من ظلال الصبا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • الشيخ احمد محمد
    أديب وكاتب
    • 16-10-2011
    • 228

    من ظلال الصبا

    من ظلال الصبا
    ها أنا أحدق طويلا في الأفق البعيد علي أكتشف شيئا ، أو أبصر أثرا لأحد مقبل أو مدبر في هذه الصحراء الشاسعة الطول والعرض والتي تعتبر رؤية الأشخاص فيها اكتشافا يثير الحماس ، ويضفي جوا من النشاط على أفراد أسرتي ، كل يقدم ملاحظاته واقتراحاته حول طبيعة الشخص المقبل أو المدبر ، ومشيته وهيئته ، ولباسه ، حتى يقترب أو يتوارى عن الأنظار
    ولما أتعبي النظر ، وأجهد عيني التحديق في الفراغ ، ولم يسعفني بصري في العثور على شيء يجذب انتباهي ، أو يغذي مخيلتي ، قمت واتجهت بخطواتي البطيئة المعهودة إلى أمي الجالسة في خيمة الشعر المنتصبة وسط الرمال المترامية الأطراف
    مرقت من بين النساء المجتمعات حول بعض الوبر يضربنه بدبابيس طويلة ورقيقة ، وهن يثرن الكثير من اللغط في الأنحاء كأنما كل واحدة منهن تقص حديثا وتستمع إلى حديث غيرها في نفس الوقت ، مررت دون أن أجذب أي انتباه كأنني غير موجود
    جلست قرب أمي أتأملها تارة ، وهي تحرك فمها بحديث مرة وبضحكة مرة أخرى ، وأنظر تارة أخرى إلى بعض النسوة الأخريات ، وأتأمل حركاتهن المختلفة بأياديهن ورؤوسهن ، وأنا لا أجد في كل ذلك إلا حديثا ممجوجا ومملا لا يعنيني في شيء ، ولا أستطيع أن أفهم منه أي شيء
    أحسست بالملل والسأم من هذا الجو، وأخذ النعاس يداعب عيني فجعلت أغمضهما هنيهة ، ثم أفتحهما على حين غرة ، كأنما أبغي أن أضطلع على كلما فاتني خلال إغماضتي تلك ، ثم أخذ رأسي يهوي إلى الأمام مرة وإلى الجانب مرة أخرى ، حتى هزمني النوم وأثقل جفني أخيرا فاسندت رأسي إلى فخذ أمي ، وغططت في نوم عميق.
    أحس بأشعة الشمس الحارة تلسع جسمي
    فتحت عيني ببطء ثم فركتهما بيدي بضع لحظات ، ونظرت حولي لأجد أن النساء اختفين وأنني أوجد في الخيمة بمفردي
    أشعر بالإنزعاج وعدم الإرتياح بسبب حبات الرمل التي ملأت وجهي وجسمي نتيجة للريح القوية التي تضرب الخيمة فترفع الرداء الذي يحيط بها من الأسفل والذي كان يوفر الدفء لها فيغرف الرداء بطرفيه الحصا ويلقيها داخل الخيمة بغزارة
    نظرت حولي فلم أجد غير الصمت المطبق وكأن لم يعد هناك في الوجود أحد سواي ، باستثناء أزيز الرياح وصفيرها وهي تضرب أطناب الخيمة دون شفقة أو رحمة فارضة وجودها القاسي على تلك البقة من الصحراء
    هذه الوحدة التي أعيشها وهذا الصمت الأبدي الذي لايطاق شيئان لا يكادان يفارقانني منذ أخذت في إدراك حقيقة الأشياء وبدأت أتلمس خطواتي الأولى في معترك الحياة
    شعرت بالضيق وقمت من مرقدي لا أعرف إلى أين أذهب بالتحديد
    أين أمي ؟ لابد أنها ذهبت إلى الخيمة المجاورة الكبيرة
    أنا ظمآن لكن هناك بعض اللبن المغطى خصيصا من أجلي إني أعرف مكانه وأراه غير أني لن ألمسه ولن أشرب منه حتى تأتي أمي وتقدمه لي بنفسها
    سأصبر على الظمأ كما كنت أفعل دائما ولن أقترب من الإناء إلى أن يقدم لي كما في كل مرة من المرات السابقة ، لأنه يجب عليها أن تتعلم أن لا تتركني بمفردي وتهملني كأنني غير مهم
    إن الإناء مختلف الشكل هذه المرة فهو أكبر قليلا من الآنية التي طالما شربت فيها
    من أين جاء هذا القدح ياترى ؟ ، هل معنى ذلك أن ما تحته ليس لبنا ، وتملكني الفضول فأزحت الغطاء ونظرت فإذا هو مليء باللبن الطازج الذي تغطيه بعض ذرات التراب القليلة
    لم أتمالك نفسي وأغمست رأسي في القدح وبدأت أشرب بنهم حتى زال ظمأي ، عندها رفعت رأسي نادما على ما فعلت ، وفكرت لن تتعب أمي نفسها بعد اليوم في تقديم الشراب لي ستعرف أني شربت وحدي دون مساعدتها ، وأن بإمكاني ذلك مستقبلا ، ولن تصدق أنني لم أشرب من الإناء لأن اللبن لم يبق منه الكثير
    لاشك أن الخيمة الكبيرة غاصة بالنساء في هذا الوقت ، لكنني لم أسمع حتى الآن أي كلام وأنا أكاد أدخلها من جهتها الغربية ماذا جرى لهن ؟ ولماذا يصمتن هكذا ؟ ، هل يمكن أن لا تكون النساء فعلا في الخيمة ، وهل معنى ذلك أنني بت وحيدا هنا
    ازداد قلقي فجأة وزادت خطواتي سرعة باتجاه باب الخيمة الغربي ، وقفزت إلى مخيلتي بعض الصور المرعبة المنبثقة من الحكايات التي أسمعها عن الوحوش المفترسة بت شديد الخوف وتملكني الرعب ، قد تكون الوحوش الكاسرة قد هاجمت جميع سكان الحي الصغير وابتلعتهم ، كانت سرعتي قوية وفجأة أحسست بضربة قوية على رأسي فسقطت ، ارتطمت بأحد أعمدة الخيمة بعنف فأطلقت العنان لدموعي ، وإذا بيد تنتشلني من الأرض
    إنها يد والدتي فعاودني الشعور بالأمان من جديد ، وأدركت في نفس الوقت مدى ضعف ثقتي في اعتمادي على نفسي ، ثم انتبهت لضحكات أمي الجالسة في طرف حلقة النساء اللائي انفجرن من الضحك مني بسبب فزعي وخوفي غير المبرر ، فعرفت أن في الأمر مكيدة وأن صمتهن لم يكن إلا محاولة لخداعي وإيخافتي فسكت شيئا فشيئا ثم بدأت بالضحك على نفسي.
    التعديل الأخير تم بواسطة الشيخ احمد محمد; الساعة 15-07-2016, 18:05. سبب آخر: تنظيم النص
يعمل...
X