الصّالة
فاق عدد المتفرّجين ظهيرةَ ذلك اليوم عددَ مقاعد صالة السّينما. لم يسبق لهذا أن حدث من قبلُ. حتّى عندما عُرض "عصفور السّطح" لأوّل مرّة كان في وسعك أن تعثر على مقعد عن طريق الصّدفة. كانوا في تلك الفترة قد ألهبوا غرائزنا بصورة لا تخلو من نيّة التّعذيب إلى درجة أنّ النّاس لم تكن ترشد إلى مقعد شاغر إلى جانبهم. كان ذلك مختلفا عن تظاهرك بالنّوم أو الغفلة العميقة في الحافلة وأنت تحتكر المقعد الذي إلى جانبك. نطلق عليها اسم "الصّالة". هنا لعب "عادل إمام" و"مارلون برندو" و"صوفيا لورين" وغيرهم أدوار البطولة. كانوا يغادرون قبلنا تاركين إيّانا في حالة من الفوضى ومن تقمّص دور أشخاص لا يُصابون بالذّهول أبدا. في مدينة من الدّرجة الثّالثة كمدينتنا لا تحضر النّساء الأشرطة التي تُعرض، لهذا السّبب لم تكن المواعيد الغراميّة داخل الصّالة من تقاليدنا. مرّة كلّ ثلاث أسابيع يُعرض شريط نصف إباحيّ يغلب عليه الإيحاء. تمّ الاتّفاق بحكم العادة على أن تعلّق للإعلان عنه لافتة لفِيلم قديم بالأبيض والأسود يُرسم في أسفلها بالّلون الأحمر قلب يخترقه سهم حتّى لا يُشتَبَه في أنّهم سيعرضونه حقّا. كنّا آنذاك ندخل الصّالة ولدينا شعور بالخزي كأنّنا نصطفّ خلف طابور أمام مصرف لبيع الخمر قبالة متنزّه للعائلات. كنّا نترك النّساء في الخارج بحثا عنهنّ حيث لا واحدة منهنّ تجرؤ على مرافقتنا. وما إن نتخطّى عتبة الصّالة حتّى تصبح المرأة كائنا مُتفوّقا وشهيّا عرفناه ذات يوم قبل أن ينقرض تماما. كانت مقْتَطِعَةُ التّذاكِر بمساحيق المومس التي تضعها والنّظرة الكاشفة للنّوايا التي لدى أعوان الاستقبال في النّزل الرّخيصة هي ما يجعلنا واهمين. كانت الصّالة على نحو مَّا جزءا من حياتنا. فمجانيننا لهم أطوارهم التي هم عليها، والنّاس يركنون درّاجاتهم أمام المقاهي بذلك الشّكل، ولا يكاد سوّاق سيّارات الأجرة بعد الرّابعة مساءً يفهمون ما الذي تعنيه أسماء بعض الوجهات، وتصعب مباغتة ساعي البريد وهو يتزوّد بالبنزين لدرّاجته إلاّ لأنّ في مدينتنا صالة سينما.
طالما ضحكنا عاليا وقمعنا إحساسنا بالإثارة والدّهشة وبكينا داخل حناجرنا سرّا ونحن نشاهد شاشتها الكبيرة. أعتقد أنّ الطّفولة الحقيقيّة هي ما يعْلق بك من أسئلة خاطئة لأجوبة صحيحة. مازلتُ حتّى هذه اللّحظة أتساءل بجدّيّة إن كان عليّ أن أتصرّف كالممثّلين لو تلقّيتُ رصاصة أم أنّ الأشياء ستسير كذلك من تلقاء نفسها. الصّالة دون شكّ، هي التي أورثتني هذا الجانب الرّائع. إنّما يومها على خلاف ما عُرض من قبل كنّا على موعد مع فيلم مختلف إلى حدّ كبير. يُقال إنّ أموالا طائلة رُصدت لأجله إلى درجة أنّ النّساء لم يتمالكن أنفسهنّ عن متابعته معنا هنّ أيضا. القصّة على بساطتها تحبس الأنفاس. وحش صخريّ عملاق يأتي ليحتلّ حيّزا في قلب إحدى المدن الهادئة. الفرق بينه و بين الغوريلّا "كينغ كونغ" هو أنّه لم يقع في حبّ عذراء جميلة. كان وادعا ولا يؤذي أحدا. حتّى حين شرعوا في تحطيمه لم يغضب مثل "كينغ كونغ" ولم يحاول الهرب. ظلّ فقط جاثما يتلقّى الضّربات من كلّ صوب. كان لابدّ من إزاحته لأنّه اختار أن يشغل موقعا ثبت أنّه منجم ذهب. يُدرك ذلك من السّياق. نحوَ ساعتين لم يتسلّل خلالها الملل إلينا والآلات ذات الأذرع الطّويلة تخترق جسمَه الصّخريّ. انهالوا عليه طرقا عنيفا بكرات حديديّة موصولة بحبال فولاذيّة كأنّ الواحدة منها نوّاس خرافيّ. ثمّ جاء دور الجرّافات. نشبت فيه مخالبها وراحت تتوغّل. بدأ يتفتّت. كان كلّما تكوّم قدر من الحجارة سارعوا بنقله بعيدا حتّى لا يلتئم الوحش من جديد. فهمنا ذلك من السّياق أيضا. فقد توازنَه. حاول التشبّث بما بقي لديه من أطراف سليمة بالبنايات المجاورة. بفظاظة تخلّصت المباني من قبضته المُنهَكة. صار للمحرّكات في الأسفل دخان أسودُ. تصاعد الغبار. الوحش الصّخريّ يستسلم. المطارق الثّقيلة والأنياب الهيدروليكيّة تستمرّ في نهشه دون هوادة. في لحظة وهنت الصّالة تماما ثمّ هوت أرضا تاركة مكانها لمركز تسوّق ترجمة اسمه الحرفيّة: بطل.
فاق عدد المتفرّجين ظهيرةَ ذلك اليوم عددَ مقاعد صالة السّينما. لم يسبق لهذا أن حدث من قبلُ. حتّى عندما عُرض "عصفور السّطح" لأوّل مرّة كان في وسعك أن تعثر على مقعد عن طريق الصّدفة. كانوا في تلك الفترة قد ألهبوا غرائزنا بصورة لا تخلو من نيّة التّعذيب إلى درجة أنّ النّاس لم تكن ترشد إلى مقعد شاغر إلى جانبهم. كان ذلك مختلفا عن تظاهرك بالنّوم أو الغفلة العميقة في الحافلة وأنت تحتكر المقعد الذي إلى جانبك. نطلق عليها اسم "الصّالة". هنا لعب "عادل إمام" و"مارلون برندو" و"صوفيا لورين" وغيرهم أدوار البطولة. كانوا يغادرون قبلنا تاركين إيّانا في حالة من الفوضى ومن تقمّص دور أشخاص لا يُصابون بالذّهول أبدا. في مدينة من الدّرجة الثّالثة كمدينتنا لا تحضر النّساء الأشرطة التي تُعرض، لهذا السّبب لم تكن المواعيد الغراميّة داخل الصّالة من تقاليدنا. مرّة كلّ ثلاث أسابيع يُعرض شريط نصف إباحيّ يغلب عليه الإيحاء. تمّ الاتّفاق بحكم العادة على أن تعلّق للإعلان عنه لافتة لفِيلم قديم بالأبيض والأسود يُرسم في أسفلها بالّلون الأحمر قلب يخترقه سهم حتّى لا يُشتَبَه في أنّهم سيعرضونه حقّا. كنّا آنذاك ندخل الصّالة ولدينا شعور بالخزي كأنّنا نصطفّ خلف طابور أمام مصرف لبيع الخمر قبالة متنزّه للعائلات. كنّا نترك النّساء في الخارج بحثا عنهنّ حيث لا واحدة منهنّ تجرؤ على مرافقتنا. وما إن نتخطّى عتبة الصّالة حتّى تصبح المرأة كائنا مُتفوّقا وشهيّا عرفناه ذات يوم قبل أن ينقرض تماما. كانت مقْتَطِعَةُ التّذاكِر بمساحيق المومس التي تضعها والنّظرة الكاشفة للنّوايا التي لدى أعوان الاستقبال في النّزل الرّخيصة هي ما يجعلنا واهمين. كانت الصّالة على نحو مَّا جزءا من حياتنا. فمجانيننا لهم أطوارهم التي هم عليها، والنّاس يركنون درّاجاتهم أمام المقاهي بذلك الشّكل، ولا يكاد سوّاق سيّارات الأجرة بعد الرّابعة مساءً يفهمون ما الذي تعنيه أسماء بعض الوجهات، وتصعب مباغتة ساعي البريد وهو يتزوّد بالبنزين لدرّاجته إلاّ لأنّ في مدينتنا صالة سينما.
طالما ضحكنا عاليا وقمعنا إحساسنا بالإثارة والدّهشة وبكينا داخل حناجرنا سرّا ونحن نشاهد شاشتها الكبيرة. أعتقد أنّ الطّفولة الحقيقيّة هي ما يعْلق بك من أسئلة خاطئة لأجوبة صحيحة. مازلتُ حتّى هذه اللّحظة أتساءل بجدّيّة إن كان عليّ أن أتصرّف كالممثّلين لو تلقّيتُ رصاصة أم أنّ الأشياء ستسير كذلك من تلقاء نفسها. الصّالة دون شكّ، هي التي أورثتني هذا الجانب الرّائع. إنّما يومها على خلاف ما عُرض من قبل كنّا على موعد مع فيلم مختلف إلى حدّ كبير. يُقال إنّ أموالا طائلة رُصدت لأجله إلى درجة أنّ النّساء لم يتمالكن أنفسهنّ عن متابعته معنا هنّ أيضا. القصّة على بساطتها تحبس الأنفاس. وحش صخريّ عملاق يأتي ليحتلّ حيّزا في قلب إحدى المدن الهادئة. الفرق بينه و بين الغوريلّا "كينغ كونغ" هو أنّه لم يقع في حبّ عذراء جميلة. كان وادعا ولا يؤذي أحدا. حتّى حين شرعوا في تحطيمه لم يغضب مثل "كينغ كونغ" ولم يحاول الهرب. ظلّ فقط جاثما يتلقّى الضّربات من كلّ صوب. كان لابدّ من إزاحته لأنّه اختار أن يشغل موقعا ثبت أنّه منجم ذهب. يُدرك ذلك من السّياق. نحوَ ساعتين لم يتسلّل خلالها الملل إلينا والآلات ذات الأذرع الطّويلة تخترق جسمَه الصّخريّ. انهالوا عليه طرقا عنيفا بكرات حديديّة موصولة بحبال فولاذيّة كأنّ الواحدة منها نوّاس خرافيّ. ثمّ جاء دور الجرّافات. نشبت فيه مخالبها وراحت تتوغّل. بدأ يتفتّت. كان كلّما تكوّم قدر من الحجارة سارعوا بنقله بعيدا حتّى لا يلتئم الوحش من جديد. فهمنا ذلك من السّياق أيضا. فقد توازنَه. حاول التشبّث بما بقي لديه من أطراف سليمة بالبنايات المجاورة. بفظاظة تخلّصت المباني من قبضته المُنهَكة. صار للمحرّكات في الأسفل دخان أسودُ. تصاعد الغبار. الوحش الصّخريّ يستسلم. المطارق الثّقيلة والأنياب الهيدروليكيّة تستمرّ في نهشه دون هوادة. في لحظة وهنت الصّالة تماما ثمّ هوت أرضا تاركة مكانها لمركز تسوّق ترجمة اسمه الحرفيّة: بطل.
***
تعليق