عند رحيل أخر نقطة من ضوء النهار ،تمددت جسور الظلام المنبثقة من قعر الليل الأسود ،والمستترة خلف الحجب ،إيذاناً بعبور قوافل الموت المزمجرة فوق قباب المدينة المهزومة ، بين الركام والأنقاض، سقطت أخر مئذنة في حلب ،بين الغبار والدخان، نُحر الأمل فوق أعتاب المدينة الضائعة -الأمل حقاً غادر تلك البلاد- .!التى غُيب أثرها تحت أزميل الغبار والنسيان ..بضعة أسطر خالية تركها المدون دون تفسير..! سوى القليل من علامات الإستفهام ؟؟؟، حيث ُيوجد هناك جزء ناقص في وجدان تلك المدينة الضائعة والمنكوبة، يحتاج إلى الكثير من الإجابات ، داخل ثنائية الموت ،والموت الأخر .. جلس المدون يستقي كلماته من صحن الذكريات ،زرع طريق الفكر ذهاباً وأياباً، حاول عبثاً أن يصفف الكلمات الصحيحة في خنادقها، قبل أن يفرغ التاريخ من طي المخطوطة الملعونة ، تململ واستشعر حرجاً في كتابته دون أن يجد عنوان يفي بواقع الحدث والصورة، وما جرى لاحقاً في المدينة الضائعة ..السيجار المخنوق بين أصبعيه يكاد يلتهم جلده اليابس ،أطبق عليه بشفتيه الغامقتين ،وراح ينفث الغضب والحمم بين السطور... فكتب تلك الكلمات الساخرة : لقد نضبت معان الفكرة ،وليس هناك سوى غداً أبتر عقيم ..لا يمكن الولوج إليه.. ليست هناك أمنيات،أحلام ،مساحة من التفاؤل.. تُمكننى من التذود ببضع كلمات ،تُصلح لأن تكون عنوان ،رثاء !، أو شيء أخر ،لملء تلك الفراغات الباردة التي اجتاحت مخطوطة التاريخ ..إذاً ليس هناك مستقبل ..ليس هناك شيء .. حاول المدون عبثاً رأب الصدوع التى استحالت شقوق مجدبة ،تمنع طي الصحيفة البائسة ..ليس هناك شواهد ،تفسيرات ،حقائق ..تعلل صورة الحدث ،القضية ، المصيبة ،النكبة التى حاقت بالمدينة المكلومة ..الذين مروا من هناك قالوا : لقد رأينا الجحيم بعينه يتلمظ في تلك المدينة ..تنساب دموعهم في مآقيهم ،وتجري على نحورهم ،تدور أعينهم في فلك العجز والهزيمة ، وقد عجز اللسان عن رواية بقية الخبر من بشاعة الصور والحادث ..وليس الخبر كالعيان ..هناك البشر يتجرد من أدميته في ساحة الإنسان ..ما أسعدك اليوم ،أيها الشيطان البائس، وأنت تسفح أجساد العذارى بوشم الدماء ،والقناديل البيضاء تتدلى بابتسامتها تحت جدران الإنتصار ..ورجالك يهرعون بكؤوس الفضة يحملون عروش "بيترسبرج" فوق أسوار الشام..الغضب يطرق الأبواب، يحيل المدينة إلى دماراً ورمادا ، تنين الشر يحلق يحلق فوق قلاع المدينة ، ينفث الخوف والرعب ويعصف بالضحايا والأبرياء . . الدماء تتدفق وتجري دون جداول ،تستحيل أردية حمراء سميكة ،رائحتها تزكم الأنوف ،تتسلل إلى الشفاة وتصطبغ بحمرتها فيتلون مذاق الحزن والألم ،الغربان تتسكع فوق الأسوار ،تنتظر هطول الليل ،حتى تبرد وليمتها..والعالم الموهوم في سكرة وذهول ...لايصدق أن الدينونة قامت في "حلب"..هدير في الجو يفلق كتل السحب المتكاومة ، شخصت الأبصار نحو الأفق ترمق أزيز الطائرات التى شرعت تلقي البراميل المتفجرة ،والبارود المصبوب ،فتهوي كالشهب المشتعلة ،فتحيل المباني الى رماد منصهر ،وتحصد أرواح الذين سأت حظوظهم في تلك البقعة ،لتختلط الشظايا بالأشلاء ،وتنهار السقوف فوق قاطنيها ،حتى ينقطع الصراخ والعويل .. هناك إمرأة تهرول إلى زوجها الممدد ،وقد سفحت قدور الماء الذي خرج في طلبه ،وامتزج بدمائه التى سالت تغلي من لهيب القذيفة ،فشرعت تولول وتصرخ ،وتضع التراب فوق رأسها ،وطفلها الصغير لايزال يزحف ،نظرت نحوه من وراء غلالة دموعها ، فلمحت دمه الذي غطى رأسه ،و بدأ يصبغ ثوبها ، فتناولت حفنه من غبار السقف المتساقط ثم وضعتها فوق الجرح ،وضغطت محاولة بذلك وقف النزف، الطفل يزداد صراخا و دمعها يزداد انبثاقا.وما كادت تلتفت إلى زوجها الذي ينازع ،حتى هوت قذيفة بجوارها مرقت شظاياها خلف رأسها، ففارقت الحياة في الحال ،أما الطفل فلقد فارق الحياة دون أن تدرك أمه ذلك ..وتكورت الأمة الميتة ،ولصق طفلها بين ساقيها وبطنها على بعد أمتار من زوجها ،الذي ظل جسدة ينتفض من الألم يصعد ويعود حتى بردت أنفاسه.
الضوء الأخير 5
تقليص
X
-
المشاركة الأصلية بواسطة عبير هلال مشاهدة المشاركةنص مؤلم للغاية كتب بطريقة بديعة..
رحماك ربي..!!
آمل من الله أن يعم السلام وطننا العربي
دام ابداعك
تلك الإشادة تعنى الكثير ..
شكراً لك على الدواااااااااااااااااامالحمد لله كما ينبغي
تعليق
-
ما الذي يحدث
تقليص
الأعضاء المتواجدون الآن 216131. الأعضاء 3 والزوار 216128.
أكبر تواجد بالمنتدى كان 489,513, 25-04-2025 الساعة 07:10.
تعليق