
لن أرضى أن أكون على هامش أحد
****
من حكمة الله أن جعل الاختلاف ميزة للتّنوّع والتقارب، لتجاذب وتوازن الخلق فيما بينهم.
على الأقل ، هذا ما أوردته الشرائع بألوانها والمذاهب على اختلاف مشاربها ، وتدبّره العقل وتنجزه العلوم الكونية التي تقرّ بالاختلافات الوراثية ... إلاّ أن بعض الأحياء، سامحهم الله، يمقتون الاختلاف الذي هو في أصله رهبةً ورحمة ، لأنه يجرّدهم من شخصيتهم ويعرّيهم فتبدو سوءاتهم .
ألا يعلم هؤلاء أن الحقد و الحسد والأنانية ، غرائز منبوذة ، وسلوك خاطئ ، بل ومريض ، لا يرقى بصاحبه ، إن كان يريد السمو ، و يبحث لنفسه عن مكانة ترفع من همّته .
عهدنا هذا السلوك المشين من المقربين لنا خاصة ، قد صرنا نعرفهم كما يعرف صاحب الفكّة ما في جيبه من النقود ، لكن تعمي هؤلاء أنانيتهم ، فيحملون الناس على سجاياهم وينظرون إليهم ، نظرة غباء واستحقار ، بعيون لا تريد أن ترى سوى ذاوتهم المريضة .
لأنّني كنت مرفّهًا تهافت الأحباب عليّ ، من كل حدب وصوب ، يصاحبونني ، بل وراح بعضهم يغالي في محبّتي ، لدرجة أنني صرت أخشى عليه من نفسي التي بين أضلعي :
- " النذل ..اا بل الحقير ..اا
ولم أكن يومها لأصدّق ، رغم سذاجتي ، الشعور الذي يغمرني به ، وقد تعلّمت من تجاربي المريرة في الحياة ، أن العلاقات بين الخلائق تخضع لنظام المصلحة خلاف المحبّة المتسامية التي هي شيء مقدس ، يهون لأجلها كل غالي ونفيس ، وتُسقط من حساباتها كل المتلوّنين من أصحاب المنافع والمقاصد ، ولا تعترف إلاّ بصدق النوايا والشعور الخالص .
توالت الأيام ولما ضاقت بي ، ولم أقصد صديقي المحترم بسوء ، أو أسأل شيئًا من حطام الدنيا الفاني ، سوى أنني عجزت لا أرد عليه بنفاق ، مثلما يفعل الكاذبون في هذا الزمن الرّديء ، صار الناس يتقلبون مثل العقارب ، أقصد عقارب الساعّة وليس الحيوان العقرب : لأن المسكين تدفع به غريرة " حب البقاء " وليس له من وسيلة أخرى يدفع بها الأذى عن نفسه .
وذات يوم التقيت بأحدهم ليسألني:
- هل كلّمت " صديقنا " فلا ن ؟
سامح الله هذا الصديق ، قد يكون لا يعلم هو الآخر بأن صديقنا المحترم ، ذاك المرفّه ، لم تعد تعنيه صداقتي ، لأنّها تذكّره بالمعارف السخيفة من تلك الأيام البائسة .
ببديهتي ، التي وهبنيها ومنحنيها الله الذي لا يريد ثمنًا على النعم سوى بالثناء عليه وشكره لمفرده .
- " صديقك المرفّه ينتظر منِّي أن أكلّمه، صديقي المحترم، لكنني لا أملك هاتفًا لأكلّمه "
لا يعرف هو الآخر أن الصديق الذي يتكلّم عنه كان قد رفع من سقف العلاقة التي بيننا إلى مستوى الرفاهة المادّية ، فأضحت عالقة ، كشرط ، أو أنّني أتماها حتى أفقد شخصيتي وكل شيء محترم معه ، وهذا ما لا أقدر عليه ولا تطاوعني النفس عليه ، وأنا راضٍ بقضاء الله وقدره ، مستأنس لحالي ، ولن أقبل أن أكون صورة طبق الأصل لشخص ما ، ومهما يكن ، ولن أرضى أن أكون على هامش أحد .
تعليق