يحبّ الأوراق، هي وقوده، هي حبه، هي كل ما يسعى إليه، يراها تفكّ عقد حياته، تشقّ السبل أمامه غير آبهة بالعوائق ، تحول بينه وبين السقوط في ظلمات العوز وجحور الفقر. رفعت منزلته في هرم بلدته. تجعل زوجته راضية عن نفسها أمام نساء البلدة، تنعم بآخر ما تفتقت به بصيرة الحرفيين من حليّ و أقمشة و أحذية. تفتح أمام أبنائه أبواب المدرسة الحرة الباسمة في وجوه براعم علية القوم، الناطقة بأساليب الحداثة والحاضنة لطفولة اليسر، تقيهم شرّ سباب أبناء الأحياء المكتظة، وألعابهم العنيفة وخصوماتهم المتناسلة.
توقيع و طابع كافيان ليتهاطل وابل الأوراق على روافد برصته، قد لا يحتاج بريقا من عينيه ولا صوتا مدويا في وجه زبنائه، فأغلبهم يدفعون وقلوبهم مطمئنة راضية، وآخرون يعرفون نهمه الشديد، وعطشه الذي لا يرويه غير طوفان المال، هو أيضا خبير بفنون الابتزاز، تجاهل الزبون ورميه على كراسي الانتظار كاف لتطويع شدّته و تأديب نشوزه، فتراه يبحث يمينا وشمالا عن وسيلة لقضاء مأربه. بعضهم لا تنفع معه كل المحاولات، لكن أخطاء تركت بلا معالجة منذ القدم في وثائقهم يكلفهم إصلاحها أضعاف ما يمكن أن يشتروا به غض الطرف عنها وتوقيعها من السيد المحترم.
تقدم بدوي بجلبابه الرثّ إلى مكتبه راجيا أن يشفع له مظهره في توقيع أوراقه بلا ضريبة، لكن السّيد ماعاد يميز بين الأخضر واليابس، فنار جشعه علا لهيبها. دمعت عيناه واستعطف الموظّفين ليتوسطوا له عند كبيرهم، فأكّدوا له أنّ ورقة واحدة تكفي لجبر كل أضراره، تقدّم قرب المكتب وأخرج محفظة جلديّة متلاشية خيوطها من جيبه، أرغم الورقة اليتيمة المطويّة المتآكلة على شمّ الهواء، واضعا إيّاها على المنضدة فانساب التوقيع على الورقة بنعومة. تقدّمت أنامل السيّد نحو الورقة النقدية يبسطها على المكتب في اشمئزاز، فتراءت له حشرة ظنّها انقرضت بأطرافها الستة تغادر مخدعها مسرعة باحثة على أقرب مخبإ تلوذ إليه. أمسكها بين أصابعه والرعشة تعصف بهدوئه، فأطبق عليها ظفري إبهاميه كما كانت تفعل أمه و هي تطارد القمل في بدنه وشعر أخته قديما. سافر عقله أعواما إلى الوراء، تذكر والده الذي تمّت تصفيته من طرف عملاء الاستعمار، لأنّه أبى أن يسلم محصوله و أراضيه، تذكر وصاياه: "يا بني، إياك والظلم، يا بنيّ كن عونا للفقراء." تذكر أمّه التي هاجرت به إلى المدينة بعد موت أخته جراء الجوع والأوبئة، تذكّر كدّها المتواصل كخادمة بيوت، حتى بدأت ملامح رجولته تظهر مع بزوغ الاستقلال، فودعت الحياة في أول يوم نال فيه مرتب وظيفته. فتح حصّالته وقدم ما جمع من المال للفقير معتذرا عن فعلته.
خرج من مكتبه وتوجه إلى شباك المصرف حيث يستقر أجره، سحب بضع ورقات، تفحّص لائحة مطالب أسرته وبدأ جولته عبر الدكاكين. عند العشاء صاحت ابنته الصغرى: "بابا ما أحلى أكلة اليوم، فأنا لم أتذوق مثلها من قبل، تستحقّ قبلة لأنّك أحضرت أجود ما في السوق".
توقيع و طابع كافيان ليتهاطل وابل الأوراق على روافد برصته، قد لا يحتاج بريقا من عينيه ولا صوتا مدويا في وجه زبنائه، فأغلبهم يدفعون وقلوبهم مطمئنة راضية، وآخرون يعرفون نهمه الشديد، وعطشه الذي لا يرويه غير طوفان المال، هو أيضا خبير بفنون الابتزاز، تجاهل الزبون ورميه على كراسي الانتظار كاف لتطويع شدّته و تأديب نشوزه، فتراه يبحث يمينا وشمالا عن وسيلة لقضاء مأربه. بعضهم لا تنفع معه كل المحاولات، لكن أخطاء تركت بلا معالجة منذ القدم في وثائقهم يكلفهم إصلاحها أضعاف ما يمكن أن يشتروا به غض الطرف عنها وتوقيعها من السيد المحترم.
تقدم بدوي بجلبابه الرثّ إلى مكتبه راجيا أن يشفع له مظهره في توقيع أوراقه بلا ضريبة، لكن السّيد ماعاد يميز بين الأخضر واليابس، فنار جشعه علا لهيبها. دمعت عيناه واستعطف الموظّفين ليتوسطوا له عند كبيرهم، فأكّدوا له أنّ ورقة واحدة تكفي لجبر كل أضراره، تقدّم قرب المكتب وأخرج محفظة جلديّة متلاشية خيوطها من جيبه، أرغم الورقة اليتيمة المطويّة المتآكلة على شمّ الهواء، واضعا إيّاها على المنضدة فانساب التوقيع على الورقة بنعومة. تقدّمت أنامل السيّد نحو الورقة النقدية يبسطها على المكتب في اشمئزاز، فتراءت له حشرة ظنّها انقرضت بأطرافها الستة تغادر مخدعها مسرعة باحثة على أقرب مخبإ تلوذ إليه. أمسكها بين أصابعه والرعشة تعصف بهدوئه، فأطبق عليها ظفري إبهاميه كما كانت تفعل أمه و هي تطارد القمل في بدنه وشعر أخته قديما. سافر عقله أعواما إلى الوراء، تذكر والده الذي تمّت تصفيته من طرف عملاء الاستعمار، لأنّه أبى أن يسلم محصوله و أراضيه، تذكر وصاياه: "يا بني، إياك والظلم، يا بنيّ كن عونا للفقراء." تذكر أمّه التي هاجرت به إلى المدينة بعد موت أخته جراء الجوع والأوبئة، تذكّر كدّها المتواصل كخادمة بيوت، حتى بدأت ملامح رجولته تظهر مع بزوغ الاستقلال، فودعت الحياة في أول يوم نال فيه مرتب وظيفته. فتح حصّالته وقدم ما جمع من المال للفقير معتذرا عن فعلته.
خرج من مكتبه وتوجه إلى شباك المصرف حيث يستقر أجره، سحب بضع ورقات، تفحّص لائحة مطالب أسرته وبدأ جولته عبر الدكاكين. عند العشاء صاحت ابنته الصغرى: "بابا ما أحلى أكلة اليوم، فأنا لم أتذوق مثلها من قبل، تستحقّ قبلة لأنّك أحضرت أجود ما في السوق".
تعليق