ينظر إلى ساعته تشير إلى السادسة، ينتظر المترو وهو يتابع مؤخرات اللواتي فضلن عربة السيدات، ويتخيل لوهلة بأنهن عاريات وهو معهن وحدة بالعربة، إلا أن فجأة وعلى غير المعتاد ينفجر صوت هاتف بدعاء ديني لأحد شيوخ الخليج يخرجه عمدًا عن خيالاته العفوية!
**
يضع سماعات الرأس، تخرجه إلى مود آخر، تغني برحابة سيدة الغناء فيروز، لا يفضل تلك التي يقول عنها الجميع أنها كوكب الشرق، يصعد إلى المترو مندفعًا، يلعنهن في سره كالمعتاد، لا يملك طريقة أخرى للعودة إلى منزله إلا تلك الطريقة اللعينة، تغفل عيناه، وهو واقفٌ، أو يغلقها متعمدًا حين تصعد بضع فتيات لم تجدن مكانًا في عربة السيدات، وقرر هو وسط الزحام أن يكتشف أجسادهن!
**
الخميس، سهرة العائلة المعتادة التي يكرهها، يتركهم، يذهب إلى غرفته التي تحتوي على سرير، وكمبيوتر قديم بعض الشيء -ولكنه موصلًا بالشبكة العالمية-، يدخل إلى المحادثة مع صديقته التي يحبها دون أن يراها ولو لمرة، تتحدث معه في حوار ثقافي ممل، يكره حديثها، يتمنى لو ينهي ذلك الحديث التافه كي يذهب إلى مواقعه الجنسية المفضلة، لتكن سهرة حمراء، ولكن على أحدهم أن يخبرنا بأنه يحبنا، يحبنا بكل ذلك النقص الذي ابتلينا به دون ذنب، علَّمه عمله كمحاسب أن يحترم الأرقام لأنه صورة الإله على الأرض، بلا بداية، بلا نهاية، وتلك السعادة الذي سيحصدها حين يفرغ من ليلته الحمراء لا تستمر سوى دقائق. ينهي المحادثة مع صديقته بشكل مهذب، يعرض عليها بضعة أسماء كتب سمع عنها مؤخرًا ولم يقرأها، هناك الكثير من الملخصات إن سألته سيعود إليها، وحينها ستقدّره حبيبته، التي لم يرَها ولو لمرة واحدة أو شاهد صورتها ولو لمرة واحدة، ولم يتأكد بعد من اسمها، ولكن على أحدهم أن يخبرنا بأنه يحبنا!
**
جمعة أخرى، سيذهب ليتعلم بها لعن النساء، لأنهن ناقصات، لأنهن يمتلكن ذلك العضو الذي يسلب عقول الرجال، لأنهن يغيرن مصائر الرجال، وسيؤمّن خلف الشيخ على جميع أصحاب المِلل الأخرى حين يدعو بفنائهم، لا يعرف لمَ، ولكن كيف سينتصر الدين الذي يتبعه إن لم يفنِ الله الآخرين، ينتهي من صلاته، يسلم عليه الشيخ الذي حفّظه بضع سور وهو صغير، يردّ السلام ككل جمعة، وهو يلعن في سره ذلك الشيخ الهمجي!
**
يتجمع بأصدقائه القدامى، ليدخن سيجارة الحشيش الأسبوعية، واحدة فقط لأنه لن يترك نفسه للمخدرات، رغم سنه الذي تجاوز الثلاثين، لم يهزمه اليأس بعد، ينتهي من سيجارته، يودعهم عائدًا إلى منزله، يلقى صديقًا قديمًا، لم يكن يحبه، ولكن شدَّه فضوله حين رآه بلحية كثيفة، رغم أنه نفس الشخص الذي عرَّفه لأول مرة على مجلات الجنس الصريح، توقف ليبادله سلام العابرين، وتبادلا أرقام الهاتف، كما يفعل الأصدقاء القدامى ثم يتناسوا كما يفعل الحمقى الحقيقيون!
**
في طريقه إلى إحدى دور العرض بوسط البلد، تلقى اتصالًا من رقم غريب، لم يعتَد أن يرد على أرقام غريبة تظهر على شاشة الهاتف، ولكن كانت إحدهن تسير أمامه وكان عليه أن يراقبها وهو يتحدث حتى تهدأ ولا تشعر بالخطر، فبعضهن يشعرن بالخطر حين تكون المحادثة صامتة، تلقى الاتصال، كان صديقه القديم، سبه صديقه، لأنه لم يسأل، فردَّ عليه بأفظع الإهانات والنكت الجنسية الصريحة، لم يحظَ بالفتاة، لم تكن رخيصة، ولكن حظى بوعد من صديقه القديم بسهرة ستبهجه!
**
يصل في الموعد المحدد، يجد صديقه القديم، زجاجات الخمر، الحشيش، الشيخ الذي كان يحفظه كلام الله وقد تحرر من زِيّه الديني وارتدى ملابس تضيف عليه لمحة شبابية، وامرأة لعوب، لم يسأل إلا بعد أن رقص معها لينسى، رقص ليتخلص من كل هذا الضغط الذي يقتله يوميًّا دون أن يحضنه أحد، ينسى أمه التي لا تحمل ملامح وجهها إلا المرض، والده الذي قتلته سنوات المعاش المبكر والجري وراء لقمة العيش، ينسى مدريره الذي يسبّه لأنه صاحب العرش ولولا إرضاءه عنه لمَ حصل على جنيه واحد، ينسى نساءه العاريات اللواتي لم تستطع إحداهن أن تعبر الشاشة يومًا لتجمع سائله المنوي المندفع، يرقص لينسى نفسه التي نساها بالفعل، وينسى صديقته التي يحبها لأنها بلا ملامح وباسم مزيف ولكنها التي أخبرته بأنها تحبه، ينسى كل شيء ويقترب من فم الراقصة، لتقترب وتأخذه إلى سرير من أسِرّة الجنة، لا يتذكر ماذا حدث بعد في تلك الليلة، ولكنه يتذكر بأن لديه موعدًا مع الشيخ بعد صلاة الفجر، يذهب فقط، لأن الشيخ أخبره بأن بعد الصلاة سيأخذه إلى مكان جديد!
**
الشمس تكاد أن تشرق، يشعر بملل وهو يجر رجله خلف الشيخ الذي أخذه إلى البعيد، حيث أرض زراعية صغيرة لم تتحول لمسكن لأولئك الذين يأتون إلى الحياة رغمًا عنهم، يسأله الشيخ عن تلك السهرة، يبتسم وهو يتذكر ملذات تلك السهرة، يبتسم في وجه الشيخ ويخبره:
- شوف آهو الحور العين في جنة ربنا ماتتقارنش حتى باللي بنسميهم إحنا نسوان حتى النسوان اللي بتشوفهم على النت.
= تفتكر فيه جنة ياسيدنا الشيخ
- إيه يا ابني هتكفر ولّا إيه أكيد فيه جنة، أومال إحنا بنصحى كل يوم ليه ما عشان نوصل للجنة دي، حتى لو بنغلط، ربنا نفسه بيتوب، ما تاخد سيجارة.
يسحب واحدة من علبة السجائر الفاخرة، وينفخها بملل يسأله الشيخ بهدوءٍ غريبٍ:
- تشتغل مع ربنا؟
= نعم!
- بقولك تشتغل مع ربنا؟!
= ازي يعني ياسيدنا الشيخ؟!
- شوف ربنا ده أصله ماسابش الحياة كده، لكن حط فيها شوية قوانين تمشّيها، الغلط ده اللي احنا بنعمله مش زي غلط الكفار، لأننا بنغلط بس بنرجع نستغفر، ولما نستغفر الغلط يوقع، كأنه ماحصلش، لكن الكفار كل حياتهم غلط في غلط، لذلك كلهم هيخشوا النار زي ما ربنا قال كده في القرآن!
= يعني إحنا صح ياسيدنا الشيخ ؟!
- وهو إحنا إيه اللي عملناه غلط، عاملين ختمة بعد صلاة العشا ما تيجي تقرالك رُبع!
= هحاول!
**
يمر اليوم، ينسى أو يتناسى، يمل من عاهراته اللواتي يظهرن ككل مرة على ذات الشاشة، يمل من صديقته، ولكنه يبدأ يبحث عن الله، يحادث صديقه القديم، ويذهب معه إلى الشيخ، ليقرأوا، تتعجب أسرته ولكن تدعو له الأم بالهداية!
**
في المسجد الغريب الذي لم يذهب إليه من قبل، ويقع بعيدًا نوعًا ما عن القاهرة، يجلس ليقرأ، ويصحح له شيخه وآخرون، يرى من بعضهم ابتسامات طيبة لم يصادقها من قبل، لأصحاب لحي بدون شوارب وذات جلابيب بيضاء تسر الناظرين، يتبادلون الكلام الطيب، يحترمون شيخه، هل لأنهم لا يعرفون طبيعة شيخه أم لأنه يستحق الاحترام، يدعوه لقضاء ليلة في حب الله، يصلون تهجد، رغم أنه لم يكن رمضان، يشعر براحة لأول مرة، راحة عجيبة، أولئك الذين لم يروه من قبل، يطعموه، يسكنوه قلوبهم، يأخذوه إلى الله، رغم أنه غريب عنهم، رغم أنهم غرباء عنه، يشعر بلوثة حقيقية، أنه يرى النور لكن هل هذا هو النور، يعود بعد بضعة أيام ليشعر بأنه تطهَّر، يبدأ في مقاطعة صديقته، مسح كل المشاهد الجنسية التي اعتاد أن يراها، يحمل مصحفًا صغيرًا في طريقه إلى العمل، لا لكي يقرأ به ولكن ليمنعه عن ملامسة الأخريات، يمر يومان دون شيء ثم يشعر بأنه يحن إلى حياته السابقة، يتوقف عن البحث عن الله، يعود لصديقته، تسأله عن الغياب، يتهمها بأن الله يراقبهما وبأنهما يفعلان إثمًا عظيمًا لكن يتذكر كلام شيخه عن المغفرة، في غضون يومين يعود لسابق عهده وحتى ينسى كل صلة تربطه بالشيخ اللعين يقاطع صلاة الجمعة!
**
يتجاهل اتصالات صديقه القديم، الرد على أرقام غريبة، يخرج حتى المصحف من غرفته ويعتاد على سبّ جميع الأديان، وعلى سبّ صديقته، يقرر أن يعلن إلحاده في كل مكان، لكنه لا يجرؤ أن يعلن لأسرته ذلك حتى يبقوه معهم؛ فهو كمثل جيله بلا مسكن حتى بعد أن جاوز الثلاثين، يبدأ في العودة إلى شلته القديمة كل ليلة لينسى الواقع بسجائر الحشيش، حتى وهو لا يملك ثمنها يجد ذلك الذي يدفع من أجل سيجارة أخرى، ليس لأنه شهمٌ، ولكن على أحدهم أن يصبح مثله بلا رؤية فيشعر بأن كل شيء جيد، ينهار يومًا، ينساه الكل ويتدخل صديقه القديم ليدفع ثمن ديونه، يأخذه إلى ذلك المكان السحري ليقابل شيخه، ويسأله متى آخر مرة استغفر بها، ينفجر في البكاء لأنه لم يعد يستغفر!
**
يعود إلى منزله، ينام في حضن أمه التي لم يرَها في السنوات الأخيرة غير ملامح باهتة، يداعبها كما اعتاد في العشرينيات بالإفيه الأشهر لسعيد صالح "مش كنتم قضتوها بوس بس"، لا تضحك تلك المرة ككل مرة، هدها التعب، الأم شجرة قابلة أن تشرخ كلما ابتعدت عنها فروعها، تبكي في صمت، تحضنه، رغم أنه لم يذهب معها ولو مرة إلى المستشفى، ولكنها الأم، وعليها أن تبتسم، تبتسم ليصعد القمر إلى سماء ليلتهم ويعود أبوه ليجتمعوا كأسرة للمرة الأخيرة !
**
صلاة الظهر، ينهي شيخه الصلاة، يبدأوان في صلاة الجنازة، صديقه القديم يقف جواره، زملاء العمل لم يتحملوه يومًا ولكنه الواجب، إخوته الشباب الذين يحملون نفس الاسم ولا يعرفهم، يخرج من الصلاة ويصرخ كالنساء، يولول، يسبّ الله، يقول له وهو في مسجده.. إنه كافر به، على أحدهم أن يدفع الزمن، لكن لمَ عليه أن يخسر أمه وأبوه مرة واحدة ويسقط منزلهم القابل للسقوط منذ أن سكنوه، يحاول أن يُخرِج جثتيّْ أبويه من الخشب المقدَّس، يخرج الجميع من صلاة الجنازة، يمنعونه، يكبلونه خارج المسجد، ينهون الصلاه، ويدفنونهما قبل أن يحل الغروب في القرية البعيدة التي أتوا منها إلى القاهرة مرحّلين بعد أن طردتهم الحكومة ليشتري نائب مجلس الشعب حينها أرضهم التي لم تكن تزيد عن مائة متر، ولكنها كانت العقبة التي تمنعه عن استحواذ كل شيء، يلعن التاريخ الذي أتى بهم إلى هنا، يسير في شارعهم الضيق، يلعن كل شيء بصوت مرتفع، حين يأتي الليل ويسكن لا يخرج من غرفته لمدة يومين وفي الثالث يأتي شيخه ليأخذه بعيدًا!
**
ينتهي منها سريعًا بعد أن أخرجت ذلك الوحش الذي يسكنه، أعادت له مزاجه الجيد، أطعمته، ناولته خمرًا ينسيه؛ فنسى.. وأتى الشيخ ليأخذه إلى خارج المدينة ليلتقي بأولئك الذين يحبونه دون سبب ويقربونه إلى الله دون سبب، ويمر معهم الوقت دون أن يدري كيف هو أو لمَ عليه أن يعود إلى حياته السابقة مجددًا !
**
كانت السابعة صباحًا حين حلق شعر رأسه ولحيته، صلَّى صلاة أخيرة، داعب إخوته في الله بنكتة كما اعتاد، فطر معهم، وشعر بالشبع كما اعتاد كلما جلس معهم، أخذه الشيخ الذي لم يأتِ إلا قليلًا ليراه، راجعًا معه الخطة، وحين انتهى، حسده لأنه على مقربة من الحور العين، ضحك.
و قال له إنه سيذهب فقط لملاقاة الله، يسير إلى قطار المحطة، لا ينظر خلفه، لم يشعر بتلك المحبة التي تغمره من قبل، ينظر إلى السماء، نيرة اليوم، كانت الخطة بسيطة، سيذهب ليفجّر نفسه في محطة مصر، يتذكر كلام شيخه، على أحدهم أن يصنع طريقًا جديدًا ليسير به البشر إلى الله، يستمع إلى فيروز بسماعات الرأس، لأن الله يحب البشر وأهداهم فيروز وأهداهم أحدًا مثله سيأخذهم إليه، يمر الوقت ثقيلًا، تغني فيروز، كيفك إنت، ويتذكر حبيبته التي لم يرَها ولم يعرفها ويتمنى لو أن يُلقي ولو تحية أخيرة، ولكن حتى هاتفه لن يساعده لأنه لا يتصل بشبكة الإنترنت، يصل أخيرًا إلى المحطة، كل شيء مثالي لبروفا القيامة، ويضغط ذلك الزر السحري!
**
قبل أن يضغط الزر السحري كان قطار خارج لتوه يحمل بضع فتيات عائدات من مدينتهن الجامعية، منهن هي، تلك الفتاة التي كانت تحبه، تحبه لأنه ليس كمثل أهلها التي تنعتهم بجهل الجنوب، لأنه يحبها رغم أنه لم يرَها ولو لمرة، رغم أنه يحبها دون أن يعرف اسمها حتى، تقرأ محادثتهما القديمة على هاتفها الذكي التي سرقته لتكون مثل صديقاتها، جُرم صغير لن يضر أحدًا، ولكن أليست مثلهن تستحق الحياة، تمسح محادثتهما بعد أن مر عام كامل انتظرته دون رد، وقررت أن ترسل لأحد آخر، لأن على أحدهم دومًا أن يخبرنا بأنه يحبنا لكي تستمر الحياة!
**
يضع سماعات الرأس، تخرجه إلى مود آخر، تغني برحابة سيدة الغناء فيروز، لا يفضل تلك التي يقول عنها الجميع أنها كوكب الشرق، يصعد إلى المترو مندفعًا، يلعنهن في سره كالمعتاد، لا يملك طريقة أخرى للعودة إلى منزله إلا تلك الطريقة اللعينة، تغفل عيناه، وهو واقفٌ، أو يغلقها متعمدًا حين تصعد بضع فتيات لم تجدن مكانًا في عربة السيدات، وقرر هو وسط الزحام أن يكتشف أجسادهن!
**
الخميس، سهرة العائلة المعتادة التي يكرهها، يتركهم، يذهب إلى غرفته التي تحتوي على سرير، وكمبيوتر قديم بعض الشيء -ولكنه موصلًا بالشبكة العالمية-، يدخل إلى المحادثة مع صديقته التي يحبها دون أن يراها ولو لمرة، تتحدث معه في حوار ثقافي ممل، يكره حديثها، يتمنى لو ينهي ذلك الحديث التافه كي يذهب إلى مواقعه الجنسية المفضلة، لتكن سهرة حمراء، ولكن على أحدهم أن يخبرنا بأنه يحبنا، يحبنا بكل ذلك النقص الذي ابتلينا به دون ذنب، علَّمه عمله كمحاسب أن يحترم الأرقام لأنه صورة الإله على الأرض، بلا بداية، بلا نهاية، وتلك السعادة الذي سيحصدها حين يفرغ من ليلته الحمراء لا تستمر سوى دقائق. ينهي المحادثة مع صديقته بشكل مهذب، يعرض عليها بضعة أسماء كتب سمع عنها مؤخرًا ولم يقرأها، هناك الكثير من الملخصات إن سألته سيعود إليها، وحينها ستقدّره حبيبته، التي لم يرَها ولو لمرة واحدة أو شاهد صورتها ولو لمرة واحدة، ولم يتأكد بعد من اسمها، ولكن على أحدهم أن يخبرنا بأنه يحبنا!
**
جمعة أخرى، سيذهب ليتعلم بها لعن النساء، لأنهن ناقصات، لأنهن يمتلكن ذلك العضو الذي يسلب عقول الرجال، لأنهن يغيرن مصائر الرجال، وسيؤمّن خلف الشيخ على جميع أصحاب المِلل الأخرى حين يدعو بفنائهم، لا يعرف لمَ، ولكن كيف سينتصر الدين الذي يتبعه إن لم يفنِ الله الآخرين، ينتهي من صلاته، يسلم عليه الشيخ الذي حفّظه بضع سور وهو صغير، يردّ السلام ككل جمعة، وهو يلعن في سره ذلك الشيخ الهمجي!
**
يتجمع بأصدقائه القدامى، ليدخن سيجارة الحشيش الأسبوعية، واحدة فقط لأنه لن يترك نفسه للمخدرات، رغم سنه الذي تجاوز الثلاثين، لم يهزمه اليأس بعد، ينتهي من سيجارته، يودعهم عائدًا إلى منزله، يلقى صديقًا قديمًا، لم يكن يحبه، ولكن شدَّه فضوله حين رآه بلحية كثيفة، رغم أنه نفس الشخص الذي عرَّفه لأول مرة على مجلات الجنس الصريح، توقف ليبادله سلام العابرين، وتبادلا أرقام الهاتف، كما يفعل الأصدقاء القدامى ثم يتناسوا كما يفعل الحمقى الحقيقيون!
**
في طريقه إلى إحدى دور العرض بوسط البلد، تلقى اتصالًا من رقم غريب، لم يعتَد أن يرد على أرقام غريبة تظهر على شاشة الهاتف، ولكن كانت إحدهن تسير أمامه وكان عليه أن يراقبها وهو يتحدث حتى تهدأ ولا تشعر بالخطر، فبعضهن يشعرن بالخطر حين تكون المحادثة صامتة، تلقى الاتصال، كان صديقه القديم، سبه صديقه، لأنه لم يسأل، فردَّ عليه بأفظع الإهانات والنكت الجنسية الصريحة، لم يحظَ بالفتاة، لم تكن رخيصة، ولكن حظى بوعد من صديقه القديم بسهرة ستبهجه!
**
يصل في الموعد المحدد، يجد صديقه القديم، زجاجات الخمر، الحشيش، الشيخ الذي كان يحفظه كلام الله وقد تحرر من زِيّه الديني وارتدى ملابس تضيف عليه لمحة شبابية، وامرأة لعوب، لم يسأل إلا بعد أن رقص معها لينسى، رقص ليتخلص من كل هذا الضغط الذي يقتله يوميًّا دون أن يحضنه أحد، ينسى أمه التي لا تحمل ملامح وجهها إلا المرض، والده الذي قتلته سنوات المعاش المبكر والجري وراء لقمة العيش، ينسى مدريره الذي يسبّه لأنه صاحب العرش ولولا إرضاءه عنه لمَ حصل على جنيه واحد، ينسى نساءه العاريات اللواتي لم تستطع إحداهن أن تعبر الشاشة يومًا لتجمع سائله المنوي المندفع، يرقص لينسى نفسه التي نساها بالفعل، وينسى صديقته التي يحبها لأنها بلا ملامح وباسم مزيف ولكنها التي أخبرته بأنها تحبه، ينسى كل شيء ويقترب من فم الراقصة، لتقترب وتأخذه إلى سرير من أسِرّة الجنة، لا يتذكر ماذا حدث بعد في تلك الليلة، ولكنه يتذكر بأن لديه موعدًا مع الشيخ بعد صلاة الفجر، يذهب فقط، لأن الشيخ أخبره بأن بعد الصلاة سيأخذه إلى مكان جديد!
**
الشمس تكاد أن تشرق، يشعر بملل وهو يجر رجله خلف الشيخ الذي أخذه إلى البعيد، حيث أرض زراعية صغيرة لم تتحول لمسكن لأولئك الذين يأتون إلى الحياة رغمًا عنهم، يسأله الشيخ عن تلك السهرة، يبتسم وهو يتذكر ملذات تلك السهرة، يبتسم في وجه الشيخ ويخبره:
- شوف آهو الحور العين في جنة ربنا ماتتقارنش حتى باللي بنسميهم إحنا نسوان حتى النسوان اللي بتشوفهم على النت.
= تفتكر فيه جنة ياسيدنا الشيخ
- إيه يا ابني هتكفر ولّا إيه أكيد فيه جنة، أومال إحنا بنصحى كل يوم ليه ما عشان نوصل للجنة دي، حتى لو بنغلط، ربنا نفسه بيتوب، ما تاخد سيجارة.
يسحب واحدة من علبة السجائر الفاخرة، وينفخها بملل يسأله الشيخ بهدوءٍ غريبٍ:
- تشتغل مع ربنا؟
= نعم!
- بقولك تشتغل مع ربنا؟!
= ازي يعني ياسيدنا الشيخ؟!
- شوف ربنا ده أصله ماسابش الحياة كده، لكن حط فيها شوية قوانين تمشّيها، الغلط ده اللي احنا بنعمله مش زي غلط الكفار، لأننا بنغلط بس بنرجع نستغفر، ولما نستغفر الغلط يوقع، كأنه ماحصلش، لكن الكفار كل حياتهم غلط في غلط، لذلك كلهم هيخشوا النار زي ما ربنا قال كده في القرآن!
= يعني إحنا صح ياسيدنا الشيخ ؟!
- وهو إحنا إيه اللي عملناه غلط، عاملين ختمة بعد صلاة العشا ما تيجي تقرالك رُبع!
= هحاول!
**
يمر اليوم، ينسى أو يتناسى، يمل من عاهراته اللواتي يظهرن ككل مرة على ذات الشاشة، يمل من صديقته، ولكنه يبدأ يبحث عن الله، يحادث صديقه القديم، ويذهب معه إلى الشيخ، ليقرأوا، تتعجب أسرته ولكن تدعو له الأم بالهداية!
**
في المسجد الغريب الذي لم يذهب إليه من قبل، ويقع بعيدًا نوعًا ما عن القاهرة، يجلس ليقرأ، ويصحح له شيخه وآخرون، يرى من بعضهم ابتسامات طيبة لم يصادقها من قبل، لأصحاب لحي بدون شوارب وذات جلابيب بيضاء تسر الناظرين، يتبادلون الكلام الطيب، يحترمون شيخه، هل لأنهم لا يعرفون طبيعة شيخه أم لأنه يستحق الاحترام، يدعوه لقضاء ليلة في حب الله، يصلون تهجد، رغم أنه لم يكن رمضان، يشعر براحة لأول مرة، راحة عجيبة، أولئك الذين لم يروه من قبل، يطعموه، يسكنوه قلوبهم، يأخذوه إلى الله، رغم أنه غريب عنهم، رغم أنهم غرباء عنه، يشعر بلوثة حقيقية، أنه يرى النور لكن هل هذا هو النور، يعود بعد بضعة أيام ليشعر بأنه تطهَّر، يبدأ في مقاطعة صديقته، مسح كل المشاهد الجنسية التي اعتاد أن يراها، يحمل مصحفًا صغيرًا في طريقه إلى العمل، لا لكي يقرأ به ولكن ليمنعه عن ملامسة الأخريات، يمر يومان دون شيء ثم يشعر بأنه يحن إلى حياته السابقة، يتوقف عن البحث عن الله، يعود لصديقته، تسأله عن الغياب، يتهمها بأن الله يراقبهما وبأنهما يفعلان إثمًا عظيمًا لكن يتذكر كلام شيخه عن المغفرة، في غضون يومين يعود لسابق عهده وحتى ينسى كل صلة تربطه بالشيخ اللعين يقاطع صلاة الجمعة!
**
يتجاهل اتصالات صديقه القديم، الرد على أرقام غريبة، يخرج حتى المصحف من غرفته ويعتاد على سبّ جميع الأديان، وعلى سبّ صديقته، يقرر أن يعلن إلحاده في كل مكان، لكنه لا يجرؤ أن يعلن لأسرته ذلك حتى يبقوه معهم؛ فهو كمثل جيله بلا مسكن حتى بعد أن جاوز الثلاثين، يبدأ في العودة إلى شلته القديمة كل ليلة لينسى الواقع بسجائر الحشيش، حتى وهو لا يملك ثمنها يجد ذلك الذي يدفع من أجل سيجارة أخرى، ليس لأنه شهمٌ، ولكن على أحدهم أن يصبح مثله بلا رؤية فيشعر بأن كل شيء جيد، ينهار يومًا، ينساه الكل ويتدخل صديقه القديم ليدفع ثمن ديونه، يأخذه إلى ذلك المكان السحري ليقابل شيخه، ويسأله متى آخر مرة استغفر بها، ينفجر في البكاء لأنه لم يعد يستغفر!
**
يعود إلى منزله، ينام في حضن أمه التي لم يرَها في السنوات الأخيرة غير ملامح باهتة، يداعبها كما اعتاد في العشرينيات بالإفيه الأشهر لسعيد صالح "مش كنتم قضتوها بوس بس"، لا تضحك تلك المرة ككل مرة، هدها التعب، الأم شجرة قابلة أن تشرخ كلما ابتعدت عنها فروعها، تبكي في صمت، تحضنه، رغم أنه لم يذهب معها ولو مرة إلى المستشفى، ولكنها الأم، وعليها أن تبتسم، تبتسم ليصعد القمر إلى سماء ليلتهم ويعود أبوه ليجتمعوا كأسرة للمرة الأخيرة !
**
صلاة الظهر، ينهي شيخه الصلاة، يبدأوان في صلاة الجنازة، صديقه القديم يقف جواره، زملاء العمل لم يتحملوه يومًا ولكنه الواجب، إخوته الشباب الذين يحملون نفس الاسم ولا يعرفهم، يخرج من الصلاة ويصرخ كالنساء، يولول، يسبّ الله، يقول له وهو في مسجده.. إنه كافر به، على أحدهم أن يدفع الزمن، لكن لمَ عليه أن يخسر أمه وأبوه مرة واحدة ويسقط منزلهم القابل للسقوط منذ أن سكنوه، يحاول أن يُخرِج جثتيّْ أبويه من الخشب المقدَّس، يخرج الجميع من صلاة الجنازة، يمنعونه، يكبلونه خارج المسجد، ينهون الصلاه، ويدفنونهما قبل أن يحل الغروب في القرية البعيدة التي أتوا منها إلى القاهرة مرحّلين بعد أن طردتهم الحكومة ليشتري نائب مجلس الشعب حينها أرضهم التي لم تكن تزيد عن مائة متر، ولكنها كانت العقبة التي تمنعه عن استحواذ كل شيء، يلعن التاريخ الذي أتى بهم إلى هنا، يسير في شارعهم الضيق، يلعن كل شيء بصوت مرتفع، حين يأتي الليل ويسكن لا يخرج من غرفته لمدة يومين وفي الثالث يأتي شيخه ليأخذه بعيدًا!
**
ينتهي منها سريعًا بعد أن أخرجت ذلك الوحش الذي يسكنه، أعادت له مزاجه الجيد، أطعمته، ناولته خمرًا ينسيه؛ فنسى.. وأتى الشيخ ليأخذه إلى خارج المدينة ليلتقي بأولئك الذين يحبونه دون سبب ويقربونه إلى الله دون سبب، ويمر معهم الوقت دون أن يدري كيف هو أو لمَ عليه أن يعود إلى حياته السابقة مجددًا !
**
كانت السابعة صباحًا حين حلق شعر رأسه ولحيته، صلَّى صلاة أخيرة، داعب إخوته في الله بنكتة كما اعتاد، فطر معهم، وشعر بالشبع كما اعتاد كلما جلس معهم، أخذه الشيخ الذي لم يأتِ إلا قليلًا ليراه، راجعًا معه الخطة، وحين انتهى، حسده لأنه على مقربة من الحور العين، ضحك.
و قال له إنه سيذهب فقط لملاقاة الله، يسير إلى قطار المحطة، لا ينظر خلفه، لم يشعر بتلك المحبة التي تغمره من قبل، ينظر إلى السماء، نيرة اليوم، كانت الخطة بسيطة، سيذهب ليفجّر نفسه في محطة مصر، يتذكر كلام شيخه، على أحدهم أن يصنع طريقًا جديدًا ليسير به البشر إلى الله، يستمع إلى فيروز بسماعات الرأس، لأن الله يحب البشر وأهداهم فيروز وأهداهم أحدًا مثله سيأخذهم إليه، يمر الوقت ثقيلًا، تغني فيروز، كيفك إنت، ويتذكر حبيبته التي لم يرَها ولم يعرفها ويتمنى لو أن يُلقي ولو تحية أخيرة، ولكن حتى هاتفه لن يساعده لأنه لا يتصل بشبكة الإنترنت، يصل أخيرًا إلى المحطة، كل شيء مثالي لبروفا القيامة، ويضغط ذلك الزر السحري!
**
قبل أن يضغط الزر السحري كان قطار خارج لتوه يحمل بضع فتيات عائدات من مدينتهن الجامعية، منهن هي، تلك الفتاة التي كانت تحبه، تحبه لأنه ليس كمثل أهلها التي تنعتهم بجهل الجنوب، لأنه يحبها رغم أنه لم يرَها ولو لمرة، رغم أنه يحبها دون أن يعرف اسمها حتى، تقرأ محادثتهما القديمة على هاتفها الذكي التي سرقته لتكون مثل صديقاتها، جُرم صغير لن يضر أحدًا، ولكن أليست مثلهن تستحق الحياة، تمسح محادثتهما بعد أن مر عام كامل انتظرته دون رد، وقررت أن ترسل لأحد آخر، لأن على أحدهم دومًا أن يخبرنا بأنه يحبنا لكي تستمر الحياة!
تعليق