التابو الأخير
لم أكن أدري ، أن يظل للحنين كل هذه السطوة ، و هذا الجبروت ؛ بعد أن خفت بل اختفى إيماني بقدرته على حملي وصيانة مشاعري ، تجاه من أحب و أشتاق ؛ كم أذاقني الويلات ، حولني لأضحوكة مبكية في الليالي التي تلت غيابها ، و الأيام التي ركضت على أحزاني ، و لم تتوقف إهانته لي عند حد ، خطا بي عبر هذا الشارع الذي يسوقني الآن في غباره ، و قد حاصرني بملامحها ، أنفاسها ، رقتها ، و جنونها الذي أعشق ، و دائما ما كان يصرخ في أوردتي : هاهي هناك ، هاهي تنتظرك ، هاهو قلبها يخفق على وقع خطواتك ، إنها لك ، لم تبتعد ، لم ترحل مع الزوج ؛ كما أكدوا لك ، و كما رأيتها وودعت صورتها و ذكرياتها ، وحين صدفة ، و أنت تتسكع في أوردة الشارع ذاته ، كانت تحمل قطفتها الأولى . لحظتها .. طرت عاليا ، حملت عنها وليدها ، كأنه ولدك أنت ، احتضنته كأنك تحتضنها ، كأنك .... و حين كانت تحمله عنك ، و تبتعد ببسمتها المعشوقة ، كانت الدموع تحجب المشهد ، و الأشواق تعربد باتزانك ، و تستصرخ جموحك ، بينما عيناك تهيمان ، حثيثا بحثا عن طيور خوفك ، و قلقك من الغبار الذي قد يحط على شالها أو سيرتها ، ومن بعد جابهته و سددت أمامه كل الطرق ، كان الشارع التابو الذي تمسكت به ، و لم تحاول قهره و تحطيمه ؛ كما هي طبيعتك ! الآن لم يعد تابو أي تابو ، من المحتم أن يحول بينك ، و بين الشروع ، فيما تحب ، و تشتاق ، وخطاك تترنح برأس متهالك ، غزته السنون ببأسها و جبروتها ، لكنها لم تستطع أن تقتلع ذاك الحنين ، و لا تلك الذكريات التي حفرت عميقا في ملامحك ، كأنها بوصلة غريبة ، توقفك وقت تحب ، و تستدرجك إلي الخطوة ، التي حملت منها شيئا ، و لم يغادرك ؛ رغم اختلاف الزمان والمكان . هاهنا كان الجسر يتوسط الشارع ، الجسر الذي يصلك بها ، محاطا بالغيطان من كل ناحية ، و غيطان الدفلى داخلك ، شاهدة على أشواقك ، لرؤيتها و عبورك بها ، أو عبورها بك ! تدور حول نفسك مسحورا ، متطيرا ، و حمامات الصدر تهدل ، تبوح لك بما يعتمل بينها ، من رغبات و حنين ، و ألم مقداره ، خمسون ألف سنة في ساعة ، و ربما أقل ، و أنت تلح ، و تستدرج ما بك ؛ ليأتي بها رغما و طواعية ! أتذكر حين أيقظوك من سباتك العميقة ، وأنبأوك بانتحارها ، غلقوا عليك الأبواب و النوافذ حتى لاتتسرب منهم ، يرحل بك الجنون إلي موت يشبهه ، ما كنت لتتورع عنه ، أو ترتضي بديلا عن اللحاق بها ، صرخت ، دققت رأسك في الحوائط ، حتى إذا نال منك الهوج ، كانوا أمامك يضعفون ، ينقلون لك ما وقع ، وما كان ، و أنها بسبعة أرواح ، فقط بعض رضوض و قليل من كسور بسيطة . لم تهدأ ، و لم يتراجعوا عن سجنك ، خوفا منك و عليك ! لم يفتح أبواب سجنك إلاها ، أتت تتعكز ، تتحرك بصعوبة ، تلقي بين أحضانك بأوجاعها ، و حكاية على قدر روعتها ، كانت بساطتها ، أطلقتها كضحكة شهية ترعرع على شفتيها ، يضمها قلبها الصاخب ، وحزنك الفائر الموجع ، و دلها الحلو ، الذي كان يتهم صخبك فيها ، بقتلها و القضاء عليها! أهزمها الوقت مثلما فعل معك ؟ أنال منها مثلما نال منك؟ لم هي الآن هنا في الشارع ؟ لم الحنين يرجفني ، كأني الفتى الذي خلفته هنا ، منذ السنين البكر ، و القلب البكر ، و الحلم البكر ، لا فرق سوى اللون الذي نقش الرأس ، و هتك ملامح الوجه ، وعضعضها ! أيها البارع في كسري أهي بخير ؟ أم أنك تذهب بي في رحلة النهاية إلي مصير مجهول ؟ ما كل هذه اللوعة و الحرقة ؟ اهدأ أيها النزق ، اهدأ ، لا تتسرب من اتزانك ، إياك و الحمق ، ما كان يليق قديما ، لا يليق بك الآن ! أفقت من تهويمي على شيء ، أغلق الطريق أمام خطوي . لم أنتبه للبيت الذي شهدني شابا ، و كان فيه فرحي و حزني ، كأنني مازلت تحت سطوة تابو آخر ، لم أتخلص كلية منه ، حتى استوقفت رغما ، و إذا بسيدة تغادر سيارة ، كانت هي الشيء الذي أغلق سبيلي ، تتجه نحوي ببسمة لم تكن جديدة عليّ ، كأنها لتلميذة من تلميذاتي ، ولكن لا ، هي أكبر من أن تكون تلميذتي ، هذه الملامح أكاد أعرفها ، بنفس البسمة الحلوة ، تمد يدها لتحتضن يدي ، بينما يلاحقها رجل تعدى الأربعين ! كانت هي ، و كان هو الطفل ، الذي حملته ذات حزن و فراق ! أكاد لا أرى ، لا أفهم ، لا أنطق ، أصبت بالبله ؛ فكل ماهو جائز ، ليس بجائز ، و كل ما يحيط بي ، محض وهم ، و ربما صدى ، للحنين الذي يزحف في كل كياني ! عبرت من تلك الغيبوبة الإجبارية على صوتها : حملك هذا الرجل طفلا ، و كاد يخطفني بل يخطفنا معا ؛ لولا قبضة الأقدار التي لا تعترف ، إلا بنفسها و قدرتها ! ضمني الرجل برفق ، قبل رأسي المترنح ، بينما كانت نفس البسمة تزداد إشراقا وجمالا ، و دمعة وقور تسكن الأهداب ، حملتها عنها ؛ لتكون مدفأتي في ليالي العمر القادم !
تعليق