته ، غرد أمام الملأ فهبت كل الخدمات ، كل فرد يكره لسانه على التغريد مقدما أقصى ما لديه ، تأهب الجميع ليسعدوا فترة وجوده بينهم ، من سائق سيارة إلى دليل عارف ، إلى وكيل أعمال ، نظم معهم برنامج رحلته . طاف المدائن و تعرف الطبائع و غاص في هموم الشرقيين ، رأى بأم عينيه تقوقع الأحياء والمدائن على ذواتها ، أينما حل يرى صور المذهبية تلون الجدران ، استقبلته و احتضنته كل الطوائف ، وكلها تتحدث عن الأصالة ، عن الخير ، عن احترام الآخر ، عن حسن السيرة ، عن القصد الشريف ، عن الظلم الذي يطالها ، لكأنهم متفقون على ذات الجواب ، وكلما سألهم عن الاقتتال ، خون بعضهم البعض واتهموا أنفسهم بالعمالة ورشقوا مخالفهم بخدمة المشروع الأجنبي ، تعجب من هذا التناقض الصريح ، أليسوا كلهم يتهافتون عليه لأنهم يحسبونه أجنبيا ، و يفتحون له صدورهم فقط لأنه قادم من هناك ، ألم يتيقنوا أن الإعلام وضعهم في الصورة حتى تملكهم حب الظهور و هم لا يملكون من مصير أنفسهم شيئا . تعجب من سذاجتهم فكيف لهم أن يفتحوا قلوبهم لمن يعتبرونه عدوا و يضعوا حجابا بينهم وبين اخوتهم في الدين والعروبة والوطن .
    وصل في بحثه إلى المتاهة ، فهم برؤية حبيبته ، وجد بلدتها هناك على ضفة نهر دائم الجريان ، لم تستطع الدماء الجارية أن تحمر وجهه ، ظل كما كان مستعدا ليمنح الحياة للشرق كله ، رأى النوق بأعناقها المشرئبة لا تزال على عهدها منذ ناقة صالح ، رأى التمر الشرقي البدين ، رأى جمال الشرق الخلاب بعيونه السوداء ، و شعره الحالك الطويل ، رأى الصحراء غارقة في صمتها الأخاذ ، لا تردد أصوات الرصاص ، أخيرا على ضفاف النهر هناك مقهى هادئ مستعد لنسج قماش الحب الحريري .
    رآها جالسة وفستانها يلامس الأرض ، وشعرها متدفق من الأعالي ، رأى بسمة غالية وعينا ساحرة ، رآى عذوبة الشرق ، رأى ما أسر قلبه وكيانه ، اعتراه دفء كله شبق ، تعجب من هذا الوحي الشرقي الذي يسكن النفوس ، تذكر عندما هم بالغربية يريد أن ينسج معها خيوط الحب ، لأعوام وهي تراوده عن نفسه فتفر من ساعة الحسم ، برودة هائلة جعلته يشك في مدى قدرته على الفعل ، لكن الآن أضحى رجلا كامل الرجولة ، إنها فعلة الشرق ، إكسيره الذي يجري في النفوس ، قامت مرحبة دون أن تمد يدها ، استويا جالسين ، تبادلا نظرات دافئة ، منحته عذوبة صوتها الفيروزي ، أسمعها من أهازيج الأطلس ، كادا يلتحمان لولا أن طاف طائف بالمدينة فرق جمعهما ، فرآها تحاول التخلص من أذرع صلبة ، والتكبير يعلو الأفواه ، والبنادق تطلق الرصاص ، سمعها تنادي مستغيثة ، لكن قفاه مستند على فوهة بندقية تنتظر إشارة الانطلاق ، تعارك سجّانها و تناطحه غير راضية بأن تكون غنيمة حرب ، و تتحول في لحظة من أميرة إلى جارية ، فأفرغ في جسدها اللين حمولة رشاشه مكبرا ومهللا ، رجع ببصره إلى الأرض المبتلة بالدماء والجسد الطيب الطاهر النائم في هدوء ، وكيله ودليله يفاوضان المسلحين ، جاء قائد الفيلق ، سمعه يخاطبهم بلكنة أطلسية ، أطلقوا سراحه : " فهو غربي الانتماء وفق تحرياتنا ! "
  • أميمة محمد
    مشرف
    • 27-05-2015
    • 4960

    #2
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أ. نور الدين لعوطار، مرحبا بك
    لك نفس سردي طويل وخيال ولغة أحسب أن دسامة القضايا والأحداث تصلح لرواية حتى وليس لقصة قصيرة فقط
    صعُب علي المكان الذي يبدو الشام والقادم من بلد ثان مغاربي ربما ولتطرق القصة باب الإرهاب لإلقاء نظرة عليه
    أهلا وأرجو لك التوفيق

    تعليق

    • رقية عبد الرحمن
      أديب وكاتب
      • 07-02-2016
      • 145

      #3
      ياإلهي ياإلهي
      أولا لاأعرف على اي أساس تنجم النصوص
      وعلى اي اساس لا ينجم مثل هذا النص
      الكبير جدا الجميل جدا
      الغني جدا بصور رائعة مبتكرة
      بصور مليئة بأحاسيس ناطقة
      الكاتب تلاعب بالحروف من اول الجملة لآخرها
      انا لو بإيدي هذا النص ينجم ويثبت
      لغة سليمة سوى بعض الاخطاء البسيطة وسببها الرقن والسرعة
      تمنيت ان اكون كاتبة هذا النص
      وربنا احسدك على الفكرة على السرد على اللغة
      شكرا كاتبنا لاني استمتعت
      شكرا لأنك شاركتنا هذا الجمال هذا الاحساس
      ٱمتناني وباقة من التقدير

      تعليق

      • نورالدين لعوطار
        أديب وكاتب
        • 06-04-2016
        • 712

        #4
        الأستاذة أميمة محمد
        شكرا على الترحيب ومن خلالك أشكر للملتقى قبول عضويتي ، كما أشكر ملتقى القصة خاصة على احتضانه لنصي .

        عميق العرفان أستاذة أميمة لقراءتك البهية للنص ، و المكان هو وطننا الكبير و الممتد من البحر إلى النهر .
        خالص المودة والتقدير



        تعليق

        • نورالدين لعوطار
          أديب وكاتب
          • 06-04-2016
          • 712

          #5
          الأستاذة رقية عبد الرحمن

          سلمت ذائقتك و لامست إبداعاتك أبراج المجد
          كلّ مناي أن يحس القارئ بهجة وحبورا و هو ينهي قراءة النص .
          كل بغيتي أن أشارك مع أعزائي ما اختلج في دواخلي و رسمته أناملي .

          سعيد بك و تحياتي .

          تعليق

          يعمل...
          X