دأب على العودة من الطريق نفسها التي سلكها متوجها إلى المسجد، يدخل منزله وينقذف كما العادة، في جوف الصمت بعد أن يزيل جلبابه الأبيض الذي حال لونه من كثرة الاستعمال، ينام على سريره المهترئ وقد انطوى على نفسه في هدوء.
يعود من الطريق نفسها بحكم العادة، هذه العادة التي تتحكم في سلوكنا، وتضبط وفق رغباتها حركاتنا وسكناتنا، فلا تترك لنا فرصة التفكير وتجديد النظر. لكنه كان يقوم بهذا الفعل كمن يبغي مسح آثاره من أي حضور يشير إليه، يريد أن يعدم أي نسمة تدل على مروره على هذه الأرض، يريد أن يكون عابرا لا غير، والعابر لا أرض له تأويه، ولا سماء له تحميه. هي حركة شبيه بالرتق والفتق، تلك التي دأبت عليها بينيلوب وهي تنتظر عودة زوجها لتطرد المتربصين بها والحالمين بالارتباط بها، لكنه لم يكن يفعل ذلك بانتظار شيء آخر، ما كان ينتظر سوى الموت، يأكل القوت وينتظر النهاية، يستدعيها بكل طاقته، حتى يرتاح. فلا أحد يتذكره، كأنه غير موجود، حتى المؤسسة التي اشتغل فيها سنوات، لم تفكر في تكريمه، أن تعبر له عن امتنانها له، عن الخدمات التي قدمها لها. كرم الكثيرون قبله، وكان يقوم بتهييء القاعة، وحراستها حين يقبل المحتفلون، وحين يحتفلون، وحين يخرجون، ولا أحد حياه، أو شكره، يجلس، كما يجلس امام باب المؤسسة كصنم، كان يرعب الناس في البداية، ثم تعودت عليه العين فصار كالجدار لا يثير اهتماما، والنظرات لا تريد بل تحجم عن النفاذ إلى دواخله، تصطدم بالخارج ثم تعود إلى حال سبيلها راضية.
هل قدم خدمات جليلة لمؤسسته حتى تتذكره؟
صحيح أنه كان قوي البنية، أسمر اللون، ذا قصر، لكنه لم يكن يقوم سوى بأعمال السخرة:
احمل قفة المدير إلى منزله. يفعل...
ساعد الموظف في نقل الملفات إلى الجهة الأخرى. يستجيب..
اجلب فناجين القهوة للموظفين. يجلب دون تذمر.
افعل هذا، احمل هذا، إذهب إلى هناك، ارفع هذا...يقوم بكل ذلك صامتا راضيا..
أوامر للقيام بأعمال لا يقوم بها سوى بغل، ويمكن، في نهاية الأمر، استبدال بغل ببغل آخر، فهل هناك من يتذكر البغال؟
مرة وسوست له نفسه الأمارة بالفضول، بعد أن شبعت قهرا، زيارة مقر عمله بعيد تقاعده، فوجد بغلا يشبهه يقوم بما قام به سابقا، عاد منكس الخاطر، ومن الطريق التي كان يسلكها حين كان عاملا. كأنه يمارس طقسا لا يبغي الإخلال به خوفا من عقاب ما...
أمره عجيب، وسلوكه أعجب، لكن لا أحد كان يهتم به، ولا يقاسمه الحديث إلا إذا كان أمرا.
حتى في المسجد، كان يؤدي فروضه في صمت، وما كان أحد يكلمه، ولا يبادله حديثا. كما لو كان لامرئيا. لا يعرف من أين أتى، ومن أتى به، وجد نفسه، صغيرا، قرب سور المسجد، متجمدا من البرد، يتضور جوعا، فحمله الإمام، واعتنى به، ثم حين كبر، قدمه لتلك المؤسسة تعمل به ما تشاء؛ وقد قدم له جحرا ليعيش فيه مستقلا. مات الإمام وخلفه أئمة آخرون لم يحملوا له مشاعر دافئة.
أحس، في بيت الله وهو يؤدي صلاة العشاء بألم حاد في صدره، ودوخة حفيفة، جعلته يتراجع إلى الخلف، وفي ركن ظليل، تمدد، عانى بصمت، ومات في صمت. لم يعلم المكلف بالمسجد بموته إلا في فجر اليوم التالي.
أقيمت له جنازة مشهودة، أثلجت صدره، ومنحته موتا كريما.
صحيح أنها كانت سريعة، تحت جنح الستر، حضرها من حضر صلاة الفجر، لكنها كانت دافئة لكونها أكرمته بالدفن.
يعود من الطريق نفسها بحكم العادة، هذه العادة التي تتحكم في سلوكنا، وتضبط وفق رغباتها حركاتنا وسكناتنا، فلا تترك لنا فرصة التفكير وتجديد النظر. لكنه كان يقوم بهذا الفعل كمن يبغي مسح آثاره من أي حضور يشير إليه، يريد أن يعدم أي نسمة تدل على مروره على هذه الأرض، يريد أن يكون عابرا لا غير، والعابر لا أرض له تأويه، ولا سماء له تحميه. هي حركة شبيه بالرتق والفتق، تلك التي دأبت عليها بينيلوب وهي تنتظر عودة زوجها لتطرد المتربصين بها والحالمين بالارتباط بها، لكنه لم يكن يفعل ذلك بانتظار شيء آخر، ما كان ينتظر سوى الموت، يأكل القوت وينتظر النهاية، يستدعيها بكل طاقته، حتى يرتاح. فلا أحد يتذكره، كأنه غير موجود، حتى المؤسسة التي اشتغل فيها سنوات، لم تفكر في تكريمه، أن تعبر له عن امتنانها له، عن الخدمات التي قدمها لها. كرم الكثيرون قبله، وكان يقوم بتهييء القاعة، وحراستها حين يقبل المحتفلون، وحين يحتفلون، وحين يخرجون، ولا أحد حياه، أو شكره، يجلس، كما يجلس امام باب المؤسسة كصنم، كان يرعب الناس في البداية، ثم تعودت عليه العين فصار كالجدار لا يثير اهتماما، والنظرات لا تريد بل تحجم عن النفاذ إلى دواخله، تصطدم بالخارج ثم تعود إلى حال سبيلها راضية.
هل قدم خدمات جليلة لمؤسسته حتى تتذكره؟
صحيح أنه كان قوي البنية، أسمر اللون، ذا قصر، لكنه لم يكن يقوم سوى بأعمال السخرة:
احمل قفة المدير إلى منزله. يفعل...
ساعد الموظف في نقل الملفات إلى الجهة الأخرى. يستجيب..
اجلب فناجين القهوة للموظفين. يجلب دون تذمر.
افعل هذا، احمل هذا، إذهب إلى هناك، ارفع هذا...يقوم بكل ذلك صامتا راضيا..
أوامر للقيام بأعمال لا يقوم بها سوى بغل، ويمكن، في نهاية الأمر، استبدال بغل ببغل آخر، فهل هناك من يتذكر البغال؟
مرة وسوست له نفسه الأمارة بالفضول، بعد أن شبعت قهرا، زيارة مقر عمله بعيد تقاعده، فوجد بغلا يشبهه يقوم بما قام به سابقا، عاد منكس الخاطر، ومن الطريق التي كان يسلكها حين كان عاملا. كأنه يمارس طقسا لا يبغي الإخلال به خوفا من عقاب ما...
أمره عجيب، وسلوكه أعجب، لكن لا أحد كان يهتم به، ولا يقاسمه الحديث إلا إذا كان أمرا.
حتى في المسجد، كان يؤدي فروضه في صمت، وما كان أحد يكلمه، ولا يبادله حديثا. كما لو كان لامرئيا. لا يعرف من أين أتى، ومن أتى به، وجد نفسه، صغيرا، قرب سور المسجد، متجمدا من البرد، يتضور جوعا، فحمله الإمام، واعتنى به، ثم حين كبر، قدمه لتلك المؤسسة تعمل به ما تشاء؛ وقد قدم له جحرا ليعيش فيه مستقلا. مات الإمام وخلفه أئمة آخرون لم يحملوا له مشاعر دافئة.
أحس، في بيت الله وهو يؤدي صلاة العشاء بألم حاد في صدره، ودوخة حفيفة، جعلته يتراجع إلى الخلف، وفي ركن ظليل، تمدد، عانى بصمت، ومات في صمت. لم يعلم المكلف بالمسجد بموته إلا في فجر اليوم التالي.
أقيمت له جنازة مشهودة، أثلجت صدره، ومنحته موتا كريما.
صحيح أنها كانت سريعة، تحت جنح الستر، حضرها من حضر صلاة الفجر، لكنها كانت دافئة لكونها أكرمته بالدفن.
تعليق