المجدُ الثّاني
أوّل ابتسامة عرفتها البشريّة كانت من نصيب صبيّ أشقر على علبة معجون أسنان.
عقب ظهور المنتج توالت المحاولات من هنا وهناك لتقليد الابتسامة لكنّها لم تكن إلا نسخا مزوّرة تعوزها الحرارة والرّوح المُفعمة بالجرأة التي لا تمنحها الطّبيعة مرّتين.
بفضل حوزها شرف إطلاق الابتسامة الأولى حقّقت الشّركة أرباحا طائلة مكّنتها في غضون أشهر من سحق منافسيها. وصار الصبيّ الأشقر الفتى الأكثر شهرة على وجه الأرض. وسُمّي طفل العالم، وانفردت إحدى الصّحف العنصريّة بوسمه الطّفل الأبيض فباعت ملايين النّسخ. أُلحقت الابتسامة بالمعاهدات الكبرى وأُدرجت رسميّا ضمن لوائح اليونسكو على أنّها إرث عالميّ. مأخوذا بنشوة الجمهور اللاّنهائيّ، تحدّث إلى الجرائد وفي التّلفزات عن ابتسامته وكيف أنّها شغل العالم، وعيّنت له الدّولة حرّاسا شخصيّين لحمايته و وضعت تحت تصرّفه جميع موظّفيها وفريقا من المحامين ومدير أعمال يكره تبذير الوقت والصّدف بأنواعها، لكنّه سرعان ما استغنى عنهم واختار بدلا عن ذلك إتاحة الفرصة للمعطّلين من عائلته المُوسّعة. وأوكل إلى صديقته مهمّة فرز البريد؛ رسائل المُعجبين تُحرق فيما يُنظر برويّة في الصّفقات المُغرية. بارك المجتمع الدّوليّ اختياره وافتخرت به عائلته كثيرا وراحوا يتحدّثون عنه في وسائل الإعلام حيثما حلّوا قائلين: «نحن فخورون بأنّ الله الخالق قد اختار ابننا بالذات ليلقي بابتسامة العالم على محيّاه دون غيره..» وقال والده: «لقد أنقذ ابني البشريّة من الكآبة في دقائقها الأخيرة».
بخطى واثقة تحوّل طفل العالم إلى نجم يضيء بحنوّ سماء النّاس، فهو الذي يطلع عليك عبر لافتات موزّعة على امتداد الطّريق راجيا لك سفرة طيّبة، وهو الذي يطلّ عليك من خلال البنايات العملاقة ليذكّرك بفضيلة الحِلم حين تكون أعصابك على أشدّها وقت الذّروة، وهو الذي يشحنك بالأمل والحماس وأنت تستقبل يوما جديدا، وهو الذي يربّت على وجدانك بابتسامته العذبة قبل النّوم متمنّيا لك ليلة سعيدة. وهو الذي يقول لك «صحّة وعافية» حين تفرغ من الأكل. من أجل ذلك كلّه خُصّص له راتب يُقدّر بعشرين ألف دولار شهريّا، يُصرف له مدى الحياة. فشكرهم وألقى كلمة تحدّث فيها عن ابتسامته وكيف أنّ الأمر لم يكن بسيطا كما تتخيّله فئة كبيرة من عقلاء الدّنيا، وابتسمها لهم ممتنّا.
قدّم عروضا وألقى محاضرات في زوايا الأرض الأربعة ليحدّث النّاس عن ابتسامته التي ابتسمها ذات يوم وعن كفاحه المضني من أجل التّذكير بها حتّى لا يطالها التّلف، وقال إنّه وحّد العالم بابتسامته السّاحرة. كثيرون اتّخذوا منها مادّة لأطروحاتهم وألّف آخرون كتبا لشرحها على نحو غير مسطّح مُستعملين عبارات عسيرة على الهضم تجعل المتلقّين يقرّون بأنّهم استحقّوا مواقعهم مجرّد قرّاء عاديّين.
وفي حادثة معزولة اضطر طفل العالم إلى أن يمثل أمام القضاء بعدما رفعت ضدّه شركة معجون الأسنان قضيّة تطالبه فيها بنصيب من عائدات الإعلانات والعروض وأشرطة السّينما وكلّ ما قد تدرّه عليه الابتسامة من مال. بدل أن يؤدّي القسم ابتسم الابتسامة الأولى للقاضي فكسب المعركة وغُرّمت الشّركة لفائدته. ولقد محق خصومه في معركة أخرى شنّها عليه حاسدون شكّكوا في ابتسامته وقالوا إنّ العيوب تساورها وإنّ ملامح النّائم هي أصدق تعبير إنسانيّ على الإطلاق. أدرك العالم إثر تلك الضجّة أنّ لديه أعداء كثيرين، فمكّنوه من حصانة كالتي تُمنح للقادة السامين. ونصّبته بلاده سفيرا للنّوايا الحسنة وناطقا باسمها في مؤتمرات المحبّة والسّلام، وأدّى دوره على أتمّ صورة وتحدّث عن ابتسامته وكيف أنّها غسلت البشريّة من شرورها وأعلن لأوّل مرّة أنّها كانت أكثر عبقرية من نور الشّمس المنعكس على ليمونة، وابتسمها لهم. رُخّص له أيضا في ارتكاب خمس جرائم وطنيّة وجريمتين خارج أرض الوطن، فتجاوز السّقف لكنّه ابتسم للقاضي فعفا عنه ومحا له فائض الجرائم ووهبه واحدة إضافيّة على أن تُرتكب بعد موته.
في الجنازة أبّن طفل العالم والده بنصّ مؤثّر تحدّث فيه عن ابتسامته وكيف أنّ المرحوم أحبّها كثيرا وراهن عليها. حضرت شخصيّات عالميّة لتُؤدّي واجب العزاء، فقام معهم بواجب الضّيافة ورغم حزنه ابتسمها لهم من باب العرفان بالجميل. بعد أسابيع أقام حفلة بمناسبة تخرّج ابنه من الكلّيّة الحربيّة، ألقى في مُستهلّها كلمة حدّث فيها المدعوّيين عن الابتسامة الأولى التي ابتسمها يوما، وقال إنّها معجزة لن تتكرّر. وابتسمها لهم ثلاث مرّات إجلالا لهم على قدومهم. ولمّا لم يعد يقوى على المشي إلاّ برفقة أحدهم أصبح يصاحبه ابنه إلى الندوات والجامعات وإلى مواعيده التّلفزيّة. ثمّ في آخر أيّامه صار لا يُستضاف إلاّ في الأخبار المسائيّة، هناك وبنبرة مرتعشة توجّه بكلمة إلى شرفاء العالم تحدّث فيها عن ابتسامته السّاحرة التي ابتسمها عندما كان صبيّا في العاشرة، وناشد الضّمائر الحيّة أن تساعد ابنه على مواصلة المسيرة التي بدأها وأخبرهم بضرورة انتقال الابتسامة إلى ابنه كي لا يضيع إرث إنسانيّ بهذه الحساسيّة.
مات طفلُ العالم فأٌقيمت له جنازة مهيبة رُفعت فيها لافتات تحمل صورا له وهو يبتسم. خلال التّأبين قال الابن بصفته الوريث الشّرعيّ لوالده إنّه طفل العالم الجديد وحدّث النّاس المرّة الأخيرة عن ابتسامة أبيه الأولى التي ابتسمها يوما عندما كان صبيّا في العاشرة، وابتسم لهم واحدة تشبه ابتسامة أبيه فأعجبتهم كثيرا وصفّقوا له بتأثّر شديد وطفرت الدّموع من عيون بعضهم. وابتسم والده للأموات تحت الأرض الابتسامة المُتحلّلة الأولى، فخرجت ميّتة مكتظة بالدّود. رغم ذلك سحرتهم وأنعشت عظامهم ففسحوا له حيّزا مريحا ليحدّثهم عنها ففعل، وابتسمها لهم ثانية نزولا عند رغبتهم، ولم يشعر يوما طوال إقامته بينهم أنّه في حاجة إلى الجريمة الوحيدة المُتبقّية في رصيده وكان بين الحين والآخر يحدّثهم عن ابتسامته التي ابتسمها يوما عندما كان صبيّا عمره عشر سنوات، وكان في كلّ مرّة ينهي فيها كلامه يبتسمها لهم مغمورا بالرّحابة والرّوعة التي تهبها الأماكن حيث العبقريّة تكون أقلّ صرامة.
أوّل ابتسامة عرفتها البشريّة كانت من نصيب صبيّ أشقر على علبة معجون أسنان.
عقب ظهور المنتج توالت المحاولات من هنا وهناك لتقليد الابتسامة لكنّها لم تكن إلا نسخا مزوّرة تعوزها الحرارة والرّوح المُفعمة بالجرأة التي لا تمنحها الطّبيعة مرّتين.
بفضل حوزها شرف إطلاق الابتسامة الأولى حقّقت الشّركة أرباحا طائلة مكّنتها في غضون أشهر من سحق منافسيها. وصار الصبيّ الأشقر الفتى الأكثر شهرة على وجه الأرض. وسُمّي طفل العالم، وانفردت إحدى الصّحف العنصريّة بوسمه الطّفل الأبيض فباعت ملايين النّسخ. أُلحقت الابتسامة بالمعاهدات الكبرى وأُدرجت رسميّا ضمن لوائح اليونسكو على أنّها إرث عالميّ. مأخوذا بنشوة الجمهور اللاّنهائيّ، تحدّث إلى الجرائد وفي التّلفزات عن ابتسامته وكيف أنّها شغل العالم، وعيّنت له الدّولة حرّاسا شخصيّين لحمايته و وضعت تحت تصرّفه جميع موظّفيها وفريقا من المحامين ومدير أعمال يكره تبذير الوقت والصّدف بأنواعها، لكنّه سرعان ما استغنى عنهم واختار بدلا عن ذلك إتاحة الفرصة للمعطّلين من عائلته المُوسّعة. وأوكل إلى صديقته مهمّة فرز البريد؛ رسائل المُعجبين تُحرق فيما يُنظر برويّة في الصّفقات المُغرية. بارك المجتمع الدّوليّ اختياره وافتخرت به عائلته كثيرا وراحوا يتحدّثون عنه في وسائل الإعلام حيثما حلّوا قائلين: «نحن فخورون بأنّ الله الخالق قد اختار ابننا بالذات ليلقي بابتسامة العالم على محيّاه دون غيره..» وقال والده: «لقد أنقذ ابني البشريّة من الكآبة في دقائقها الأخيرة».
بخطى واثقة تحوّل طفل العالم إلى نجم يضيء بحنوّ سماء النّاس، فهو الذي يطلع عليك عبر لافتات موزّعة على امتداد الطّريق راجيا لك سفرة طيّبة، وهو الذي يطلّ عليك من خلال البنايات العملاقة ليذكّرك بفضيلة الحِلم حين تكون أعصابك على أشدّها وقت الذّروة، وهو الذي يشحنك بالأمل والحماس وأنت تستقبل يوما جديدا، وهو الذي يربّت على وجدانك بابتسامته العذبة قبل النّوم متمنّيا لك ليلة سعيدة. وهو الذي يقول لك «صحّة وعافية» حين تفرغ من الأكل. من أجل ذلك كلّه خُصّص له راتب يُقدّر بعشرين ألف دولار شهريّا، يُصرف له مدى الحياة. فشكرهم وألقى كلمة تحدّث فيها عن ابتسامته وكيف أنّ الأمر لم يكن بسيطا كما تتخيّله فئة كبيرة من عقلاء الدّنيا، وابتسمها لهم ممتنّا.
قدّم عروضا وألقى محاضرات في زوايا الأرض الأربعة ليحدّث النّاس عن ابتسامته التي ابتسمها ذات يوم وعن كفاحه المضني من أجل التّذكير بها حتّى لا يطالها التّلف، وقال إنّه وحّد العالم بابتسامته السّاحرة. كثيرون اتّخذوا منها مادّة لأطروحاتهم وألّف آخرون كتبا لشرحها على نحو غير مسطّح مُستعملين عبارات عسيرة على الهضم تجعل المتلقّين يقرّون بأنّهم استحقّوا مواقعهم مجرّد قرّاء عاديّين.
وفي حادثة معزولة اضطر طفل العالم إلى أن يمثل أمام القضاء بعدما رفعت ضدّه شركة معجون الأسنان قضيّة تطالبه فيها بنصيب من عائدات الإعلانات والعروض وأشرطة السّينما وكلّ ما قد تدرّه عليه الابتسامة من مال. بدل أن يؤدّي القسم ابتسم الابتسامة الأولى للقاضي فكسب المعركة وغُرّمت الشّركة لفائدته. ولقد محق خصومه في معركة أخرى شنّها عليه حاسدون شكّكوا في ابتسامته وقالوا إنّ العيوب تساورها وإنّ ملامح النّائم هي أصدق تعبير إنسانيّ على الإطلاق. أدرك العالم إثر تلك الضجّة أنّ لديه أعداء كثيرين، فمكّنوه من حصانة كالتي تُمنح للقادة السامين. ونصّبته بلاده سفيرا للنّوايا الحسنة وناطقا باسمها في مؤتمرات المحبّة والسّلام، وأدّى دوره على أتمّ صورة وتحدّث عن ابتسامته وكيف أنّها غسلت البشريّة من شرورها وأعلن لأوّل مرّة أنّها كانت أكثر عبقرية من نور الشّمس المنعكس على ليمونة، وابتسمها لهم. رُخّص له أيضا في ارتكاب خمس جرائم وطنيّة وجريمتين خارج أرض الوطن، فتجاوز السّقف لكنّه ابتسم للقاضي فعفا عنه ومحا له فائض الجرائم ووهبه واحدة إضافيّة على أن تُرتكب بعد موته.
في الجنازة أبّن طفل العالم والده بنصّ مؤثّر تحدّث فيه عن ابتسامته وكيف أنّ المرحوم أحبّها كثيرا وراهن عليها. حضرت شخصيّات عالميّة لتُؤدّي واجب العزاء، فقام معهم بواجب الضّيافة ورغم حزنه ابتسمها لهم من باب العرفان بالجميل. بعد أسابيع أقام حفلة بمناسبة تخرّج ابنه من الكلّيّة الحربيّة، ألقى في مُستهلّها كلمة حدّث فيها المدعوّيين عن الابتسامة الأولى التي ابتسمها يوما، وقال إنّها معجزة لن تتكرّر. وابتسمها لهم ثلاث مرّات إجلالا لهم على قدومهم. ولمّا لم يعد يقوى على المشي إلاّ برفقة أحدهم أصبح يصاحبه ابنه إلى الندوات والجامعات وإلى مواعيده التّلفزيّة. ثمّ في آخر أيّامه صار لا يُستضاف إلاّ في الأخبار المسائيّة، هناك وبنبرة مرتعشة توجّه بكلمة إلى شرفاء العالم تحدّث فيها عن ابتسامته السّاحرة التي ابتسمها عندما كان صبيّا في العاشرة، وناشد الضّمائر الحيّة أن تساعد ابنه على مواصلة المسيرة التي بدأها وأخبرهم بضرورة انتقال الابتسامة إلى ابنه كي لا يضيع إرث إنسانيّ بهذه الحساسيّة.
مات طفلُ العالم فأٌقيمت له جنازة مهيبة رُفعت فيها لافتات تحمل صورا له وهو يبتسم. خلال التّأبين قال الابن بصفته الوريث الشّرعيّ لوالده إنّه طفل العالم الجديد وحدّث النّاس المرّة الأخيرة عن ابتسامة أبيه الأولى التي ابتسمها يوما عندما كان صبيّا في العاشرة، وابتسم لهم واحدة تشبه ابتسامة أبيه فأعجبتهم كثيرا وصفّقوا له بتأثّر شديد وطفرت الدّموع من عيون بعضهم. وابتسم والده للأموات تحت الأرض الابتسامة المُتحلّلة الأولى، فخرجت ميّتة مكتظة بالدّود. رغم ذلك سحرتهم وأنعشت عظامهم ففسحوا له حيّزا مريحا ليحدّثهم عنها ففعل، وابتسمها لهم ثانية نزولا عند رغبتهم، ولم يشعر يوما طوال إقامته بينهم أنّه في حاجة إلى الجريمة الوحيدة المُتبقّية في رصيده وكان بين الحين والآخر يحدّثهم عن ابتسامته التي ابتسمها يوما عندما كان صبيّا عمره عشر سنوات، وكان في كلّ مرّة ينهي فيها كلامه يبتسمها لهم مغمورا بالرّحابة والرّوعة التي تهبها الأماكن حيث العبقريّة تكون أقلّ صرامة.
***
تعليق