الشاطر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نورالدين لعوطار
    أديب وكاتب
    • 06-04-2016
    • 712

    الشاطر

    حطت بهم الرحلة في هذا المخيم الصيفي ، مساكنه متناثرة بين شعاب تخترق أرضه المنبسطة الممتدة غربا إلى شاطئ البحر برماله الذهبية الملمعة بمياه المد والجزر، وشرقا تترامى إلى التلال المعانقة للأفق البعيد مستندة على كتل جبلية تلف قممها عمامات ثلج بيضاء ، الجو تميل حرارته إلى اعتدال ربيعي في عز أيام القيض ، فجرا يتهادى الضباب من أعماق اليم إلى حدود الجبل ، فيحد من نصاعة المنظر البديع الذي يتجلى في الضحى عند بزوغ أشعة الشمس كانسة أطياف دخان البحر .
    علي يحب الركض واراء الفراشات والعبث بالحشرات ، وقنص الطيور ، في يده مقلاع به يصوب بدقة رام محترف ، كلما ظهرت يمامة أرسل إليها قذيفة تسقط بعضا من ريشها أو تهوي صريعة ، تستهويه ذوات الأجنحة فيقلد تغريد البلابل ، وهديل الحمام و شقشقة الشحارير ، لا يحب نعيب الغربان المحلقة مساء ، و يشمئز كلما رآها تحملق ذات اليمين والشمال ، تمنى لو تفقد أجنحتها فتلازم جحور الأرض . ترافقه سوسو ، سالوقية بأطراف طويلة وجسم نحيف ، كلما اقتنص صيدا يكون لها هدية ، ما أن يبدأ الرمي حتى تنطلق كالسهم لا تعيقها السهوب والأحجار و الأغصان اليابسة المنتشرة تحت الظلال الوارفة . كلما دب إليه العياء تناول قنينة الماء من محفظته الظهرية ، مستظلا بدوحة الجوز أو شجرة البلوط ، مستمتعا بأناشيد الطيور التي تتناغم بشكل جميل ، يقض مضجعه صوت الصرار الذي يدوم كأزيز قطار لا يتوقف في أذنيه ، كلما تناهى إلى مسامعه أعد منجنيقه نحو الشجرة التي تحويه طاردا هذه الحشرة التي لا تحسن غير العويل على مدى العمر نادبة حظها العاثر من مسامرة الأنغام ومعانقة الألوان . يحب الهدهد ورشاقته و انسجام ألوانه ، يجده حكيما في انزوائه وملكا في هيئته ، يستحلى هدهدة تداعب أعماق نفسه ، تلاعب دقات قلبه فيقلد هذه التأتأة الحزينة فيتمدد استرخاء فتطير أحاسيسه سابحة في فضاء الأحلام .
    يعود كل يوم وقد تلطخت ملابسه ، فيجد أمه هيأت له حماما وطعاما ، يلهو بألعابه الالكترونية قليلا ، يشاهد حلقة صديق الأطفال ، ثم تتسلل أصابعه إلى الخزانة فيسيح بين أحضان قصصه في انتظار قدوم والده .
    أبوه يحبه حبا مجنونا ، رغم ذلك يفرض عليه نظاما صارما ، غسل الأسنان ، تقليم الاظافر ، تهوية الغرفة ، ساعات اللعب ، أوقات المذاكرة ، يرافقه إلى البحر وهناك يجده الشاطر إنسانا مغايرا ، يخيل إليه أنه طفل في حجم كبير ، يتراشقان بالماء ، يرميه على الأمواج ، يعلمه ركوبها على صهوة اللوح فيتزحلقان بندية الصبيان ، يصطادان الأسماك قرب الصخرة الجاثمة على بساط الماء الأزرق عند مصب النهر . يستطيب علي مخادعة الحيتان بصنارته الحادة التي يختار لها طعما أخاذا ، يحرك القصبة بمهارة الصياد ، تتهافت عليه الأسماك لترصع مائدة العشاء .

    الجار مصطفى ميسور الحال ، لديه قارب جميل ، يخت فيه غرفة نوم و مطبخ و حمام*وبهو صغير بأريكتين و مائدة و مقصورة القيادة بأجهزة وشاشات مختلفة الأحجام ، في شرفته مقاعد مذهبة تحت ظلة قزحية الألوان ، هناك يستشرف الجارمع زوجته طامو هذه الصفحة الزرقاء .
    ركبوا البحر و قد تبن الخيط الأبيض من الأسود ، أمه تظهر اليوم أكثر جمالا بجسمها الرشيق و فستانها الوردي . طامو تتحرك ببطء ، فاض وجهها على عنقها ، وتكوم ظهرها فغابت رقبتها ، باسمة الملامح ، وديعة الصوت ، صعدت اليخت بصعوبة و زفرات متتابعة ، ترغمها الأم في فسحتهما أحيانا على السباحة رغم تحرجها من عيون تشد إليها الرحال كلما شلحت ملابسها ، فتصبح كتلة لحمية بدينة تمشي الهوينى نحو الماء كفقمة سمينة .
    لم يحس غربة كبيرة رغم اقتحامه عالم الكبار أحيانا يرى فيهم براءة أطفال المدارس ، أحب أن يمثل في حضرتهم دور راشد حقيقي ، فيحاولون استنطاقه وأخذ رأيه فيجرهم إلى شغب الطفولة فتنطلق قهقهاتهم ، يحب استثارة ضحكاتهم فيظنون به قصورا ، يغتنمها فرصة لاستكشاف سذاجة الكبار ، قالت له الخالة طامو : "هل تود أن تلعب معي الغميضى؟"*رد عليها متهكما :" طبعا ولكن لا تستطيعين الاختباء تحت المائدة " فثارت ثائرتها واحمرت وجنتاها الممتلئتان ،فاستطرد قائلا:" عذرا خالتي لست كمشرفة برامج الأطفال ، يوما أرادت أن تمازح قطها الذي تقوس ظهره وانتفخ ذيله ، فغرز مخالبه في وجهها ، فاضطرت لارتداء قناع طيلة أسبوع كامل " انطلت الكذبة على الخالة المبتسمة على إيقاع ضحكات الجمع ، فضمته بقوة طابعة قبلة على جبينه ، فأحس ضغطا يعصر جسمه الفتي كما لو أنه بين فكي كماشة .*

    ما أحلى منظر الغروب ! حين تعانق الشمس مياه البحر وقد احمر الشفق وصفحة الماء كشفتي الأم . بينما الجميع على سطح المركب يشدهم رونق الطبيعة وقد ابتسم الأفق لمقدم الليل ، توقف المركب عن المسير فجأة و انطفأ مصباح بدأ نوره يشع ، أسرع العم مصطفى إلى مقصورة القيادة ، أفجعه دخول المياه المالحة إلى الجناح السفلي ، ، هرع إلى إطلاق نداء استغاثة فوجد جهاز الإنذار والاتصال معطلا ، أخرج هاتفه النقال من جيبه ليجده خارج التغطية ، صرخ بصوت مرعب : " ياسر..ياسر !! أينك ياسر ؟ هاقد أصبحنا في عداد الأموات ، ها قد تقطعت حبال الأمل" أجابوه بهبة واحدة ، فوجدوه منكسر الرجاء ، دامع العين ، يئن لهول الصدمة ، فانخرطت طاموا في العويل بينما الأم تقطبت ملامحها ، وظهرت على وجهها علامات السنين ، رد ياسر باستغراب " ماذا تعني ؟ ماذا سنفعل؟" فأجاب مصطفى بقلة حيلة " سنموت سنموت " أطلق علي صفيرا أتبعه بصياح فأخذته الأم بين ذراعيها :" ما من جدوى بني ، لن يسمعك أحد ، فنحن بعيدون جدا جدا "*لكن أردف في الحال : " عمي أين قارب النجاة ؟ " فرد العم بيأس ، أتظن هذا الكيس ينجينا من انفعال البحر ، أتظن أن أحدا سيفتقدنا ، أتظننا نستطيع بلوغ الشاطئ بهذا الصفاق و لو هدأ البحر " أسرع ياسر بفتح أحزمة الغشاء المطاطي وهو يردد : " لا باس سنحاول " انخرط الجميع في العمل ، وقد دلهم مصطفى على مكان وجود مضخة الهواء ، ولحسن حظهم ممدوا أنبوبها إلى السطح فبدأ الزورق يتشكل . وزعت الخالة قمصان االنجدة على الجميع وحملت لوحتها التي لا تفارقها ، كيف لا وهي تذكار يوبيلها الفضي.
    على الزورق استوى الخمسة بشق الأنفس و معهم سوسو تحرك ذيلها بدون توقف ، الخالة تتلو صلواتها وقد استحكم الظلام ، حين سمعوا ابتلاع البحر للمركب الجميل وهم لا يبتعدون عنه إلا بامتار معدودات ، فهزت حركة الماء الصفاق الذي يطفو بتوازن هش ، فكفة الخالة مائلة مما جعل زوجها يساعدها لتصل إلى مركزه .
    الأم تنشد في أذن الصغير بصوتها العذب أنشودة مرحة ، وبين الفينة والأخرى تمسح دمعة تهوي من عينيها قائلة : " أخاف أن أموت قبل أن تعلم يا بني ، أني مجرد أم ربتك ، أما والداك فقد ماتا في حادثة سير بعد مولدك بستة أشهر "
    كانت جملة أقوى من غرق المركب ، " آه أمي ماتت وأبي مات ، ونحن سنموت ، ما هذا يا إلهي ؟
    أنا السبب ، أنا الغراب ، أنا البومة ، أنا الشر تخلصوا مني ، أنا قاتل آبائي ، أنا من يقتلهم مرتين " يبكي منتحبا وأمه تمسح على رأسه بمرونة وهو يردد أنا الغراب ..أنا الغراب ... أنا البومة....تقبل جبينه وتقول " أبوك وأمك يريدانك قويا يا بني ، كن صلبا حتى أنت مستعد للقائهما ...لا تستسلم ، أنظر هناك رغم أننا في هذه الورطة ..... هناك نجوم تتلالأ و ثريا في الفضاء تتزين فتملأ الدنيا أملا و فألا حسنا "

    نظر نظرة إلى النجوم فلم تعاف سقما أصابه ولم تبلسم جراحا شلت حركيته ، ولم تخفف أثقالا على كتفيه الغضتين ، انزوى متقرفصا دافنا رأسه بين ركبتيه ، لم يكن الأب بعيدا عن هذا المشهد الخفي المحزن ، أرسل إليه همسة فغمزة لكن الطفل أبى الاستجابة فرشاقة أحلامه ضاعت ، و رحابة نزقه تبخرت ، واستوطنت غصة في حجم بيضة حلقه خانقة أنفاسه، وسرعان ما ذهبت بآخر حركاته فسقط مغشيا عليه ، حاول الأب إعادته إلى الحياة بقرصة فصفعة ، رشه بحفنة ماء فسرت رعشة جسده المحموم و توالى سعاله فحضنته أمه فغاب عن الوجود سابحة روحه هناك ، طوال الليل يسمعون منه شهقات وزفرات و يغنغن بكلام غير مفهوم يتكرر فيه غين فراء فباء ، باتوا الليل كله يسلون تعبهم بحكايات لا تمسح كوابيس أحلام يقظة لا تفارقهم ، ينتظرون استفاقة من نوع ما ، لكن الليل يدوم و يدوم فربما تكون عقارب الزمان توقفت عن الدوران ، كما استبد النكد بنفوسهم فلا يتزحزح قيد أنملة .

    كانت طلقته إلى الغزالة دقيقة موزونة ، أصابت قرنها الأيمن فسقطت يسارا ، انتفضت بسرعة البرق وهي تنط قفزات متوالية تزداد خلالها وثباتها اتساعا ، سوسو وراءها تطوي المسافات طيا برشاقة فهد وهمة لبؤة ، تخلص من قميص الكشافة و رمى بجرابه ملتحقا بالمتسابقتين ، تعرقله بندقيته فخبأها بين أغصان شجرة مواصلا عدوه ، حذاءه يعيق سرعته فهو ممتد نحو الركبة لكن يعطيه انطباع الجندي المقاتل ، رمى القبعة بعيدا عندما بدأ العياء يستبد به ، لايزال يجري في مسالك ملتوية بين التلال حتى تفطن أنه يطارد السراب فلا الغزالة بادية ولا الكلبة ظاهرة ، أنهكت قوته فركع ساعلا ، نافثا عوالق جفاف حلقه ، اشتعلت نار التعب في صدره ، قام من ركوعه فاخضر المكان و رقرقت مياه الجداول ، فشرب و انتشى ، و فتنته طبيعة البساتين ، زهور من كل الألوان ، أعشاب مخضرة تكبره طولا وعرضا ، وصلته هبات نسمات استدار فوجدها فراشة عملاقة تؤدي حوله رقصات ، ما إن أحس بالفزع حتى سمع نغمة ناي صديق الأطفال ، محارب الأشرار ، زارع الأمل ، ماسح الكوابيس ، راعي الأحلام وإذا بصوته البطولي يقول :" أهلا بك عزيزي و صديقي " نظر الشاطر إلى قدوته فقدم له تحية مجند لرئيسه قائلا : " أنا في خدمتك عقيدي ، أرجو أن تقبلني جنديا مع فريقك الماهر ، أريد أن أشارك في محاربة الأوهام و الوساويس ." تبسم العقيد قائلا : " ربما تحتاج إلى الراحة فقد أتيت من أرض بعيدة إلى هذه الجزيرة الخضراء ، مرتع الخير و الأفكار الجميلة ، هيا معي فنحن نكرم الضيوف أولا ، و بعد ذلك ندرس طلبك ، سرعان ما تلقى العقيد ضربة قوية رمته على بعد أمتار من الشاطر ، فظهر في الأفق البعيد من واء الجبل وحش في هيئة وطواط برأس بومة ، فأرسل بعينيه أطيافا رمادية تصحر الحديقة الغناء ، وتقضي على الفراشات ففترت عزائم علي قائلا : " عذرا أيها العقيد أنا الغراب أينما قدمت يحل به الدمار ."*

    أنارت كتيبة العقيد شهبا خضراء معطلة غزو الظلام لجنة الأحلام ، فأتبعتها أضواء صفراء فبدأت الظلال تتوارى ، فجاءت الخضراء لتكنس بؤر السواد ، علي يرتعد من شدة الخوف وقد استعرت الحرب ، فأتته وسوسة من الوحش هاتفة : " لا تقعد معم ، فهم ضعاف نفس وهمة ، سأغزوهم و أوسع قلعتي ، أريدك أن تفارقهم وتنظم إلي أيها البرعم الصغير ، سأجعل منك جنديا لا يقهر ، سأرسلك إلى الأرض ، تزرع الرعب والخوف في النفوس ، سأجعلك تتلذذ متى رأيت الألم استعمر النفوس ، ستحتفل باليأس عندما يزدهر في الأرض ، ستكون عرافا تأتيك القلوب المكلومة فتغرس فيها حب الوسوسة ، ستكون مشعوذا ينحني لك المنهزمون فتقوي في نفوسهم حب الشر وطرق الضلال ، انضم إلي وأسلم تسلم!" لهول ما شاهده و لاشتداد المصائب عليه واحدة بعد الأخرى ، انهارت مقاومته وانساق إلى الشرير الذي يحتفل بانتصاره بنعيق شبيه بنقيق .
    استرجع محارب الوهم وعيه ، لابسا حلة المحارب عازفا على قصبته أنشودة السلام ، فخفق قلب الصبي بعذب النبرات ، واستيقظت همته متوقفا عن مسيره نحو مدينة الأوهام ، وقد أشرق وجهه الصبوح عند رؤية صاحبه لايزال في هيئة الأبطال وارتد إلى حيث النعومة والطرب ، اشتد غيظ الشرير فأرسل نحوه حزمة سواد أصابته على مستوى فخديه ، فأقعده الشلل ، وهو يتوعد ناهقا : " سأعود أيها المعاند سأعود"
    حملت الفرقة الشاطر إلى مشفى القلعة الحصينة ، فأسعف الطبيب كدماته و ضمد جروحه ، ودلك رجليه بمرهم استعاد على اثره حركيته ، قدم له حلو الشراب ولذيذ الطعام ، رافقه العقيد إلى غرفة العمليات فوجدها مكتظة بالحواسيب ، شاشاتها تملؤها رسوم وبيانات ، فاستفسر : " ماذا تقيسون هنا ؟ " *فأجابه المحارب : " هذه الآلات تبين لنا نسب الخير و السعادة والفرح والأحلام و الأمل و كل أفعال الخير على كوكب الأرض ، فنحن هنا نحاول الحد من كل مسببات الشر ، ومعركتنا مستمرة مع حماته ." سره ما سمع من رفيقه فرد عليه " أنتم طيبون ، كان علي أن أشكركم على هذا الصنيع نيابة عن سكان الأرض وخاصة الأطفال " فتبسم الجندي وهو يقول : " العفو ، نحن هنا نقوم بواجبنا فقط "*. وضع قرصا مدمجا في الحاسوب فازدانت الطبيعة من جديد بأبهى الحلل ، وأتلف القرص الذي أفسده الفيروس الرمادي . فسأله الشاطر : " لماذا لا تركزوا في محاربة الشرير على الأشعة ، أقصد لماذا لا ترسلو إليه حزما كثيفة كما يفعل ؟ " فرد عليه القائد : " طبعا فعلنا ، لكن أشعتنا الزاهية لا تقوى على مقارعة لونه الرمادي " فكر الشاطر مجيبا : " حاربوه بمثل سلاحه فقد علمنا مدرب رياضة فنون القتال أن حركة المهاجم يمكن صدها بنفس حركته متى توقعتها وأسرعت في تنفيذها " لكن العميد أردف: " لا تشغل نفسك كثيرا فنحن لا نملك الأشعة الرمادية و السوداء" فأضاف الشاطر ، " الا يمكنكم ابتكار عاكس لهذه الأشعة كمرآة كبيرة مثلا .." هل وجه العقيد وهو يصيح وجدها الصبي... وجدها.....، فأرسل في الحال إلى كل المبرمجين للإشتغال على الفكرة الجديدة وتجديد الأنظمة الدفاعية "

    حلت جيوش الظلام بمدينة الأحلام ، أسراب غربان تعقعق والخفافيش تشكل بأجنحتها لحافا يغطي زرقة السماء ، على الأرض زحفت الضفادع والصراصير على الواحات والجنات الخضراء يقودهم المتجبر " ها قد عدت إليكم ، لقد قامت قيامتكم ، أريد الصبي الفتى " . ارتفع منسوب الألم في الأرض والحواسيب تنذر بشرور آتية ، فشغل العقيد نظامه الدفاعي الجديد ، فأنبتت الأرض مرايا على شكل صحون مقعرة ، لكنها لا تستطيع أن تعكس شيئا ، فالظلام ليس شعاع نور بل مجرد فراغ ضوئي ، نهق المتسلط متفرعنا :" فشلتم يا من لا يحبون الفشل ، كانت الفكرة وسوسة مني للصبي لتعطيل دفاعاتكم ، فهذا الصبي قريبا جدا سيكون واحدا من أقوى رجالاتي ".
    وقف المحارب منزعجا مفزوعا وارتعدت ركبتاه ، فتقدم الصبي ، ماذا تنتظرون ، زودوا هذه العواكس بالأشعة فعددها يكفي لإضاءة الكون ، أسرع المبرمج محولا الصحون إلى قاذفات ضوء ، فأصدر الشاطر أمرا آخر بإطلاق أشعة الوان قوس قزح دفعة واحدة لتكون بيضاء تلتهم كل ذرات الظلال . تهاوت أطياف الظلام و انقبضت روح الشرير وقد جحظت عيناه و هاله تدمير فرقه الجرارة ، وجيشه العرمرم ، أخذ الشاطر مسدسا ضوئيا ، فأطلق حزمة فقأت العين اليسرى للوحش فأضحى أعور وهو يبتعد هاربا جارا أذيال الخيبة والهزيمة ، احتفل المحاربون بنصرهم وهموا بمبايعة قائدهم الجديد لكنه رفض وهو يقول : أنني أشتاق إلى أمي وأحن إلى أبي ، فأنا ابنهم الوحيد ، فقط بادروا بمهاجمتهم في ديارهم فربما يكون الهجوم خير وسيلة للدفاع . ودع الشاطر فرقته وبدأ يجري عبر المنحدر وتزداد خطواته الصغيرة تسارعا فأحس بألم يجتاح رجليه ، ماهذا ! ربما أشعة الوحش ما تزال تسكن في عضلاتي ، كلما تضاعفت سرعته كلما ازداد الألم فلا يستطيع إيقاف نفسه ولا تخفيف أوجاعه فبدأ يبكي ، ويصيح رجلاي رجلاي فاستيقظ فلمح أباه يتقدم نحوه يحبو على الزورق ، والخالة طامو انزلق رأسها فتموضع على فخدي الطفل ، سحب الأب رجليه و هو يمسح على رأسه فبادره الطفل بالسؤال : " أين نحن يا أبي؟ وما هذه الأشعة الرمادية ؟" ، رد عليه الأب : نمت جيّدا أيها الفتي ، أنسيت أن المركب غرق البارحة ... الآن تذكرت كل شيء ، أبي أحس بالجوع و البرد ..... أعرف يا بني ، لكن قريبا سنجد حلا ...... كيف يا أبي ؟............... لا أعرف ، هل لديك فكرة ما ......... نصطاد السمك ........ تبسم الأب لا نملك صنارة !...... من محفظته أخرج مقلاعه فصوب إلى الماء لتنقض سوسو بسرعة غاطسة لتطفو بعدها بلا غنيمة .

    استيقظ الجميع على وقع الغطسة وضحكات الشاطر و أبيه ، وجوههم شاحبة يغشاها غبش الإرهاق و جهل المصير ، الضباب كثيف في عرض البحر فلا تسافر العيون إلا بضعة أمتار برؤية عمشاء ، العم مصطفي يتثاءب وقد أخذته غفوة مفعمة بالكوابيس ، طامو تستوي في جلستها والزورق يتمايل ، الأم برشاقتها تساعد سوس على اعتلاء المركب ، فجاءت الشاطر تتمسح جسمه الندي منتفضة مرتعشة تتطاير من فروها دقائق القطرات كأنها تعاتبه على فعلته ، فضمها إلى وجهه مقبلا جبينها . الأم استنار قلبها وهي ترى طفلها تجاوز محنته ، لكن وجهها فارقته نضارته ، ينتظر الجميع انقشاع السديم لاستكشاف المكان وتعرف الاتجاهات ، و لو أن أملهم في الخلاص يكاد يتناهى عند الصفر ، فصفحات الماء منبسطة امتداد السماء .

    كسر العم مصطفى جمود الصمت قائلا :" سمعت يوما من صديق يحكي عن ثلاثة اشتد بهم كرب يكبر طاقتهم فاستنجدوا بأعمالهم الصالحة ، وكان لها عظيم أثر و عجيب فعل ، ها أنا أقتفي أثرهم وأحذو حذوهم ، يوما قدمت بلادا ونزلت عند أسرة تعامل خادمتها معاملة سيئة ، فما كان مني إلا أن عطفت عليها ، و أخبرتهم عن رغبتي باصطحابها معي لتخدمني ، فلم يستجيبوا لطلبي إلا بمبلغ كبير من المال ، فذهبت بها إلى بيتها و واظبت على إرسال أجرة عملها لأسرتها الفقيرة حتى بلغت أشدها . تناولت طامو حصتها من الكلام وهي تقول : " أما أنا فلست أدري إن كان عملي يبلغ من الصلاح ما قد يعجل بالفرج ، فقد كنت مع منظمة تعتني بالحيوانات ، فوجدت قطة عند سيدة فقيرة أصابتها أمراض خطيرة ، لا تملك المنظمة ما تعالج به القطة فاضطررت إلى الاقتراض من أجل معالجتها . صمت الأب ولم تقل الأم كلمة فنطق الشاطر : " ألا تعتبران كفالة اليتيم عملا صالحا ؟ نعم العمل فعلت أبي ، طوبى لك أمي "، فقاطعه العم سائلا ربما أعمالك أيها الصبي هي من ستنجينا من هذا المأزق ، فحدثنا عن عمل صالح فعلته فرد عليه الشاطر : " أنا العمل الصالح "

    كانت هذه المحادثة كافية لغمر النفوس بالأمل وقد بدأ الضباب يتلاشى فظهرت الآفاق الزرقاء والبحر هادئ هدوء من يحمل على ظهره قديسا . سمع هدير الطائرة التي أتى بها أخ مصطفى عند تعذر اتصاله به، فظل طوال الليل يتنقل بين المصالح لحثهم على مباشرة البحث ، كان هديرها يأتي مرة من اليمين ومرة من اليسار جهة المشرق ، بعد برهة ظهرت كنقطة في الفضاء فهل وجه الجميع ، لكن العم مصطفى أخبرهم أنهم سيبحثون عن اليخت و من تلك المسافة لن يبدو لهم الزورق ، نبحت الكلبة سوسو فنطق الشاطر " المرآة أمي المرآة " فقالت الأم من أين لي بها يابني فمحفظتي ..." فقال للخالة : " تذكارك... لوحتك.. خالتي " فبدأ يصوب الأشعة صوب المروحية بدقته المعهودة بعد لحظات تقدمت الطائرة جهة المركب " فقال له الأب والبشاشة تملأ الوجوه " أنت عمل صالح بني " و ناداه العم مصطفى من اليوم سألقبك بالشاطر .
  • ريمه الخاني
    مستشار أدبي
    • 16-05-2007
    • 4807

    #2
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    قصة ممتعة حقا وأراها ترجح جانب التوجه للكبار الصغار فنصها كبير الحجم بالنسبة لهم، ولغتها أكبر من استطاعتهم كمستوى، وقد حوت تفرعات في الأفكار لايستطيع لم شملها الصغير، بل ستفرض على النص أسئلة كثيرة لأن العبارات تحتاج توظيف للهدف المرتبط بها، وإلا فلن تضيف للطفل سوى تساؤلات.
    مثال:
    كانت طلقته إلى الغزالة دقيقة موزونة ، أصابت قرنها الأيمن فسقطت يسارا ، انتفضت بسرعة البرق وهي تنط قفزات متوالية تزداد خلالها وثباتها اتساعا ،

    " عذرا أيها العقيد أنا الغراب أينما قدمت يحل به الدمار ."*
    استرجع محارب الوهم وعيه ، لابسا حلة المحارب عازفا على قصبته أنشودة السلام
    ، وأتلف القرص الذي أفسده الفيروس الرمادي .
    بكل الاحوال عمل مميز يمكن جعله للكبار بطريقة ما، او للصغار باجتزاء قسم منه وتكبيرة تحت مجهر المعنى والمبنى.
    دمت مبدعا.

    تعليق

    • نورالدين لعوطار
      أديب وكاتب
      • 06-04-2016
      • 712

      #3
      شكرا دكتورة ريما الخاني

      سعيد بتوجيهاتك النيّرة ، و ردّك الجميل .

      تقديري واحترامي

      تعليق

      يعمل...
      X