الهُمْهِيَّة في الكتابة الأدبية
المشاركة الأصلية بواسطة حسين ليشوري
مشاهدة المشاركة
ينظر كثير من الأدباء إلى النقد الموجه إلى كتاباتهم وإبداعاتهم كأنه موجه إليهم هم بذواتهم فتراهم ينفعلون ويثورون ضد الناقد وليس ضد نقده، فالعملية عكسية إذن وهذا أمر معقول فما داموا يرون النقد موجها إليهم شخصيا فهم برد فعل عكسي يوجهون "نقدهم"، إنفعالهم، إلى الناقد ذاته وليس إلى نقده، ويقومون بالدفاع عن كتاباتهم، وهم في الواقع يدافعون وينافحون عن أنفسهم فقط ما داموا يتماهون مع كتاباتهم في وحدة وجود أو في حلول واتحاد يفوق ما يطمح إليه الصوفية المنحرفون في دعواهم وحدة الوجود أو الحلول والاتحاد كما يزعمونه، ذلك التماهي العجيب كأن النقد يهدد كيانهم أو وجودهم، ومن هنا تظهر "عجائبية" هذه الهُمْهِيَّة ... العجيبة.
أما كون الهُمْهِية" غريبة فلأننا لم نسمع أحدا من النقاد أو الأدباء تحدث عنها بهذه الصفة أو هذه الصيغة المبتدعة، وأنا لا أتردد في صوغ كلمات غريبة للتعبير عن أفكاري حتى وإن صدمت "الصفائيين" (les puristes) دعاة المحافظة على صفاء اللغة العربية ونقائها الغيورين (الغُيُر) عليها وإن كنت منهم وهواهم هواي و غيرتهم على العربية غيرتي بل قد تزيد، وقد يستعمل النقاد كلمة "التماهي" المستحدثة في النقد الأدبي العربي وفي بعض من العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم السياسة إن كانت السياسة علما أصلا.
لا يفوتني وأنا أتحدث عن العربية و"الصفائيين" من أبنائها أن أتساءل كيف لا يستعملون في صوغهم أسماء المخترعات في كل ميدان هذه "الحيلة" اللغوية لتسمية الأشياء والأفكار الجديدة، فالنحت والمصدر الصناعي يمكِّنان اللغوي من وضع الأسماء العربية التي تتماشى مع هذه اللغة الجميلة والراقية والمقدسة؛ وعلى ذكر هذه الصفة، المقدسة، فأنا لا أتردد كذلك في وصف العربية باللغة المقدسة ولا أتلكأ في إعلان هذا في الملأ حتى وإن عابه، أو عابني، اللغويون واللسانيون حتى من أبناء هذه اللغة ... المقدسة؛ إن اللغة العربية مقدسة لأنها، حسب المختصين المتعمقين في اللغات، اللغة الوحيدة بين جميع لغات العالم، قديمها وحديثها، التي احتوت اسم الله تعالى إذ لا يوجد هذا الاسم الجليل المقدس في أية لغة من اللغات حتى وإن ادعى أبناؤها أنها لغة مقدسة أو لغة دينية ربانية؛ هذه حقيقة ثابتة لا يعرفها كثير من الناس حتى بين "المختصين" السطحيين فكيف بغيرهم؟
أعود إلى موضوعي بعد هذا الاستطراد العفوي وأقول: ما بال المبدعين يتماهون مع نصوصهم ويعدونها من شخوصهم كأنهم هي أو كأنها هم؟ ولعل الرد يكون في: لأن المبدع لما يربطه مع نصه من عاطفة يحسب أن نصه جزء منه كأنه ابنه، أو ابنته، فلذة كبده، فهو يعطيه من حبه وحنانه وعاطفته بلا ميزان ولا اعتدال ولا حتى تعقل، وإن الأب ليرى نفسه في ابنه ويتمنى له أن ينجح أكثر من نجاحه هو وقد قلت في المشاركة آنفة الذكر كذلك:
المشاركة الأصلية بواسطة حسين ليشوري
مشاهدة المشاركة
وقلت أيضا:
المشاركة الأصلية بواسطة حسين ليشوري
مشاهدة المشاركة
يمكننا بقراءة متفحصة، أو مدققة متعمقة، استشفافُ شخصية الكاتب في خطوطها العريضة وليس بدقائقها وتفاصيلها إلا أن تكون الكتابة عن الذات في سيرة ذاتية وحتى في هذه يكتم الكاتب جوانب كثيرة من حياته الشخصية أو السرية ولا يريد أن يطلع عليها القراء ويبقيها في ظلمات ذاكرته لا يعرفها إلا هو أو من كان قريبا جدا منه، وحتى هذا الشخص القريب لا يعرف التفاصيل كلها إلا أن يطلعه المَعْنِيُّ، الكاتب، عليها وهذا نادر؛ واستشفاف ملامح شخصية الكاتب هو ما يدرسه النقد الأدبي الذي يعتمد علم النفس والتحليل النفسي منهاجا في نقده وتحليله، ولذا صار فصح مسودات الكتابات حتى ينظر الناقد في التشطيبات أو التصحيحات وما يغيره من كلماته وتعبيراته من أدوات النقد الأدبي، بيد أن الوصول إلى المسودات أمر صعب جدا إن لم يكن مستحيلا ولاسيما بعد انتشار أدوات الكتابة الحديثة ووسائل بثها ونشرها.
قد يصل الأمر ببعض "الهُمْهِيِّين"، كما أصفهم، أو "المتماهين" مع كتاباتهم إلى حالة من العداوة والبغضاء والشحناء والعنف مع النقاد حتى يسقط الأديب المزعوم، أو الكاتب الموهوم، إلى حضيض البذاءة في الرد أو النذالة في التعقيب، وقد يصل ببعضهم الغضب أن لو كان الناقد أمامهم لأوسعوه شتما وضربا وحتى قتلا إن اتسطاعوا إلى ذلك سبيلا، وقد ينحط المنقود إلى سفاهة البصق على الكِتَاب أو الصحيفة أو الشاشة، ولاسيما في حالنا هذه حيث صارت الشاشات وسيلة الاتصال في عالم "النت" الساحر والكاتب جالس في البيت يقرأ ويكتب و... يسب، وهذا كله بسبب التماهي المفرط أو "التَّهُمْهِي" مع الكتابة.
إنها لظاهرة عجيبة ووضعية غريبة، ولاسيما عندنا نحن العربَ، أن يتقمص الكاتبُ كتابتَه، أقول يتقمص كتابته وليس شخصية ما يكتب الافتراضية الخيالية أو أن تلبسه كتابتُه حتى يصير هو هي أو تصير هي هو في "هُمهية" جنونية لا مثيل لها وهذا ضرب من الجنون لعل علم النفس أو التحليل النفسي لم يدرسه بعد و لست أدري، حفظنا الله من الهُمْهِيَّة ووقانا من شرورها حتى نميز بين شخوصنا ونصوصنا فلا نحن هي ولا هي نحن، والحمد لله رب العالمين.
البُليْدة، أمسية الخميس 26 من شهر جمادى الأولى 1438 الموافق 23 فبراير 2017.
تعليق