أسدل اللّيل ستار العتمة و خبا وضوح النهار في رحاب السوق الأسبوعي الذي يقصده ساكنو القرى المتناثرة بين الكتل الجبلية المحيطة بالبلدة ، الوادي شطر البلدة شطرين غير متفاوتين ، هناك على الضفة الأخرى تنعم البلدة بأنوار المصابيح حيث ترسو البنايات الإدارية و الأحياء العصرية ، و تزهو الثانوية ببنائها الشامخ المتكئ على الجبل لتمتد ملاعبها بانتشاء إلى حافة الوادي الذي صمت خريره في موسم أمطار و ثلوج أمسكت عن الهطول . في دروب السوق الضّيقة و رحابه الفسيحة و بناياته العتيقة تخبو الحركة بمجرد دنو الليل ، شعلة الشمعة تقصفها تيّارات ريح باردة تتسلّل من شقوق باب الغرفة الخشبي الذي تباعدت ألواحه .
لا تزال عاصفة الصحراء تمطر رصاصا و تمد جشع المحطات الإذاعية بما يطفئ نهم متتبعيها ، أزرار المذياع تداعبها أنامل ناصر المرتعشة و قد نال من يقظته صخب النّهار و جبروت المخدّر ، بينما يلف عامر التبغ المتبّل بالحشيش في ورقة لينة فتمسي سيجارة طويلة بدون مصفاة متمتما : " الحرب قاسية..."
لم يرد عليه ناصر و هو يطير بين المحطات الغربيّة والشرقيّة و المحليّة ، كلّ منها تغني بإيقاع مختلف على أنغام الموت و القتل و الدمار . منذ شهور كانت الجحافل تستعد للاستعراض ، منذ شهور و أمواج الأثير تسكنها أنواع الأسلحة الفتاكة ، بين بحرية و جوية فبرية ، الكل متشوق لصفّارة البداية .
المدرسة الأجنبية غادرت منذ شهر، يتذكر ناصر يوم نعت الطّلاب قائد بلادها بالإرهابي ، كانت تبكي بكاء مريرا ، و تطلب منهم احترام بلادها كما تقدر وطنهم و رموزه ، عامر كان سبّاقا إلى لسعها بوخزات سريعة :" أنتم لا تحترمون أحدا ، أنتم غزاة و شياطين و استعماريون ." يرتشفان من السيجارة و يتناوبان على استذرار العفو و التّوبة والثّواب . يسترجعان أحداث النهار ، فناصر استيقظت أذناه على أناشيد الحرب على بعد آلاف الأميال ، و سمع كلاما ثبّط همته منذ انبلاج الفجر ، فقوات التحالف حيدت سلاح الجو العراقي و دمرت أغلب مطاراته قبل الفجر " إنه الغدر ، إنها الخيانة ، إنها الحرب " هكذا يفكر ناصر و هو لا يستطيع إخراج رأسه من تحت الغطاء ، استهل يومه بهذا الشّعور الممزّق بين حسرة الهزيمة و الرغبة في النوم و البرد القارس الذي يخترق بطانية تكوّم فيها ، تشاءم من هذه البداية الصّعبة ، فلاشك أن يومه ستغزل خيوطه على نفس المنوال ، فالحرب خدعة و مباغتة و النصر رهين بالبداية الموفقة . اهتزّت قاعة النوم فجأة و قد دقّت السابعة و المذيع يتلو بلاغا حكوميا : " ستتعطل المدارس إلى أجل غير مسمّى " عندها تأكّد ناصر أنه ليس الوحيد المتتّبع للحرب ، بل كل هؤلاء الرّاقدين إلى جواره في هذه البناية العمومية يتجرّعون في صمت روائح الموت القادم من الشرق ، لكن العطلة المفاجئة نفخت في نفوسهم روح النّصر ، فاستجابوا هاتفين منتفضين من أسرّتهم يتبادلون التّهاني ، و بشرى الفرح ترتسم على ملامحهم .
فرادى وجماعات ينتشرون عبر الطّرقات من غير هدى ، الكل شرب من معتّقة الحرب ، يكثر لغطهم و تتصاعد مشادّاتهم ، و يقسم بعضهم بأغلظ الأيمان أن أمريكا وربيبتها إسرائيل ستنالان أشدّ العقاب ، من ملايين الجنود المدججين بعزم جارف و عتاد متين ، مدافع القيامة ، صواريخ الرعد ناهيك عن آلاف الدّبابات والمدرعّات المنتشرة في الصحراء كالجراد " يضيف آخر : " يقولون أنّهم دمّروا سلاح الجو العراقي .. هذه أكذوبة ، قاذفات العراق في المخابئ و الأنفاق الغائرة ، وكلّ ما حطّموه مجسّمات كرتونية و بلاستيكيّة و ألعاب عاشوراء في فناء الصحراء ، خدع حربيّة من جيش متمرس ."
تساءل عامر و هو يضرب على محفظة أدواته المدرسية :" لم أكن أعلم أن الحرب بدأت اليوم ، و بحثت عنك منذ وصولي إلى المركز ، خمّنت أنّك غادرت إلى قريتك ، فقد رأيت العديد من التلاميذ في المحطة و هم يحملون حقائبهم . " رد عليه ناصر : " إلى أين المسير سأبقى في البلدة للتسكع ، لا تنسى أنني سأرى صديقتي قبل المغادرة ، فربما امتدّت الحرب إلى الغرب ، من يدري ..؟ فالقتال طوفان عندما ينطلق يستحيل احتواؤه." التقيا بصالح و عبروا الجسر إلى السوق ، في الغرفة شربوا الشاي ، و أعدّوا طعام الغداء ، و أذن ناصر لا تفارق المذياع الذي يقدم وجبات إخبارية جديدة سريعة كل حين ، كأن الأمر يتعلق بجولة عبر الميادين الرياضة في مباريات مفتوحة ، المدفعية تسقط أسراب طائرات التّحالف بالعشرات ، و الحدود محصنة بفعل حزام ناري من أنابيب النفط ، إنها العبقرية الحربية ، قريبا ستنهمر زخات الرّصاص على اسرائيل ، شعبها يموت رعبا في الجحور ، ويصابون بالاختناق في أقنعة مضادّة للغازات ، و أغنياؤهم يفرّون عبر مطاراتهم إلى أقاصي الأرض حالمين بمأوى يعصمهم من الطّوفان .
رمى ناصر عقب السّيجارة جهة الباب و تحسس جسمه المنهك ، بدأ الألم يعتري جملة جسده ، لم يتفطن أن جسده استقبل هذا الكم الزاخر من اللكمات و الركلات ، كان بالإمكان تفادي ذلك الصراع لولا روح الحرب التي تغلي في النفوس ، لم يطلب من تلك الفتاة الهين حظّها من الجمال ، الحاملة لقفّة الأعشاب إلا أن تخبر ليلى بوجوده بالجوار عندما انقضّت عليه بألفاظ بذيئة ، سارعت رفيقتاها إلى شتمه و سبّه ، دافع عن شرفه فلم يتوقفن، فعلا هدير عامر متوعّدا بضربهنّ و رفس أجسادهن اللّينة ، فجأة طوّقه ثلاثة من حرّاس حقول القرية الجاثمة على أطراف البلدة فبدأت المعركة ، كان يدافع عن نفسه بتجنب الاتحام بأعدائه و بين الفينة والفينة يرسل ما تلقفته يمينه من حجارة نحو خصومه ، لكنهم نجحوا في إنزال ضرباتهم على جسده الفتي فما إن يحكم قبضته على واحد منهم حتى يحسّ بلكماتهم تنهال على ظهره و رأسه ، فبدأ يتحين فرصة الهروب ، فالحميّة تغالب السّبع ، فرّ من المعركة صاغرا والفتيات يزغردن ، بينما خصومه يرسلون قاذفاتهم مثيرة الغبار عند قدميه ." يا له من يوم عصيب !! الحرب في كل مكان .." لا يلتفت إلى الوراء و هو يعدو بخطوات سريعة نحو السوق . لما رآه عامر رجع مبكرا ، قام من مرقده و كذلك فعل صالح ، وما أن قص عليهم محنته حتى قاما إلى الحرب وانضم اليهم بعض الحرفيين فغزوا حقول القرية باحثين عن كبش فداء ، كانت ليلى هناك تحش بمنجلها الأعشاب ، هلت إشراقة وجهها المستدير مرحبة بقدوم فارسها ،، تبادلا طيّب حديث نابع من أعماق قلبين ملتهبين ، قصّ عليها مصابه فسقطت دمعتان من عينيها و هي ناقمة على الّذين يرهبون كل غريب يتودّد إلى فتيات القرية . كانا يرتشفان من الغزل ألذّه بينما رفاقه يلهون بشابّ جاء متجسّسا كفأر وقع بين قطط هوجاء . هم ناصر بالذهاب إلى قريته لكنّ حبيبته أكّدت عليه أن تراه صباحا في مركز البلدة بعيدا عن عيون السّوء ، فقرّر المبيت عند صديقه عامر .
" أصبح العشاء جاهزا " هكذا قال عامر بينما ناصر يفك شفرات تضارب أنباء الحرب ، كيف تحولت كل تلك الطيور التي تم اقتناصها إلى مجرّد أهداف جوية ! بدأت كذبة تساقط الأشباح تنهار و تتبخر حتى قبل مضي يوم من الحرب ، لابدّ من قبول الهزيمة كما الهزائم الماضية ، يتذكر ناصر يوم كان صبيّا و هو يسأل أستاذه عن موقع بلده في الحرب العالمية ، كان جواب الأستاذ كذبة أخرى من تلك الانتصارات الزّائفة : " بلدنا حارب بجانب الحلفاء " أحسّ يومها بفخر عظيم ، لكن فرحته لم تصمد كثيرا حين اكتشف أن بلاده حينئذ ترزح تحت وطأة جور الحلفاء ، لتتوالى في نفسه الانكسارات فرد على عامر : "شهيّتي مقبوضة..." لم تستطع نشوة العطلة اختراق حصون مآسيه ، و لم ينل لقاء الحبيبة من جبروت ظلمة تغشى نفسيته ، عندها اقتحم أحد الحرفيين الغرفة " إننا نتعرض لهجوم !"
هب ناصر حاملا سكّينا ، و تبعه عامر يحمل هراوة غليظة ، و بدأ الكرّ والفرّ في دروب السّوق المظلمة و رحابه الحالكة ، و الرّجم لا يتوقف حتى طوّقهم رجال الأمن .
مضت ساعة داخل غرفة المخفر الباردة المظلمة بدون بارقة أمل ، و بدأ الفريقان المتحاربان يلوقون باللوم على أنفسهم و يتوجسون من هذه الورطة و ما يخبّئه اللّيل من عاقبة وخيمة ، بينما ناصر غمرته حيرة الحرب ، من يستفيد من هذه الحروب القذرة ، من يستطيع كبح تلك الأنانيات السّاذجة ، أسئلة بلا أجوبة و مصير غير آمن . عندها نادى عليهم القائد و استقبلهم في مكتبه ، و بدأ يتوعدهم لما اقترفوه من إضرار بأمن البلدة ، وترهيب لأهاليها الآمنين ، في أيام محفوفة بالمخاطر . كانت محاضرته كلّها وعيدا و سبّا وشتما و الكلّ ساكت فباشره ناصر : " إنهم من بدأوا العراك و اقتحموا السوق !" فأجابه القائد بجفاء : "أيها المشاغب المشاكس أنت من سبّب هذه الفضيحة ، أنت من يتزعّم المظاهرات في الثّانوية ، أنت من يكهرب الأجواء ، لماذا لم تذهب إلى قريتك و قد أعلنت العطلة ، إن بقيت غدا في البلدة فسأحرّر محضرا يجعلك تندم على اليوم الّذي ولدتك فيه أمك ، أيها القاصر الأبله . هذا تحذيري الأخير ، و إن عدتم إلى هذه الفوضى فلن أتوانى في القيام بواجبي ."
خرج ناصر يتأبط ذلّ الهزيمة ، بينما عامر يمشي إلى جانبه في صمت رهيب ، وصلا إلى الغرفة عند منتصف اللّيل ، تقلّد حقيبته الظّهرية : فقال له عامر : " أراك ستغادر .." رفع بصره نحو صديقه مردّدا : " كلّنا يوما سنغادر ، كلّنا يوما سنستسلم ، فالحياة حرب لا تتوقف ..."
لا تزال عاصفة الصحراء تمطر رصاصا و تمد جشع المحطات الإذاعية بما يطفئ نهم متتبعيها ، أزرار المذياع تداعبها أنامل ناصر المرتعشة و قد نال من يقظته صخب النّهار و جبروت المخدّر ، بينما يلف عامر التبغ المتبّل بالحشيش في ورقة لينة فتمسي سيجارة طويلة بدون مصفاة متمتما : " الحرب قاسية..."
لم يرد عليه ناصر و هو يطير بين المحطات الغربيّة والشرقيّة و المحليّة ، كلّ منها تغني بإيقاع مختلف على أنغام الموت و القتل و الدمار . منذ شهور كانت الجحافل تستعد للاستعراض ، منذ شهور و أمواج الأثير تسكنها أنواع الأسلحة الفتاكة ، بين بحرية و جوية فبرية ، الكل متشوق لصفّارة البداية .
المدرسة الأجنبية غادرت منذ شهر، يتذكر ناصر يوم نعت الطّلاب قائد بلادها بالإرهابي ، كانت تبكي بكاء مريرا ، و تطلب منهم احترام بلادها كما تقدر وطنهم و رموزه ، عامر كان سبّاقا إلى لسعها بوخزات سريعة :" أنتم لا تحترمون أحدا ، أنتم غزاة و شياطين و استعماريون ." يرتشفان من السيجارة و يتناوبان على استذرار العفو و التّوبة والثّواب . يسترجعان أحداث النهار ، فناصر استيقظت أذناه على أناشيد الحرب على بعد آلاف الأميال ، و سمع كلاما ثبّط همته منذ انبلاج الفجر ، فقوات التحالف حيدت سلاح الجو العراقي و دمرت أغلب مطاراته قبل الفجر " إنه الغدر ، إنها الخيانة ، إنها الحرب " هكذا يفكر ناصر و هو لا يستطيع إخراج رأسه من تحت الغطاء ، استهل يومه بهذا الشّعور الممزّق بين حسرة الهزيمة و الرغبة في النوم و البرد القارس الذي يخترق بطانية تكوّم فيها ، تشاءم من هذه البداية الصّعبة ، فلاشك أن يومه ستغزل خيوطه على نفس المنوال ، فالحرب خدعة و مباغتة و النصر رهين بالبداية الموفقة . اهتزّت قاعة النوم فجأة و قد دقّت السابعة و المذيع يتلو بلاغا حكوميا : " ستتعطل المدارس إلى أجل غير مسمّى " عندها تأكّد ناصر أنه ليس الوحيد المتتّبع للحرب ، بل كل هؤلاء الرّاقدين إلى جواره في هذه البناية العمومية يتجرّعون في صمت روائح الموت القادم من الشرق ، لكن العطلة المفاجئة نفخت في نفوسهم روح النّصر ، فاستجابوا هاتفين منتفضين من أسرّتهم يتبادلون التّهاني ، و بشرى الفرح ترتسم على ملامحهم .
فرادى وجماعات ينتشرون عبر الطّرقات من غير هدى ، الكل شرب من معتّقة الحرب ، يكثر لغطهم و تتصاعد مشادّاتهم ، و يقسم بعضهم بأغلظ الأيمان أن أمريكا وربيبتها إسرائيل ستنالان أشدّ العقاب ، من ملايين الجنود المدججين بعزم جارف و عتاد متين ، مدافع القيامة ، صواريخ الرعد ناهيك عن آلاف الدّبابات والمدرعّات المنتشرة في الصحراء كالجراد " يضيف آخر : " يقولون أنّهم دمّروا سلاح الجو العراقي .. هذه أكذوبة ، قاذفات العراق في المخابئ و الأنفاق الغائرة ، وكلّ ما حطّموه مجسّمات كرتونية و بلاستيكيّة و ألعاب عاشوراء في فناء الصحراء ، خدع حربيّة من جيش متمرس ."
تساءل عامر و هو يضرب على محفظة أدواته المدرسية :" لم أكن أعلم أن الحرب بدأت اليوم ، و بحثت عنك منذ وصولي إلى المركز ، خمّنت أنّك غادرت إلى قريتك ، فقد رأيت العديد من التلاميذ في المحطة و هم يحملون حقائبهم . " رد عليه ناصر : " إلى أين المسير سأبقى في البلدة للتسكع ، لا تنسى أنني سأرى صديقتي قبل المغادرة ، فربما امتدّت الحرب إلى الغرب ، من يدري ..؟ فالقتال طوفان عندما ينطلق يستحيل احتواؤه." التقيا بصالح و عبروا الجسر إلى السوق ، في الغرفة شربوا الشاي ، و أعدّوا طعام الغداء ، و أذن ناصر لا تفارق المذياع الذي يقدم وجبات إخبارية جديدة سريعة كل حين ، كأن الأمر يتعلق بجولة عبر الميادين الرياضة في مباريات مفتوحة ، المدفعية تسقط أسراب طائرات التّحالف بالعشرات ، و الحدود محصنة بفعل حزام ناري من أنابيب النفط ، إنها العبقرية الحربية ، قريبا ستنهمر زخات الرّصاص على اسرائيل ، شعبها يموت رعبا في الجحور ، ويصابون بالاختناق في أقنعة مضادّة للغازات ، و أغنياؤهم يفرّون عبر مطاراتهم إلى أقاصي الأرض حالمين بمأوى يعصمهم من الطّوفان .
رمى ناصر عقب السّيجارة جهة الباب و تحسس جسمه المنهك ، بدأ الألم يعتري جملة جسده ، لم يتفطن أن جسده استقبل هذا الكم الزاخر من اللكمات و الركلات ، كان بالإمكان تفادي ذلك الصراع لولا روح الحرب التي تغلي في النفوس ، لم يطلب من تلك الفتاة الهين حظّها من الجمال ، الحاملة لقفّة الأعشاب إلا أن تخبر ليلى بوجوده بالجوار عندما انقضّت عليه بألفاظ بذيئة ، سارعت رفيقتاها إلى شتمه و سبّه ، دافع عن شرفه فلم يتوقفن، فعلا هدير عامر متوعّدا بضربهنّ و رفس أجسادهن اللّينة ، فجأة طوّقه ثلاثة من حرّاس حقول القرية الجاثمة على أطراف البلدة فبدأت المعركة ، كان يدافع عن نفسه بتجنب الاتحام بأعدائه و بين الفينة والفينة يرسل ما تلقفته يمينه من حجارة نحو خصومه ، لكنهم نجحوا في إنزال ضرباتهم على جسده الفتي فما إن يحكم قبضته على واحد منهم حتى يحسّ بلكماتهم تنهال على ظهره و رأسه ، فبدأ يتحين فرصة الهروب ، فالحميّة تغالب السّبع ، فرّ من المعركة صاغرا والفتيات يزغردن ، بينما خصومه يرسلون قاذفاتهم مثيرة الغبار عند قدميه ." يا له من يوم عصيب !! الحرب في كل مكان .." لا يلتفت إلى الوراء و هو يعدو بخطوات سريعة نحو السوق . لما رآه عامر رجع مبكرا ، قام من مرقده و كذلك فعل صالح ، وما أن قص عليهم محنته حتى قاما إلى الحرب وانضم اليهم بعض الحرفيين فغزوا حقول القرية باحثين عن كبش فداء ، كانت ليلى هناك تحش بمنجلها الأعشاب ، هلت إشراقة وجهها المستدير مرحبة بقدوم فارسها ،، تبادلا طيّب حديث نابع من أعماق قلبين ملتهبين ، قصّ عليها مصابه فسقطت دمعتان من عينيها و هي ناقمة على الّذين يرهبون كل غريب يتودّد إلى فتيات القرية . كانا يرتشفان من الغزل ألذّه بينما رفاقه يلهون بشابّ جاء متجسّسا كفأر وقع بين قطط هوجاء . هم ناصر بالذهاب إلى قريته لكنّ حبيبته أكّدت عليه أن تراه صباحا في مركز البلدة بعيدا عن عيون السّوء ، فقرّر المبيت عند صديقه عامر .
" أصبح العشاء جاهزا " هكذا قال عامر بينما ناصر يفك شفرات تضارب أنباء الحرب ، كيف تحولت كل تلك الطيور التي تم اقتناصها إلى مجرّد أهداف جوية ! بدأت كذبة تساقط الأشباح تنهار و تتبخر حتى قبل مضي يوم من الحرب ، لابدّ من قبول الهزيمة كما الهزائم الماضية ، يتذكر ناصر يوم كان صبيّا و هو يسأل أستاذه عن موقع بلده في الحرب العالمية ، كان جواب الأستاذ كذبة أخرى من تلك الانتصارات الزّائفة : " بلدنا حارب بجانب الحلفاء " أحسّ يومها بفخر عظيم ، لكن فرحته لم تصمد كثيرا حين اكتشف أن بلاده حينئذ ترزح تحت وطأة جور الحلفاء ، لتتوالى في نفسه الانكسارات فرد على عامر : "شهيّتي مقبوضة..." لم تستطع نشوة العطلة اختراق حصون مآسيه ، و لم ينل لقاء الحبيبة من جبروت ظلمة تغشى نفسيته ، عندها اقتحم أحد الحرفيين الغرفة " إننا نتعرض لهجوم !"
هب ناصر حاملا سكّينا ، و تبعه عامر يحمل هراوة غليظة ، و بدأ الكرّ والفرّ في دروب السّوق المظلمة و رحابه الحالكة ، و الرّجم لا يتوقف حتى طوّقهم رجال الأمن .
مضت ساعة داخل غرفة المخفر الباردة المظلمة بدون بارقة أمل ، و بدأ الفريقان المتحاربان يلوقون باللوم على أنفسهم و يتوجسون من هذه الورطة و ما يخبّئه اللّيل من عاقبة وخيمة ، بينما ناصر غمرته حيرة الحرب ، من يستفيد من هذه الحروب القذرة ، من يستطيع كبح تلك الأنانيات السّاذجة ، أسئلة بلا أجوبة و مصير غير آمن . عندها نادى عليهم القائد و استقبلهم في مكتبه ، و بدأ يتوعدهم لما اقترفوه من إضرار بأمن البلدة ، وترهيب لأهاليها الآمنين ، في أيام محفوفة بالمخاطر . كانت محاضرته كلّها وعيدا و سبّا وشتما و الكلّ ساكت فباشره ناصر : " إنهم من بدأوا العراك و اقتحموا السوق !" فأجابه القائد بجفاء : "أيها المشاغب المشاكس أنت من سبّب هذه الفضيحة ، أنت من يتزعّم المظاهرات في الثّانوية ، أنت من يكهرب الأجواء ، لماذا لم تذهب إلى قريتك و قد أعلنت العطلة ، إن بقيت غدا في البلدة فسأحرّر محضرا يجعلك تندم على اليوم الّذي ولدتك فيه أمك ، أيها القاصر الأبله . هذا تحذيري الأخير ، و إن عدتم إلى هذه الفوضى فلن أتوانى في القيام بواجبي ."
خرج ناصر يتأبط ذلّ الهزيمة ، بينما عامر يمشي إلى جانبه في صمت رهيب ، وصلا إلى الغرفة عند منتصف اللّيل ، تقلّد حقيبته الظّهرية : فقال له عامر : " أراك ستغادر .." رفع بصره نحو صديقه مردّدا : " كلّنا يوما سنغادر ، كلّنا يوما سنستسلم ، فالحياة حرب لا تتوقف ..."
تعليق