الورقة الطائشة.
حملته خطاه المتسارعة في اتجاه المدرسة ؛ في اتجاه النور الذي تسطع به الشمس الدافئة في فصل الخريف ؛ محفظته على ظهره ؛ محشوة برغيف مبلل بزبد طبيعي من صنع يدي أمه المتعبتين ، وقلم أزرق في حجم السبابة ؛ وطبشورة متصدعة الأطراف.وبعد الدرس حملته خطاه المتسارعة لخفة حركته كأنه على عجل من أمره ، وهو يعلم أن شيئا ما في أعماقه يلهبه حماس الجري المتواصل بعد انتشال المعلومة من معين الدرس ؛والفكاك من قيد الحجرات ...الآن باشر ألعابك يا عبد المغيث ولا تفكر في أتعابك ..هكذا تحدثه نفسه فينطلق إلى لعبته المصنوعة من القش والعيدان ،ثم يتفقد أعشاش الحمام التي تتدحرج فوق الأغصان عند هبوب الريح ..
لكنه لم يدر أنه كان على موعد مع عمه الشيخ عبد الرحمان الذي تلقفه عند الباب عندما لاح ظله خلف الستار؛ . كان جالسا القرفساء ؛بجسده الفارع؛ ومنكبيه العريضين؛ وشعره الأشعث؛ ولحيته التي وخطها الشيب .
كان في انتظاره لحل اللغز المحير للرموز ؛ فنادى عليه بأعلى صوته الجهورالذي ترتعش له الفرائص:" لم تأخرت اليوم ؟"..ظل عبد المغيث متسمرا في مكانه شارد الذهن لهول المفاجأة ؛ فأمطره عبد الرحمان بوابل من الأسئلة ؛كان يلتقط منها ما لا يفقده صوابه عندما يعتصر ذاكرته فيبوح له بالإجابة .
لم يقو عبد الرحمان على لملمة جراحات انتظاره فألقى بالكيس البلاستيكي بين يدي عبد المغيث مقتحما إياه بنظرات حادة قائلا: " فك عقد الكيس بإحكام واسحب من حاوياته ورقة صفراء كتب في أسفلها اسم الباشا أحمد وتوقيعه ؛ وفي أعللاها أربعون هكتارا في ملك الجماعة.بخط مضغوط
اضطربت أصابعه الغظة عندما شرع في حل العقد ؛ وغازلت أنامله كل الأوراق المبعثرة ؛فسحب الورقة المطوية طي السنين الخالدة ،و حدق فيها بإمعان ؛ فغمرته نشوة البطولة ، ثم رفع رأسه دون أن ينبس بكلمة . كان يعلم أن المعركة لم تنته بعد ؛ وأن الخوض في تهجي الحروف مرحلة قادمة بإعصارها المدمر. ظلت نظرات عبد الرحمان تقتحمه كالنبال القاتلة التي تخترق الدروع الواقية . مط الرقة بين يديه الصغيرتين وانحرف بها اتجاه الضوء المنبعث من الكوة؛ وتهجى الحروف بصوت تلاعبت به الزفرات " أربـ ـــ عـ ــون هـ ــكــ ــتـــ ــارا بـ ــــ جـ ـمـ ـاعــة العريــ ــش..توقـــ ـــيـــ ــع الــ ـبـــ اشـ ـا أحـ ـمـ ــد "
فصاح عبد الرحمان : هادي هي هي...!!
استرجع أنفاسه المتعبة وألجم دقات قلبه الطائشة ؛ فعاد إلى هدوءه وأخذ الورقة بين يديه ثم أعاد طيها طي السجل للكتاب ، و دسها في جيب سرواله (القندريسي ) . علم الطفل أنه أنهى مهمته بحذر شديد، كأنه يمشي على الصراط ؛فانطلق يعدو خلف سرب الحمام الذي كان في انتظاره؛ متجاهلا صوت عمه الذي أقسم بأغلظ الأيمان أنه سيسترجع الأرض المفقودة .
ظلت الورقة تتردد بين جيوب سراويل عبد الرحمان طوال السنين ؛وظل عبد الرحمان يحلف بأغلظ الأيمان أنه سيسترجع الأرض ولما أوشك على الموت أوصى بإعادة كتابة حروفها بعود الزعفران وتحنيطها في المكان المناسب كي لا تصاب بمكروه.لكنها ظلت تصرخ بأعلى صوتها المبحوح عندما تبعثرت الأفكار بعد وفاته ؛ وأضحت الأرض مرتعا لأنغام السراب وبقيت أصابع الطفل تحمل بصمات متاعب الحل والعقد.
رحم الله الفقيد الشيخ ع الرحمان.
تعليق