تهرول الأمواج نحوي مبتسمة تحمل إليّ سكون الليل، حمرة الغروب تغريني بالإبحار، أمامي خلاء من ماء بلا نهاية قريبة، أتأمل هبوط قرص الشمس في بحر الظلمات، أيقنت أنها لا تزال ساطعة متوهجة هناك على الضفة الأخرى، تمنيت مركبة تسري بي في ثوان معدودات لأقوم بنزهة مشتاق فأصعد الصروح العالية عساني أطلع على مدافن التاريخ لأوقظ جذوة الفضول القابعة في أعماق أضرحته، تهيأت لي سفينة "خشخاش البحر" تعب ألسنة الماء محملة بحلي "إلدورادو"، طفت ببصري والليل يسدل ستائره، تراءت لي أضواء المدينة من بضعة أميال تتلألأ كما نجمات السماء، ما أحلى المكوث هنا بعيدا عن ضوضاء المدينة التي بات ليلها كنهارها! غير أن قشعريرة الخوف تقضّ راحتي، فالمكان مستوحش وأطياف السواد تجتاح جماليته، خرير البحر استنفر شبقه وأضحت نغمته موصومة بغلظة ، أحدّق في الأمواج إن كانت لا تزال على طبيعتها، أم أنها تعاضدت ومخاوفي مستعدة لالتهام المدينة التي بتّ أراها آمنة ساكنة، قمت من مجلسي و تقدمت خطواتي ، طارت أوهامي واستردّت روحي عذريتها وأطلق لساني همهمة استهزاء فامتطيت فورة عزيمتي.
ركبت دراجتي بعد تحريرها من عربة سيارتي واستشرفت البحر بأنوارها، وجدته يجنح للسلم و الهدوء، على ظهر راحلتي بدأت أمخر عبابه في نشوة عارمة، فعلى سرج الفرس تتفتق مواهب الفرسان، وفي بذلة الجندية تسكن روح الإقدام، هأنذا أسير سير المغامرين وأجوب ميدان البطولة، تأسّيا بك يا ابن البوغاز حين غزوت ربوع الأرض. مرّت ساعة و ساعة فثلاث غاب فيها طعم الملل وانهارت قلاع الخوف، بزغ القمر فأرسل ضياءه الكاشفة، و انقشعت غيوم الظلام التي كانت تحاصرني، وراقني هذا الانبساط الهائل، أحسست نشوة الانتصار، أوقفت دراجتي لأستمتع بهمس الأسماك، أتلمس فضولها المرافق لرحلتي، تراها تعتربني غريبا اخترق حرماتها فتتلاحق لاستقصاء الأخبار مرتبة خطط هجومها؟ أم هي راقصة طروبة مسبشرة بعودة روح الاستكشاف والمغامرة إلى الضفة النائمة منذ أجيال؟
"ليلك مبارك أيها السندباد!"
هكذا قالت امرأة شابة رسم القمر على وجهها حروف حسن بادية، صعدت هكذا فجأة من المحيط بلا سابق إنذار، فخفق قلبي رهبة من هذه المباغتة، فتمتمت بعض كلمات غير واضحة ونفسي بين حولقة واستعاذة، فانطلق لسانها:"الملاّح لا يسكنه الفزع، بل ينقضّ على غنيمته" قلت لها محاولا إظهار رباطة جأشي:" محقة أنت يا ساكنة البحر، عفوا يا حورية " فردت:"ألا تنتشلني من هذا اليمّ، فأطرافي تتجمد" أجبتها:" كان بودّي لكن درّاجتي هذه كما ترين سرجها قصير، بالكاد يحمل شخصين، ولن تكون مطية مريحة لك، فذيلك وزعنفاتك ربما .." ضحكت فوثبت لتجلس خلفي بسرعة خاطفة. اختلست نظرة لطرفها الذي يلامس رجلي، كانت قدما لينة مقلمة الأظافر، همست قرب أذني:" الآن عرفت أنّني لست حورية بل بنت تراب مثلك، أنا أقدم نفسي لك هدية، جارية..."
أحاول ابتلاع ريقي الجاف والبحث عن رد يليق بهذا المخلوق الغريب الذي يسند ظهري، في محاولة يائسة لإنقاذ نفسي من ورطة الرّحلات، وطيش المغامرات، فواصلت:" سأكون لك نعم الخادمة، فلست بحاجة لأكثر من مكان آمن من العيون." ازداد قلقي فكلما كشفت بعضا من غطائها تفاقمت هواجسي وسبحت روحي في بحر الشّكوك، وتضاعف يقيني أنني في لجة حقيقية. فلما تمنع علي الجواب أردفت:"تراكم لا تجيبون من أجاركم؟ تراكم فقدتم كل القيم النبيلة؟" تشجعت عندما استنهضت روحي الغافية:"لا لم نفقد أيّا منها يا سيدتي، لكن لست بحاجة لخادمة، وزوجتي ستظن بي الظنون ..." فردت:" الحرص جميل، لكن بإمكانك أن تعقد عليّ، فتكون النهاية سعيدة" تغيرت نبرة صوتي في اعتراض: "ما هذا الكلام الجاف، أتحسبين الزواج مجرد مزحة، ربما جئت من زمن سحيق، من أنت ؟" أجابت و صوتها فيه نبرة حزن: " أنا فتاة من هذه الأرض السمراء، أينما ولّيت وجهي ذلت كرامتي، فلا الغريب قدّرني، ولا القريب اعترف بأهليتي، يتهمونني بالجنون كلما غرّد لساني ترنيمة الفطرة، فالمصير جلد وجفاء وترهيب لكنّني صابرة على الأذى، فربي يحميني من بطشهم." استغربت من الفصام الذي تعيشه الصبية، أتكون روحا فقدت السكينة في أعماق التراب وفي علياء السماء فاستوطنت البحر، تراها امرأة سقطت في عرض المحيط من قمر سيار، عدت إليها سائلا: "لماذا يطاردونك ؟" ردت :" يستغلون جمالي و به يزينون صنعتهم، أمنح شرعية لتسلطهم بألحاني العذبة ، يريدونني شعارا مليحا يخفي قبحهم ."
رجعت إلى الخلف وقادت الدرّاجة بسرعة جنونية حتى أخافني تهورها، خطفت نظرة إلى شاشة دراجتي، إنها متجهة إلى الشرق، في لحظات وجدت نفسي بجانب سيارتي. فتحت بابها فسبقتني إلى الجلوس، كانت خفيفة رشيقة، أضأت المصباح لأراها عن قرب، كانت مجرد امرأة عادية، هممت بفتح المذياع فأغلقته ملحّة: "أريد منك ردّا مقنعا وإلا سلمت نفسي، هل في هذه الأرض موطن آمن، قلت لها والحجرجة تعتري صوتي: "الشرطة في كل مكان" قالت: " ظننت الأمور تغيرت هنا، أتذكر يوم أسرني ذلك الغريب، كنا في رحلة إلى مزار الفلاح وعلى ضفاف نهر الحب، تعلقت بزرقة عيونه، فأغواني بنبله و وسامته، بضحكته و سمو بيانه، بعلمه وسلطانه، تمالكني القنوط من تعافي أسرتي من جبروت الحاجة وعشيرتي من سطوة القيود فقلت ، لم لا أرحل فأرض الله واسعة؟ هكذا ذهبت راجية ألقا، و حبّا في تحقيق رفعة لنفسي وأهلي وعشيرتي. وصلت بلاده فافتتن بي قومه وكدت أصبح أميرة حقيقية، أصابت الغيرة نساءهم فبدأن يحكن المؤامرات ضدي، خوفا من فقدان أزواجهن، عندها زهد فيّ من تعلق قلبي بهواه، فكرّ في إرجاعي لأهلي بثمن باهظ، ولما رفضني أهلي وتبرأوا مني، أهداني صانع الأبراج إلى ابن عمه الآتي من وراء المحيط، وكانت مهمتي استقبال الضيوف و البسمة في وجوههم، هناك بقيت دهرا حتى سئمت من تزيين كذبهم الفاضح، واستبدادهم الساطع، وأغلالهم التي لا تبور فقلت أهرب ربما أجد شريفا في أرضي، يأويني ويمنع عني قهر الغربة وعيش التسكع."
نظرت إليها وهي تذرف دمعة، فقلت لها: " ما بال العالم لا يرحم البسطاء، سأتحمل كل شيء من أجلك يا فتاتي التّائبة"
عند ذاك، فتحت الباب، قائلة: "يا سليل قومي ويا رفيق النضال، قومي لن يغفروا زلتي، وهؤلاء سيظلمونني أكثر وأكثر ، لكن سأتحمل، فربما أعود يوما وقد تحسنت الأحوال بتضحيات الرجال."
نزلت من السيارة كي أمنعها عن الرحيل، لكنني لم أجد لها أثرا.
أوقدت سيجارتي، جلست وراء المقود، تفحصت مكان جلوسها، عبقها لا يزال يداعب أنفي، صوتها لا يزال يغرد في أذني، لكن أين ذهبت؟ لست أدري.
تدور العجلات و صوت رخيم ينشد "يا نسني و انت على بالي و.... " تتأرجح نفسي مع رقصات الأوتار، شعور بين حزن وفخر وفرح وغموض يحشرني في سكرة عميقة ...
ركنت سيارتي في ساحة بيتي حين سمعت نبأ يشير إلى انقطاع التيار الكهربائي في غرب المحيط الأطلسي بعد الغروب دام ثلاثين دقيقة لأسباب مجهولة وانتشرت خلاله شائعات كثيرة ........
انتهت.
ركبت دراجتي بعد تحريرها من عربة سيارتي واستشرفت البحر بأنوارها، وجدته يجنح للسلم و الهدوء، على ظهر راحلتي بدأت أمخر عبابه في نشوة عارمة، فعلى سرج الفرس تتفتق مواهب الفرسان، وفي بذلة الجندية تسكن روح الإقدام، هأنذا أسير سير المغامرين وأجوب ميدان البطولة، تأسّيا بك يا ابن البوغاز حين غزوت ربوع الأرض. مرّت ساعة و ساعة فثلاث غاب فيها طعم الملل وانهارت قلاع الخوف، بزغ القمر فأرسل ضياءه الكاشفة، و انقشعت غيوم الظلام التي كانت تحاصرني، وراقني هذا الانبساط الهائل، أحسست نشوة الانتصار، أوقفت دراجتي لأستمتع بهمس الأسماك، أتلمس فضولها المرافق لرحلتي، تراها تعتربني غريبا اخترق حرماتها فتتلاحق لاستقصاء الأخبار مرتبة خطط هجومها؟ أم هي راقصة طروبة مسبشرة بعودة روح الاستكشاف والمغامرة إلى الضفة النائمة منذ أجيال؟
"ليلك مبارك أيها السندباد!"
هكذا قالت امرأة شابة رسم القمر على وجهها حروف حسن بادية، صعدت هكذا فجأة من المحيط بلا سابق إنذار، فخفق قلبي رهبة من هذه المباغتة، فتمتمت بعض كلمات غير واضحة ونفسي بين حولقة واستعاذة، فانطلق لسانها:"الملاّح لا يسكنه الفزع، بل ينقضّ على غنيمته" قلت لها محاولا إظهار رباطة جأشي:" محقة أنت يا ساكنة البحر، عفوا يا حورية " فردت:"ألا تنتشلني من هذا اليمّ، فأطرافي تتجمد" أجبتها:" كان بودّي لكن درّاجتي هذه كما ترين سرجها قصير، بالكاد يحمل شخصين، ولن تكون مطية مريحة لك، فذيلك وزعنفاتك ربما .." ضحكت فوثبت لتجلس خلفي بسرعة خاطفة. اختلست نظرة لطرفها الذي يلامس رجلي، كانت قدما لينة مقلمة الأظافر، همست قرب أذني:" الآن عرفت أنّني لست حورية بل بنت تراب مثلك، أنا أقدم نفسي لك هدية، جارية..."
أحاول ابتلاع ريقي الجاف والبحث عن رد يليق بهذا المخلوق الغريب الذي يسند ظهري، في محاولة يائسة لإنقاذ نفسي من ورطة الرّحلات، وطيش المغامرات، فواصلت:" سأكون لك نعم الخادمة، فلست بحاجة لأكثر من مكان آمن من العيون." ازداد قلقي فكلما كشفت بعضا من غطائها تفاقمت هواجسي وسبحت روحي في بحر الشّكوك، وتضاعف يقيني أنني في لجة حقيقية. فلما تمنع علي الجواب أردفت:"تراكم لا تجيبون من أجاركم؟ تراكم فقدتم كل القيم النبيلة؟" تشجعت عندما استنهضت روحي الغافية:"لا لم نفقد أيّا منها يا سيدتي، لكن لست بحاجة لخادمة، وزوجتي ستظن بي الظنون ..." فردت:" الحرص جميل، لكن بإمكانك أن تعقد عليّ، فتكون النهاية سعيدة" تغيرت نبرة صوتي في اعتراض: "ما هذا الكلام الجاف، أتحسبين الزواج مجرد مزحة، ربما جئت من زمن سحيق، من أنت ؟" أجابت و صوتها فيه نبرة حزن: " أنا فتاة من هذه الأرض السمراء، أينما ولّيت وجهي ذلت كرامتي، فلا الغريب قدّرني، ولا القريب اعترف بأهليتي، يتهمونني بالجنون كلما غرّد لساني ترنيمة الفطرة، فالمصير جلد وجفاء وترهيب لكنّني صابرة على الأذى، فربي يحميني من بطشهم." استغربت من الفصام الذي تعيشه الصبية، أتكون روحا فقدت السكينة في أعماق التراب وفي علياء السماء فاستوطنت البحر، تراها امرأة سقطت في عرض المحيط من قمر سيار، عدت إليها سائلا: "لماذا يطاردونك ؟" ردت :" يستغلون جمالي و به يزينون صنعتهم، أمنح شرعية لتسلطهم بألحاني العذبة ، يريدونني شعارا مليحا يخفي قبحهم ."
رجعت إلى الخلف وقادت الدرّاجة بسرعة جنونية حتى أخافني تهورها، خطفت نظرة إلى شاشة دراجتي، إنها متجهة إلى الشرق، في لحظات وجدت نفسي بجانب سيارتي. فتحت بابها فسبقتني إلى الجلوس، كانت خفيفة رشيقة، أضأت المصباح لأراها عن قرب، كانت مجرد امرأة عادية، هممت بفتح المذياع فأغلقته ملحّة: "أريد منك ردّا مقنعا وإلا سلمت نفسي، هل في هذه الأرض موطن آمن، قلت لها والحجرجة تعتري صوتي: "الشرطة في كل مكان" قالت: " ظننت الأمور تغيرت هنا، أتذكر يوم أسرني ذلك الغريب، كنا في رحلة إلى مزار الفلاح وعلى ضفاف نهر الحب، تعلقت بزرقة عيونه، فأغواني بنبله و وسامته، بضحكته و سمو بيانه، بعلمه وسلطانه، تمالكني القنوط من تعافي أسرتي من جبروت الحاجة وعشيرتي من سطوة القيود فقلت ، لم لا أرحل فأرض الله واسعة؟ هكذا ذهبت راجية ألقا، و حبّا في تحقيق رفعة لنفسي وأهلي وعشيرتي. وصلت بلاده فافتتن بي قومه وكدت أصبح أميرة حقيقية، أصابت الغيرة نساءهم فبدأن يحكن المؤامرات ضدي، خوفا من فقدان أزواجهن، عندها زهد فيّ من تعلق قلبي بهواه، فكرّ في إرجاعي لأهلي بثمن باهظ، ولما رفضني أهلي وتبرأوا مني، أهداني صانع الأبراج إلى ابن عمه الآتي من وراء المحيط، وكانت مهمتي استقبال الضيوف و البسمة في وجوههم، هناك بقيت دهرا حتى سئمت من تزيين كذبهم الفاضح، واستبدادهم الساطع، وأغلالهم التي لا تبور فقلت أهرب ربما أجد شريفا في أرضي، يأويني ويمنع عني قهر الغربة وعيش التسكع."
نظرت إليها وهي تذرف دمعة، فقلت لها: " ما بال العالم لا يرحم البسطاء، سأتحمل كل شيء من أجلك يا فتاتي التّائبة"
عند ذاك، فتحت الباب، قائلة: "يا سليل قومي ويا رفيق النضال، قومي لن يغفروا زلتي، وهؤلاء سيظلمونني أكثر وأكثر ، لكن سأتحمل، فربما أعود يوما وقد تحسنت الأحوال بتضحيات الرجال."
نزلت من السيارة كي أمنعها عن الرحيل، لكنني لم أجد لها أثرا.
أوقدت سيجارتي، جلست وراء المقود، تفحصت مكان جلوسها، عبقها لا يزال يداعب أنفي، صوتها لا يزال يغرد في أذني، لكن أين ذهبت؟ لست أدري.
تدور العجلات و صوت رخيم ينشد "يا نسني و انت على بالي و.... " تتأرجح نفسي مع رقصات الأوتار، شعور بين حزن وفخر وفرح وغموض يحشرني في سكرة عميقة ...
ركنت سيارتي في ساحة بيتي حين سمعت نبأ يشير إلى انقطاع التيار الكهربائي في غرب المحيط الأطلسي بعد الغروب دام ثلاثين دقيقة لأسباب مجهولة وانتشرت خلاله شائعات كثيرة ........
انتهت.
تعليق