مقالات في المعرفة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نورالدين لعوطار
    أديب وكاتب
    • 06-04-2016
    • 712

    مقالات في المعرفة

    المعرفة بين الشك واليقين


    يميل الناس في عصرنا إلى وصف المجتمع بالمعرفي قياسا إلى ما يشهده العالم من ثورة معلوماتية متكاثرة ، جعلت المعرفة في متناول أفراده بمختلف مشاربهم و ألسنتهم ، فلم تكن المعرفة متاحة عبر العصور كما اليوم ، و لم تكن ضرورية للاندماج في المجتمع الكبير كما في عصرنا .
    لذلك ، كان حريا بنا محاولة تلمس المعرفة و محاولة الإحاطة ببعض حقولها و تعرف بعض ينابيعها ، قصد الإبحار وسط هذا الزخم المعرفي معتدين ببوصلة و خارطة معرفيتين تكونان لنا سندا نحدد به محطات استراحتنا و الأماكن الخصبة الغنية بالثروات المعرفية و المواضع الصالحة للإقامة .


    فما المعرفة ؟


    المعرفة هي تمثل الإنسان للحقيقة ، و بصيغة أخرى إدراك الإنسان لذاته و محيطه .


    و أول سؤال نطرحه بعد تحديد المفهوم هو هل هناك معرفة ؟ وبتعبير آخر ما منسوب صدقيّة المعرفة ؟


    لو رجعنا إلى الحكماء القدامى لوجدناهم يشككون في إطلاقية المعرفة و ينحون إلى استحالة قيام أية معرفة كحقيقة ، بل يعتبرون الشك مذهبهم فالسفسطائيون مثلا يبرهنون على الشيء ونقيضه و يقولون أن الأدلة على إثبات الشيء ونقيضه تجنحان نحو التكافؤ فأطلق على هذه المدرسة "البيرونية" نسبة إلى بيرون الشكّاك .


    على العكس منهم نجد الدوغمائيون الذين يعتقدون بإطلاقية المعرفة ، أي أن الإنسان يعرف كل شيء ، أي أن المعرفة مثبة و صالحة لكل زمان و مكان و يصمّمون على المعتقد و لا يقبلون بالشك و يتعصبون لمذهبهم ولا يؤمنون بالواقعية أو العلمية ، بل ينصبّ نشاطهم على الحفاظ على المعلومة وصونها من أي تطور أو تفسير أو استدلال .


    بخلاف المدرستين الشكية و الدوغماتية اللتان تجنحان إلى الإطلاقية سواء في القبول بالعرفة أو رفضها ، تأتي المدرسة الوسط بينهما و هي التي تؤمن بالمعرفة اليقينية العقلية متوسلة من الشك منهجا للوصول إليها ، و نشأت هذه المدرسة مع أوائل الفلاسفة اليونانيين " سقراط "




    عندما نتعمق في المذهب الشكيّ نجد العبثية تتلبسه ، فعلى الأقل إن كان الفرد منا يؤمن و لو بشيء واحد كقاعدة عامة مطلقة كقول الشكّاك أن المعرفة غير حقيقية فهو يؤمن بهذا القانون كمعرفة يقينية ، وهذا ربما كاف لكسر نسقية الأيديولوجيا الشكيّة ، أما الذين يعتبرون المعرفة الإنسانية مطلقة بذاتها ، فلربما الزمان كسر مجموعة من اليقينيات أو البديهيات التي سادت لأعوام خلت و سنذكر من بينها على سبيل الاستئناس ، انبساط الأرض و سكونها .
    التعديل الأخير تم بواسطة نورالدين لعوطار; الساعة 25-07-2016, 16:09.
  • نورالدين لعوطار
    أديب وكاتب
    • 06-04-2016
    • 712

    #2
    المعرفة كظاهرة اجتماعية


    يتناول علماء الاجتماع المعرفة كما يتناولون بقية الظواهر الاجتماعية ، كالانتحار و العزوبة وغيرها مسلحين بمناهجهم الوصفية والتجريبية و القراءات الانتروبولوجية في دراستهم للظاهرة المعرفية .
    تكاد تكون مدارس علم الاجتماع في تناولها للمعرفة تقف على اعتبارها انعكاسا للهيئة الاجتماعية و ظروفها وشروطها .
    فسبينسر هاربرت ذو النظرة التطورية للمعرفة يرى سر خضوع الفرد للجماعة في المفاهيم الفطرية "المنقولة بواسطة الوراثة" ، رغم كونها مع الاوائل كانت مكتسبة . و دوركايم يرى أن العقل مجتمعي ، والفرد لا يمكن أن يفكر خارج ما تريده الجماعة . كما لو نظرنا إلى النقد الماركسي أو حتى عند البراغماتية الأمريكية ، فالعقل في الأخير تكيّفي فجون ديوي يقول ، لا يفكر الفرد إلا عند الضرورة " كالكوارث مثلا " بينما يرى ماركس أن كل المعارف مجرد بناء فوقي ناجم عن بناء تحتي تحكمه علاقات الإنتاج المادية و الصراع الطبقي ، فيرى أن القانون مثلا صنيعة برجوازية ، و أضاف أن غاية ما وصل إليه الفلاسفة قبله هو تفسير العالم ، و جاء بنظريته النقدية كي يغير العالم ، لكن في قراءة مغايرة لما قدمه ماركس ذهب الفيلسوف نيتشه إلى أن القانون ما هو إلا صنيعة الطبقات الدنيا لتحمي نفسها من الطبقات السائدة التي تملك القوة ، فالعالم لايحكمه إلا قانون القوة " السوبيرمان " ، و عكس ديوي يرى راسل أن الحضارة " المعرفة " بنت الكسل و الترف ، سواء تعلق الأمر بالإنتاج الأدبي أو الموسيقي أو غيره .


    لكن بعيدا عن الفلسفة الغربية تقدم الفلسفة الشرقة رؤية أكثر واقعية ، سواء في جانبها الفردي الذي تمثله الطاوية " لاوتسو " أو الجانب الاجتماعي عند كونفوشيوس ، فالطاوية ترى أن غاية المعرفة هي الوصول إلى تناغم طاو الشخص " الإنسان " مع طاو الطبيعة "الكون" وهي نوع من "التربية الروحية "، التي تستند إلى الطبيعة الخيرة للإنسان ، فالإنسان كلما سعى إلى التناغم مع منطق الكون كلما تحرر ، وأصبح سعيدا أي عارفا " نوع من العرفان عند الصوفية " و في نفس الطريق إلى حد ما يذهب الهنادكة مع اختلاف في الأوصول العقدية وشبه توافق في الأصول الفلسفية .


    كونفوشيوس رغم كونه يرى في لاوتسو حكيما غير أنه لا يطمئن إلى الرهان المطلق على الطبيعة الخيرة للإنسان بل يرى التربية و مأسسة الفعل التربوي و نقل المعرفة من مجرد فكر إلى ممارسة هو المعرفة الحقيقية ، فكل معرفة مجردة هكذا لاتقدم إضافة حقيقية ما لم تتحول إلى عمل و ممارسة يستفيد منها المجتمع .


    هذه المقالة مجرد شذرات حول النظرة الاجتماعية للمعرفة قبل الدخول إلى نظرية المعرفة و كيف تناولها الفكر الغربي .

    تعليق

    • نورالدين لعوطار
      أديب وكاتب
      • 06-04-2016
      • 712

      #3
      سقراط والمعرفة


      لو تمت موضعة سقراط في المبحث الفلسفي لوجدته فيلسوف قيم "أخلاق" أكثر من فيلسوف وجود و معرفة ، لكن المقاربة المنهجية في المباحث الفلسفية تكون هي ذاتها ، فإذا كانت السفسطة رست على ثلاثة أسس وهي أن الحواس هي مصدر المعرفة و أن الوجود دائم التغير و أن الإنسان هو مركز القياس . و قد نتج عن هذه الأسس أن الحقيقة غير مطلقة و الأخلاق نسبية و المعرفة مستحيلة .


      فما قام به سقراط هو خلخلة و هدم هذه العقيدة العبثية التي تأثر بها نيتشه و حاول إحياءها في القرن التاسع عشر . رأى سقراط أن الوجود ينقسم إلى قسمين وجود ثابت لا يتغير و هو جوهر الشيء وماهيته ، و وجود متغير و هي أعراضه . كما أرجع للمعرفة موضعها القائم الذات ، و كان شعاره اعرف نفسك بنفسك ، كما أن تواضعه و أخلاقيته جعلته أيضا يؤمن بأنه لا يعرف شيئا . فالمعرفة عند سقراط تتمرحل على ثلاث مراحل أساسية و هي مرحلة الاعتقاد غير العقلي ، ثم مرحلة الشك المنهجي ، ثم مرحلة الاعتقاد العقلي .
      فالمعرفة عند سقراط فطرية و عقلية أي أنها داخلية ، على الانسان فقط توليدها بالطريقة السليمة فمنهجه يتأسس على الجدل " الحوار" الذي يمر عبر مرحلتين الأولى مرحلة التهكم ، أي إظهار عوار فكرة معينة أو مسلمة ما قصد التخلص منها والتحرر من تلك المعلومة " التخلية عند المتصوفة "، ثم بعد ذلك توليد معرفة عقلية جديدة عن طريق البرهان و الاستدلال " التحلية عند المتصوفة مع وجود الفارق " .

      تعليق

      • نورالدين لعوطار
        أديب وكاتب
        • 06-04-2016
        • 712

        #4
        مثالية أفلاطون




        كان أفلاطون تلميذا من تلاميذ سقراط ، و هو من نقل فلسفة سقراط الحوارية و دوّنها ، و منها أسس مشروعه المعرفي ، و أصّل للفلسفة المثالية ، و اعتقد أن المعرفة مطلقة توجد في عالم المثل ، و اعتبر الحواس خادعة و لا تعطينا الحقيقة ، و تعتبر أمثولة كهف أفلاطون تجسيدا لعالم المحسوسات حيث تسود ظلال الأشياء باعتبارها حقائق مزيفة ، لو تحرّر الإنسان منها لأمكنه التقاط المعرفة الحقّة ، فالنفس " الروح " عند أفلاطون كانت قبل التئامها مع الجسد في عالم المثل ، تمتلك كل الحقائق ، لكن عندما اتصلت بالجسد نسيت معارفها وتحتاج إلى التذكّر ، فتوليد المعرفة عند سقراط ما هو إلا تذكّر لمعرفة سابقة للنفس ، " ولتقريب هذه الرؤية أكثر يمكن إدخال العقل الباطن هنا كمجال يحتضن المعرفة المطلقة "
        و تتدرج المعرفة عند أفلاطون كما يلي :
        1- الوهم . ويشمل إدراك عوارض الأجسام وأشباحها و ظلالها و هو أدنى مراتب المعرفة .
        2- الظن . و هو نوع من الاعتقاد بالموجودات الحسية ما يسبب القلق الذي يدفع إلى البحث عن المعرفة اليقينية .
        3- الإستدلال والفهم. وفيه يُتّبع منهج الرياضيات في حل الوضعيات .
        4- التعقل. بمعنى إدراك الماهيات المجردة، وهو أسمى درجات المعرفة.


        إدراك هذه الماهيات المجردة الموجودة في عالم المثل لا يتأتى عن طريق التجربة و الخبرة ، بل بالتأمل الذي هو نشاط عقلي مستقل عن الوسط الخارجي ، فهو نوع من الاتصال بالعالم الفوقي .

        تعليق

        • نورالدين لعوطار
          أديب وكاتب
          • 06-04-2016
          • 712

          #5
          أرسطو " المعلم الأول"


          رغم كون سقراط عقلا متفلسفا إلى أبعد الحدود متسما بالتواضع كخصلة ربما يكون منشأها انتسابه إلى الطبقات الدنيا في المجتمع ، ففلسفته ألهمت أفلاطون ذي العقل الشاعري المتسع للخيال أكثر ، فأسس المدرسة المثالية الصرفة و نظّر للنظام السياسي في كتابه الجمهورية نقدا للديمقراطية اليونانية التي أعدمت أستاذه . و أنتجت مدرسته عقلا جبّارا ، زاوج بين المعرفة الطبيعية الاستقرائية و ملكة النقد الأدبي ، اسمه أريسطو ، ذو الثقافية الموسوعية و الفكر المتقد . شهدت المعرفة في عهد أرسطو نقلة نوعية كبيرة ، إذ استطاع أن يجمع قواعد الفكر السليم مؤسسا علما جديدا به يستطيع العقل أن يعصم فكره من الوقوع في الخطأ ، يعتقد الكثيرون أن علم المنطق ولد تاما ومكمولا مع أرسطو ، بل يعتبر علامة فارقة في فلسفته ، فبه استطاع أن يمأسس العقل و عمله ، فالإنسان عند أرسطو هو الحيوان الناطق أو بصيغة أوضح هو الحيوان العاقل المدرك للكليات ، و الكليات هي معقولات تصورية يعني تحصل صورها في الذهن انطلاقا من الجزئيات المحسوسة أو المتخيلة "الموجودة في الذاكرة " عن طريق التقشير أو بالتسامي " التجريد" ، و تنقسم هذه الكليات إلى "ماهيات "كمعقولات أولية تبنى عليها المعقولات المنطقية " كالجنس والنوع ..." وهي مفاهيم ذهنية خالصة ، تختلف عن الماهيات التي عروضها و اتصافها في الخارج ، كما تختلف عن المعقولات الفلسفية التي عروضها في الذهن واتصافها في الخارج التي تعرف بالضدية و ينتزعها الذهن بالمقارنة مثل العليّة والوجود ...


          لن أستطرد في علم المنطق الذي سطر أريسطو قوانينه الأساسية كقانون الهوية و قانون التناقض و الثالث المرفوع وكما يعني أكثر بالدلالات اللفظية الوضعية " مطابقة ـ تضمن ـ لزوم " ........


          لكن أكتفي بالقول أن المنطق يدرس التصورات و التصديقات و الاستدلالات ، فالتصورات تسمح بإدراك الماهيات بدون إثبات أونفي و الثانية توحد أو تجزئ بالإيجاب أو بالسلب نسبة الموضوع للمحمول ، و الثالثة يظهر من خلالها المجهول انطلاقا من المعلوم .


          يكاد المنطق الأرسطي الصوري يمؤسس لنظرية معرفية كاملة ، فالحواس عند أريسطو تعطينا الجزئيات التي نأخذ منها الصور ، التي يبلورها العقل إلى تصورات ماهوية ثم منطقية و فلسفية ، فإذا كان أفلاطون يعتقد أن الفكرة منفصلة تماما عن المادة و عالمها مختلف أيضا فأريسطو يعتقد أن التصورات هي ما يعطي للمادة كمالها ، فإدراك العقل هو ما يجسد المادة ويحققها بالفعل و إلا كانت أجزاء لا قيمة لها ، أي ليس بينها روابط " جنس ، فصل .... ، و لما استطعنا أن نميز ارتباط السبب بالمسبب .


          تتدرج المعرفة عند أريسطو كالتالي :


          1ـ المعرفة بالمحسوسات أي الجزئيات . التي تتخذ صورا في المخيلة " الذاكرة "


          2ـ المعرفة الحدسية التي تكون بإدراك الماهيات .


          3ـ المعرفة العقلية التي تكتمل باستخدام مبادئ المنطق الاستدلالة و الاستنتاجية .


          فالمعرفة عند أريسطو بالأساس قائمة على الخبرة الحسية والتجريد العقلي . ولا يمكن تصورها خارج هذا المنطق .

          تعليق

          • نورالدين لعوطار
            أديب وكاتب
            • 06-04-2016
            • 712

            #6
            ديكارت و العقل الحديث


            يعد عالم الرياضيات ديكارت واحدا من أعلام انبعاث العقل الغربي و تجدّد فعاليته بعد قرون من السبات ، عقل حاول صياغة نموذج معرفي يوازن بين الروحانيات والمادايات ، فهذه الثنائية حاضرة في فكر ديكارت على العموم إذ يعتبر الإنسان اتحادا بين النفس والجسد ، وهذه الوحدة لا تمنع من و جود حقيقي للنفس منفصل عن الجسد ، فالفكر في اعتقاده هو جوهر الإنسان و الجسد عبارة عن ملحق لهذا العقل و الفكر ، فإذا كان ما يدركه العقل حقيقة موضوعية فهو الجوهر ، أما احساسات الجسد فهي مجرد انفعالات وليست أفعالا ، فديكارت هنا يوجه شبه نقد للفكر الأرسطي الذي يأخذ صور الماهيات من الجزئيات أي المحسوسات ، فأرسطو وحّد بين الصورة والمادة بين النفس والجسد ، ديكارت فصل بينهما وأعطى الأسبقية للفكر يعني أصالة العقل ، أي الجوهر هو العقل . وهذا ما يشير إليه الكوجيطو فحقيقة الوجود الذاتي مرتبطة أصلا بوجود نشاط عقلي اسمه التفكير . " أنا أفكر إذن أنا موجود ."










            تحصل المعرفة عند ديكارت بصيغتين أساسيتيتن وهما الحدس و الاستنتاج ، أي البداهة أولا ثم استنباط أفكار جديدة من البديهيات . و لخص منهجه المعرفي في أربعة أصول كما يلي :


            1ـ قاعدة اليقين : عدم قبول أي شيء على أنه حق إلا عند التيقن من ذلك . وفي هذه الجملة المنفية يظهر الشك المنهجي الديكارتي ، عدم القبول يعني أن هناك " شكا" ، لكن ليس شكا مطلقا بل هو شك من أجل اليقين ، لذلك سميت القاعدة قاعدة يقين و ليست قاعدة شك . وفيها يظهر الكوجيطو بشكلي جلي :" أشك و أفكر فأنا موجود ".

            2ـ قاعدة التحليل : تقسيم أو تفكيك مادة الاختبار إلى عدة أجزاء قدر الإمكان و وفق ما يقتضيه الحل .


            3ـ قاعدة التركيب : و هي عملية ترتيب وتنظيم الأفكار بتدرج من البسيط إلى المركب وصولا إلى معرف أكثر ترتيبا و تسمى أيضا عملية إنتاج المركب من البسيط .


            4ـ قاعدة الاستقراء العام : و تسمى أيضا إعادة النظر ، و هي مراجعة ما تم الحصول عليه .




            غاية المعرفة عند ديكارت هي إسعاد الإنسان و تيسير حياته و تحقيق الرفاهية له . يعتبره الكثيرون مؤسس الفكر الحداثي الغربي .

            تعليق

            • نورالدين لعوطار
              أديب وكاتب
              • 06-04-2016
              • 712

              #7
              نظرية المعرفة


              نظرية المعرفة حاضرة منذ القدم عند الحكماء والفلاسفة كما رأينا في المقالات السابقة ، فالمعرفة واحدة من الدعائم الثلاثة للنسق الفلسفي و يعتبرها الكثيرون أهم محور في الفلسفة إذ يمكن تناول المحاور الأخرى من خلالها ، لكن في الوقت ذاته يرى البعض أن الانطلاقة الحقيقية لنظرية المعرفة بدأت مع جون لوك في كتابه "مقالة في الفهم الإنساني" ، بينما يعتبر آخرون أن البداية الحقيقية لنظرية المعرفة كانت مع كانط في " نقد العقل المحض " .
              الإبيستمولوجيا كمفهوم بزغ لأول مرة عند الفيلسوف الأسكتلاندي جيمس فريديريك فيرير في القرن التاسع عشر في كتابه "مبادئ الميتافيزيقا " حيث قسم الفلسفة إلى مبحثين أساسيين وهما الإبيستمولوجيا" المعرفة " والأنطلوجيا "الوجود" .
              لكن الإبيستمولوجيا اليوم تعرّف بأنها الدراسة النقدية للعلوم ، حيث يوازي للاند بينها وبين فلسفة العلوم ، و هي مختلفة عن علم المناهج "الميثودولوجيا "، وتتناول في مباحثها سيرورة العلم إن كانت متصلة أو منفصلة " القطيعة الإبيستمولوجية " ، كما تتناول تصنيفات العلوم و تهتم أيضا بدراسة العلم وفق موضع محدد تاريخيا " البراديغم " و يعتبر منطق العلم أحد العلوم القريبة جدا من الإبيستيمولوجيا لكونه يدرس لغة العلم و يحللها منطقيا .
              تختلف الإبيستمولوجيا الحديثة عن نظرية المعرفة التي تختص في دراسة تكوّن المعرفة عموما " علمية أو غير علمية " من حيث طبيعتها و حدودها و قيمتها و علاقتها بالواقع ، و النتائج التي توصلت إليها الاتجاهات المادية والمثالية ، و المخبرية والعقلانية ، بينما تتناول الإبيستمولوجيا المعرفة العلمية فقط . نظرية المعرفة في قراءاتها تنحو إلى الإطلاقية والتعميم و إصدار الأحكام ، بينما تتناول الإبيستمولوجيا العلوم بالنقد مبتعدة عن التعميم والإطلاقية .

              تعليق

              • نورالدين لعوطار
                أديب وكاتب
                • 06-04-2016
                • 712

                #8
                أصالة الحس


                إذا كان أريسطو وازن بين الحس والعقل رغم أسبقية الحس و ضرورة العقل في فهم الوجود و أسس المنطق كتفسير لعمل العقل ، و جاء بعده ديكارت ليعتبر الحس مجرد مكمل للعقل و آمن بالأفكار الفطرية ، فجون لوك بدأ من هذه النقطة مؤسسا للنظرية المعرفية الحسية ، التي ترى أن العقل صفحة بيضاء تمده الحواس بالأفكار البسيطة التي تتموضع في الذاكرة و تلتصق بها حتى عند غياب الشي المحسوس و على أساس هذه المعرفة الحسية تنشأ الأفكار المركبة التي تنقسم إلى جواهر و أحوال وعلاقات .
                فالذهن عند لوك سلبي في تلقي الأفكار البسيطة و فاعل في إنتاج الأفكار المركبة ، الأفكار البسيطة يقصد بها لوك ، الخبرة الحسية و إن شئتم لتقريب المفهوم أكثر " الأفكار التي تنشأ عن الحواس " مثلا برودة ، حرارة ، ألوان ، أصوات ،.... " و الأفكار المركبة مثل :" الجوهر و النوع و السببية ..."
                لوك لا يعتقد بجزم أن الحواس هي مصدر المعرفة بل يتحدث عن الإدراكات الحسية أي صور الأشياء الحسية ، والذهن عنده قادر على تصحيح الصورة الحسية ، حيث تتكون الأفكار البسيطة ، عن طريق قوتين ذهنيتين و هما الاحتفاظ بالصور ثم استرجاعها ، و بهذا الاسترجاع تحدث المقارنة و يتم التمييز والفصل بين الإدراكات الحسية "


                إذا كان الإدراك الحسي يكتفي فيه العقل "بالسلبية " وتكون المادة الخام التي اشتغل عليها مجرد صور للحسيات يعمل على تصنيفها وترتيبها قصد تجريدها ، ففعالية العقل تأتي بعد ذلك عند لوك أي يقوم العقل عبر خطوات جديدة بإنتاج الأفكار المركبة .
                1ـ الإدماج : وهو الجمع بين فكرتين بسيطتين للحصول على فكرة مركبة
                2ـ التعلق : و هو إدراك السابق ثم اللاحق من فكرتين بسيطتين للحصول على مفهوم السببية كفكرة مركبة .
                3ـ التجريد : و تستند على تعميم الذي يحصل عند إدراك التشابه بين عدد من الإدراكات البسيطة ، فيتم من خلاله ظهور فكرة مركبة ، وهو شبيه بتكوّن الكليات عند أريسطو .


                المعرفة عند لوك تنقسم إلى قسمين معرفة حدسية ، ثم معرفة استدلالية ، الحدس هنا ليس حدسا روحيا مثاليا ، لكنه حدس حسي و هو قوة في العقل تستطيع إدراك الحقائق كما تدرك الحواس الأشياء ، فالحدس عنده تجريبي.


                أدخل هيوم الاتجاه الحسي التجريبي في نظرية المعرفة رحاب الشك المذهبي و فتح نوافذه على مصراعيها عكس لوك الذي ظل محافظا على اليقينية الحدسية الحسية و الترجيحية " الاحتمالية" الاستدلالية الرياضية .
                دفيد هيوم اشتغل على نفس النظام المعرفي الذي أسسه لوك مع بعض الاختلافات فهو يعتبر الإدراكات الحسية تتحول إلى ، انطباعات و أفكار فالانطباعات هي أفكار حيوية تستقر بالذاكرة ، و الأفكار الصريحة تكون في المخيلة وهي فاقدة للحيوية وباهتة . فملكة الذاكرة هي التي يستحضر بها الذهن الأفكار الحيويّة كما استقبلها من الحواس ، والمخيلة هي الملكة التي يفكر بها الذهن في الأفكار بعد أن تفقد حيويتها و ارتباطها بالإدراك الحسي.
                يعطي هيوم للذاكرة الأولوية في العمليات العقلية الأكثر رقيا مثل ، التوالي و الاستدلال والحكم بينما تختص المخيلة بالأفكار المجردة أي انطباعات الدرجة الثانية .
                رغم ذلك فالمخيلة عند هيوم مستقلة و تحتل مكانة بين الذاكرة والفاهمة و هي التي تقوم بوظيفة تداعي الأفكار رغم تدخل الذاكرة في العملية إذ تقوم بالربط والفصل بين الأفكار البسيطة على أساس مبدأ التداعي فالمخيلة تنتقل من فكرة إلى أخرى أو تربطهما على أساس :
                1ـ التطابق : فكلما كانت تطابق بين فكرتين ، فكلما حضرت الأولى تحضر الثـانية .
                2ـ الاختلاف : أي كلما كان هناك نتنافر بين فكرتين ، فحضور الأولى يستدعي حضور الثانية .
                3ـ الأثر : أي كلما كان هناك سبب كانت هناك نتيجة والعكس .


                هيوم يضع الأفكرار المركبة في الفاهمة و بها ندرك الأحوال والعلاقات والجواهر .

                تعليق

                • نورالدين لعوطار
                  أديب وكاتب
                  • 06-04-2016
                  • 712

                  #9
                  العقلانيون :


                  في مقال العقل الحديث سبق أن توقفنا عند ديكارت و الشك المنهجيّ ولن أتناول العقلانيين المعاصرين له كسبينوزا أو ليبنتز ، بل سأنتقل إلى التيار الجديد في العقلانية ، وستكون لنا وقفة مع كانط و نظريته في المعرفة و كذا وقفة مع هيجل .
                  يعتقد البعض أن كانط هو آخر فلاسفة عصر التنوير ، أو العصر الحديث ، أو بتعبير آخر الحداثة ، إذ بعده سيأتي تيار ما بعد الحداثة ، على كل يبقى كانط واحدا من كبار عقول الفكر الغربي الحديث الذي حاول التوفيق بين العقل والتجربة وحاول التأسيس لمنطق جديد لفلسفة العقل ، يسلم نيتشه أن نقد العقل النظري الذي كتبه كانط يلامس الصواب ، كما اعتبره شوبنهاور أعظم ما أنتجته الفلسفة الألمانية ، كما ربط هيجل معرفة الفلسفة بقراءة كانط .
                  تواصل الصراع بين أصالة الحس " لوك وهيوم" و أصالة العقل عند العقلانيين قبل كانط ومن بينهم جورج باركلي حيث الماهية سابقة على الوجود ، فكل شيء غير مدرك فهو غير موجود " أن يوجد يعني أن يدرك "
                  يرى شوبنهور ، أن فضل كانط هو قدرته على التمييز بين الشيء بذاته و الشيء الذي أدركناه . حقيقة لا أحب التوغل في الاستدلالات والبراهين الفلسفية للأصول النظرية ، فهذا يحتاج إلى بحث موسع لن تجيب عنه مقالات تتوخى التعريف بالمعرفة ونظرية المعرفة بشكل مبسط ، و لكن لابأس أن نعرف ميزة كانط عن باقي الفلاسفة المثاليين والعقلانين و كذا تمييزه عن الفلاسفة التجريبيين " الحسيّين " ، فكانط يعتقد أن الأشياء لها وجود خارجي حقيقي ، لكننا لا نستيطيع أن ندركها كما هي يقينا بل فقط ندركها كما ندركها . ولتبسيط هذه المقولة ، نأخذ اللون مثلا ، فالإنسان يرى كل الألوان المعروفة ، بينما بعض الحيوانات لا ترى الشيء كما نراه بكل ألوانه ، فبين الرؤيتين نستشف أن الشيء واللون موجودان ، لكن أي الرؤيتين تمثل مصداق الشيء ، هنا تتضح قولة كانط أن الشيء لا نستطيع أن ندركه إلا كما ندركه .


                  نعود إلى أريسطو الذي أسس علم المنطق ، فصورية هذا المنطق لم تنل استحسان كانط ، بل يصر على ربط القوانين بموضوعاتها ، كما أن أصل هذا المنطق ذي اللإيحاءات الأنطولوجية جعلت كانط يتناوله بدراسة نقدية ، فأريسطو سطر قوانين الفكر واعتبر قوانينه بديهية دون أن يؤصل لهذه القوانين ، وفي دراسته النقدية لعلم المنطق ، وصل كانط إلى أصول إبيستيمولوجية أن العقل له استعدادات قبلية بها يعالج الحدوس الحسية ، و هذه الاستعدادات سماها كانط بالمقولات و منها الزمان والمكان والسببية ... ، فكل معارفنا الحسية ينظمها العقل وفق تلك القوالب ، لكن كانط في نفس الوقت اشترط عمل العقل بوجود الحدوس الحسية ، فملكات الفهم تلك لا يمكن أن تشتغل إلا على ماهو تجريبي . و تعد هذه من أبرز مؤاخذات الميتافيزيقا على كانط ، إذ أخرج ماوراء الطبيعة عن مجال العقل . فقوانين الطبيعة في نظره لا يمكن نقلها إلى ما وراءها .
                  من خلال دراسته للفلسفة رأى كانط تضارب الاتجاهات الفلسفية حد التناقض وبما أن التناقض في علم المنطق يعني اللامعقولية ، يعني أن العقل ينتج اللامعقول كلما توجه إلى ما وراء الطبيعة ، و هيجل انطلق من هذه النقطة ليعترف للتناقض بنوع من الأصولية ، فإذا كانت الفلسفات تختلف كلما بحثت عن الجوهر ، فربما أن هذا التناقض هو ضرورة و حقيقة في سبيل الوصول إلى الجوهر ، وهنا أسس قانونه الجدلي الذي اشتغل عليه ماركس ، فالطرح ينتج عنه نقيضه ومنهما ينتج التركيب و هكذا تستمر جدلية المعرفة في شكل تطوّري . فصيرورة تشكّل المعرفة مرتبطة بجوهرية التناقض فيها .

                  تعليق

                  • أميمة محمد
                    مشرف
                    • 27-05-2015
                    • 4960

                    #10
                    شكراً لمقالتك القيمة أستاذ نورالدين وشكراً لمشاركتنا إياها في ملتقى الأدباء العرب
                    بورك قلمك رشيق وهادف
                    مع التقدير

                    تعليق

                    • نورالدين لعوطار
                      أديب وكاتب
                      • 06-04-2016
                      • 712

                      #11
                      الأستاذة أميمة محمد

                      ممتن لحضورك الجميل
                      تقديري الوافر .

                      تعليق

                      يعمل...
                      X