الإنسان العربيّ والحِوار
الحمد لله أنزل القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان، وأكرم هذا الإنسان بالسمع والبصر والفؤاد ليعقل عن الله تعالى وحيَه، وعن أنبيائهم هدايتَهم، وعن عقلائهم إرشادَهم، فيضيف إلى عقله الفطري عقلا كسبيا يتميز به عن باقي الحيوان.
ثم أما بعد، لا شك في أن الحوار بين بني البشر ميزة كبيرة ووسيلة راقية يعبّرون بها عن أفكارهم ويستطلعون آراءَ بعضهم فيما يهمهم من شئونهم الخاصة والعامة، وبالحوار تتلاقح الأفكار ويتناصح الأخيار، ولو لم تتوفر هذه الميزة للبشر لصاروا كالعجماوات "يتحاورون" بالمخالب والأظفار والأنياب و بالنطح والرفس والعض، أو، بعد تطورهم، بالخناجر والسيوف والرماح، أو بالمسدسات و البنادق والقنابل بعد أن يزدادوا تطورا، وهكذا، كلما ازدادوا تطورا ماديا ازدادت وسائل الحوار بينهم فتكا بهم جميعا وسادت بينهم حُجَّةُ القوة، لكن الحوار الأخوي المتزن يبقى وسيلة الإنسان المتحضر الراقية في تواصله مع بني جنسه، أو غيرهم، حيث تسيطر قوة الحجة، وهنا يكمن الفرق بين الإنسان المتحضر، الإنسان الراقي في آدميته المستأنس ببني جنسه، وبين "الإنسان" المتوحش النّفور المنطوي على نفسه المتمركز فيها وعليها كأنها هي مركز الوجود عنده، وهذا ما سنتطرق إليه، إن شاء الله تعالى، عند الحديث عن أصناف الأشخاص "الأنانيين" المُؤْثرين لأنفسهم على غيرهم خلافا للآخرين المؤثرين للناس على أنفسهم، وشتان بين الإيثار والأثرة، وشتان بين من يتحاور بقوة الحجة وبين من "يتحاور" بحجة القوة، شتان.
فلسفة الحوار، عندنا نحن المسلمين، ليست غريبة عنا لو كنا مسلمين حقيقيين يعون ما جاءهم عن الله تعالى في كتابه العزيز من نماذج للحوار السامي المثالي، فقد حاور الله تعالى ملائكته الكرام، وحاور عدوه من الجن، الشيطان الرجيم، وحاور أعداءه من الإنس، وعلَّم أنبياءه كيف يحاورن أقوامهم، وأرشد المؤمنين به سبحانه كيف يحاورون خصومهم من الكافرين من جميع الطوائف والملل والأجناس، ولَمَا سقطنا في هذا الحضيض من العنف والشراسة والقسوة والهمجية في حواراتنا "الأخوية"، وليس لأحد من الناس أن يعلمنا، نحن المسلمين، أسس الحوار المتحضر، ولا أن يلقننا أبجديته ولا أساليبه، فنحن أساتيذ العالم في الحوار المتحضر لو بقينا في مستوى حضارتنا الإسلامية الراقية، ونحن مُعلِّمو الأمم الأخرى أساليب الحوار الراقي عندما كانت تلك الأمم في دياجير، ظلمات، الجهل والهمجية المتوحشة يأكل القويُّ فيها الضعيفَ، ويستعبد الأشدُّ فيها بطشا الأقلَّ منه فيه فإذا استقوى هذا الضعيف يوما بطش بغيره من الضعفاء، ولا صوت في تلك المجتمعات المتوحشة يعلو فوق صوت القوة والنُّفوذ والتجبُّر؛ هذه حقيقة تاريخية موثَّقة يعرفها الأعداء الألداء أكثر مما يعرفها الأصدقاء الأوفياء، لكن، وما أمَرَّ هذه الـ "لكن" في نفس المتأمل، المتألم، لحال الأمة الإسلامية عموما والأمة العربية خصوصا اليوم وإلى ما صارت إليه من انحطاط في جميع مجالات الحياة وكيف عادت إلى جاهليتها الأولى النكراء وغرقت في وحشية الأمم الغابرة كأنها هي أو أشد منها وحشية ومع ذلك نراها تتبجح بأنها:{خير أمة أخرجت للناس}(أل عمران:110)، وهي الآن، والله الذي لا إله غيره، أسوأ الأمم قاطبة حتى وإن كررت هذا القول بعدد أفرادها المكوِّنين لها: مليار ونصف المليار نسمة، المعدودين منها.
إن الخيرية التي امتدح الله تعالى بها الصحابة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، مرتبطة أشد الارتباط [وأوكده وأوثقه] بالشروط التي ذكرها الله تعالى في الآية نفسها، ولنقرأها معا وهي قوله تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(آل عمران:110)، وقبل هذه الآية الكريمة جاء في الآية 104 من السورة نفسها، قوله تعالى:{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـظ°ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(آل عمران:104)؛ إذن، الخيرية المنوه بها مرتبطة بشروطها:1) الإيمان بالله تعالى، 2) الأمر بالمعروف، 3) النهي عن المنكر، 4) الدعوة إلى الخير، أشد الارتباط وأوثقه [وأوكده]؛ ولما وَفَّرَ الصحابة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، تلك الشروط في أنفسهم بداية نالوا التكريم من الله تعالى والتنويه بهم نهاية مكافأةً لهم وجزاءً وفاقا على صدقهم وإخلاصهم وصبرهم ووفائهم بما عاهدوا الله عليه، أما أن يُلغِي قومٌ هذه الشروط في أنفسهم وينكرونها على من يحاول العمل بها ولها ثم يروحون يتبجحون بتلك "الخيرية" المزعومة ويستكبرون بها على الناس [ويستعلون]، فهذا، والله، هو الغرور في النفس والتغرير بالناس والادعاء بما ليس فينا والافتراء على الله سبحانه، مع أن الله تعالى يقول للصحابة، رضي الله عنهم جميعا:{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}(النساء:123)، إذن، لا محاباة عند الله تعالى ولا محسوبية ولا وساطة، فالكل عنده سواسية: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}(الزلزلة:8،7)، والمسلمون كغيرهم من الناس، من يعمل منهم خيرا يجده، إن آجلا أو عاجلا، ومن يعمل منهم شرا يجده، إن آجلا أو عاجلا كذلك؛ ولا "بنوة" و لا "محبوبية" عند الله لا للمسلمين ولا لغيرهم كما ادعت ذلك اليهود والنصارى كذبا وزورا وافتراء على الله تعالى:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم، بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ، يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(المائدة:18) فلا اليهود ولا النصارى أبناء الله تعالى ولا أحباؤه ولا المسلمون كذلك إن ظنوا أن حب اللهِ تعالى يُنال بالتمني أو بالتحلي، كما قال الحسن البصري، رحمه الله تعالى:"ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن [الإيمانَ] ما وقر في القلب وصدَّقه العمل" والمسلمون اليوم، إلا من رحم ربي منهم، مدَّعون للإسلام بل صاروا محاربين له وخصوما، فلا عجب إن حل بهم ما حل وسيحل إن لم يسرعوا بالتوبة إلى الله تعالى.
ومن مظاهر انحطاط المسلمين الشامل تصرفاتُهم فيما بينهم في علاقاتهم ومعاملاتهم وتصرفاتهم ولم يعد انحطاطهم محصورا في تخلفهم المادي ولا مقصورا عليه، ولهذا الانحطاط عوامله الذاتية والموضوعية، الداخلية والخارجية، كنت عالجتها في بحث قديم لي بعنوان:"عوامل السقوط الحضاري: بحث في أسباب انهيار الأمة الإسلامية وانحطاطها"، يَسَّر اللهُ طبعَه ونشرَه في الناس، اللهم آمين، وقد جعلت نص الآية الكريمة 115 من سورة التوبة تلخيصا له: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التوبة:115)، وهذه الآية الكريمة توجز مأساة الأمة في بضع كلمات، فالأمة عملت بكل ما نهاها الله تعالى عن عمله وتركت كل ما أمرها بفعله، أمرها بالاستمساك بالعروة الوثقى، فتمسكت بالأوهن من العرى، وأمرها بالوحدة، فتفرقت، وأمرها بالأخوة فتعادت وتحاربت، وأمرها بالإحسان فأساءت، وأمرها ألا تركن إلى الأعداء فاتخذتهم أولياء، وأمرها ألا تأكل الربا فأكلته، وأمرها ألا تقرب الزنا فاقترفته، وأمرها بالصدق في الحديث فكذبت، وأمرها بالأمانة فخانت، وأمرها بالوفاء فغدرت، وأمرها بالصدق في التجارة فغشت، وأمرها بالصبر فجزعت، ونهاها عن النفاق العقدي والعملي فنافقت، نسأل الله السلامة والعافية، فأنىَّ يُرجى لها الفلاح والنجاح والفوز والتقدم وهي بهذه الخصال الذميمة؟
لا، ليس هذا جلدا للذات، ولا هو نظرة سوداء، ولا هو قنوط أو يأس، لا والله، إنما هو تشخيص لأدواء الأمة الإسلامية عساها تنتبه إليها فتبادر إلى تطبيبها، وما ذلك بالمستحيل إن هي أخلصت النية ومحَّضت العزيمة على النهوض ولم تسترسل في غيها ولم تستمرئ كسلها ولم تستلذ سباتها؛ فالقضية قضية تشريح جثة وليست قضية تجريح أمة وإن كان لابد من بعض التجريح في التشريح، ولا بد إن أرادت الأمة أن تنهض من وكستها المستديمة أن تتحلى بالشجاعة اللازمة في مواجهة واقعها المزري ثم أن تتحلى بالشجاعة الكافية لمعرفة أدوائها الكثيرة ثم بالصبر على تجرع الدواء المر الشافي بإذن الله تعالى.
ومن مظاهر انحطاط المسلمين العملي ما نراه من خصومات في لقاءاتهم فيما بينهم فقط، ليس مع غيرهم، في مختلف الميادين ومتنوع اللقاءات من مجالس الأمة، مجالس الشيوخ ومجالس الشعب، "البرلمانات"، إلى لقاءات الأسرة، ومن لقاءات أولياء التلاميذ في المؤسسات التربوية إلى مجالس الإدارة في المؤسسات الاقتصادية، كلها، إن تحدثوا صخبوا وصرخوا وزعقوا وقل أن تجد متحاورَيْن اثنين يتحاوران بهدوء وأناة وحِلم وروية، فما أسباب تلك المظاهر السلبية يا ترى؟
هذا ما سنتناوله بالبحث إن شاء الله تعالى بعد هذه المقدمة الطويلة نسبيا، وسنتطرق إلى المظاهر الفردية والمظاهر الجماعية في حوارات الإخوة الأعداء.
البُلَيْدة، عشية يوم الأربعاء 21 أكتوبر 2015 الموافق 7 من شهر الله المحرم 1437.
تعليق