تأملات مسن
شرب القهوة بلا سكر على رشفات بطيئة شاعرا برائحتها متغلغلة في اعماقه واسترسل في أفكاره , يأخذه الحنين لأحداث مضت ,, تلاشت في غياهب الماضي فصارت خيال يلاعب الذاكرة . حرره طعمها المر , ولو للحظة من تشتت أفكاره . لكنه عندما نظر الى زجاج نافذة المقهى المبلل بقطرات المطر الناعمة , سرت رجفة مفاجئة من اعلى رأسه الى اخمص قدمه . لقد رأى وجهه غير مألوفا لديه , كانت التجاعيد قد حفرت فيه وكأنها نقوش قد نقشت بدقة مخيفة . وضع كلتا يديه على مقبض عكازته مفكرا بالسبعين سنة التي تسربت من عمره , وذهبت ادراج الرياح , تلاشت لتصبح مجرد صور باهته لكنها مؤثره , تعكسها كل هذه التجاعيد والشحوب التي رسمت على وجهه , ليكون مثلما هو الان رجلا لا يشعر بالحاضر لكنه يعيش في فوضى الذاكرة العائمة بين الاحداث القريبة والبعيدة , بين دمـــــار الحروب القديمة التي عاشها واستنشق بارود قنابلها رغم انفه , وبين الانفجارات الحديثة للمفخخات الموبوءة التي تحول الأسواق الى ركام هائل من الجثث الممزقة . احس بالاختناق , و بثقل على صدره , متذكرا اصغر أبنائه في ذلك الصباح المشؤوم , عندما كان ذاهبا لمقر عمله في سوق الجملة . لقد كان ماسكا حسابات اكبر تاجر جملة في السوق . وخلال عمله الأربعة سنوات صار محل ثقة الجميع , لأمانته وحسن خلقه . كان صباحا مختلفا , لقد اخبرته امه انها قد رأت مناما سيء الطالع ليلة البارحة وطلبت منه ان لا يذهب للعمل , لكنه قبل رأسها طالبا منها ان تدعو له . حاول ان يتذكر , من اخبره ؟ من اخذه الى المستشفى ليرى ابنه هناك ممدا على السرير مغسولا بدمائه و ساقاه مقطعة . كانت الردهة عباره عن فوضى , صراخ الجرحى وبكاء الأمهات و صياح الاباء والابناء . لكنه رغم كل شيء , استطاع تحمل نظرات ابنه التي كانت تعتصر قلبه , نظرات فيها الكثير من الخوف والكثير من الألم والكثير من الحزن والكثير من المرارة , مرارة لا يمكن ان يحس بها الا من حوله الألم الى دمعة في عيون الأمهات (ابي امي لا استطيع تحمل الألم ... لا استطيع ) صرخ الابن وهو يحتضر . كانت الام منهارة بين اقدامه المقطعة تقبلهما بجنون , لم ينتظر منهما جوابا . فقد اخذه الألم الى الغياب الأزلي تاركا خلفه فراغا ثقيلا, ثقيلا جدا .
ضغط بكلتا يديه على قبضة عكازه , محاولا ان لا يبكي . لكنه لم يستطيع , كانت الدموع قد نزلت تغسل تعرجات وجهه الجاف . راقب قطرات دموعه وهي تتلاشى في الهواء راسمة في فضاء ذاكرته وجه اكبر ابنائه , فرحته الأولى , وحزنه العميق . وكأنما يضعه المه واشتياقه امام مرآة صافيه , لكن عينيه المنهكة تخشى النظر , وتشفق من رؤية وجهه الباكي . ورغم كل هذه المتاهة . لم يزل تحت تأثير خمرة الحب المفقودة مع كل سنة مضت عميقا للداخل المنسي , مع كل شهر راحل في غياهب المجهول , مع كل اسبوع انتهى وصار حلما غامضا , مع كل يوم تلاشى غبارا يرسم صور هلامية تترك الاثر العميق في هذا القلب , الذي لا يزال يبكي كلما تذكر صباح ذلك اليوم حينما كان اكبر ابنائه واقفا امام المرآة , يرتب قيافته العسكرية , مهيأ نفسه للالتحاق هناك , في صحراء الخليج العربي المتوهج . حيث قطعات الجيش هناك , في انتظار لحظة اصدار الاوامر لمحاربة جيوش الثلاثين دولة , القادمين من كل مكان , تقودهم اكبر دولة في العالم لقتال دولة واحدة ... ( لا .... لن تذهب ) صاحت الام ووقفت امام باب غرفته محاولة ان تمنعه , رغم علمها انها لن تمنعه ابدا . لن تستطيع ان تفعل ذلك . لم تكن مجنونة كي تفعل ذلك . وليست تافهة كي لا تقدر عاقبة ان فعلت ذلك . لقد كانت في حيرة من امرها . فخوفها على ابنها جعلها تصرخ رافضة ذهابه هناك , الى بوابة الموت . وان منعته حقا فلن تجني سوى الخذلان لابنها , جاعلة منه جنديا هاربا , مطاردا من قبل رجال الطاغية الذين لا يعرفون سوى التبختر ببزاتهم العسكرية ومسدساتهم اللماعة , مستعدين بأية لحظة ان يدوسوا بأحذيتهم كل من لا يطع اوامرهم , وكل من لا يقدم لهم الولاء الاعمى. انهارت على الأرض باكية بعد ان هزمها الخوف . انحنى عليها , امسكها من كتفيها , مقبلا رأسها , ماسحا دموعها , قائلا لها ( اماه ادعو لي ان اعود سالما ). لكنه لم يعود . كانت قد عرفت انه لن يعود , بمجرد ان نظرت في عيونه . لذلك كظمت حزنها وبكائها اياما وليال . وصارت كل يوم تجلس ساعات بجانب نافذة غرفتها المطلة على الخارج , تدعو وتبتهل الى الله .
مناف بن مسلم
البصرة ...2017
شرب القهوة بلا سكر على رشفات بطيئة شاعرا برائحتها متغلغلة في اعماقه واسترسل في أفكاره , يأخذه الحنين لأحداث مضت ,, تلاشت في غياهب الماضي فصارت خيال يلاعب الذاكرة . حرره طعمها المر , ولو للحظة من تشتت أفكاره . لكنه عندما نظر الى زجاج نافذة المقهى المبلل بقطرات المطر الناعمة , سرت رجفة مفاجئة من اعلى رأسه الى اخمص قدمه . لقد رأى وجهه غير مألوفا لديه , كانت التجاعيد قد حفرت فيه وكأنها نقوش قد نقشت بدقة مخيفة . وضع كلتا يديه على مقبض عكازته مفكرا بالسبعين سنة التي تسربت من عمره , وذهبت ادراج الرياح , تلاشت لتصبح مجرد صور باهته لكنها مؤثره , تعكسها كل هذه التجاعيد والشحوب التي رسمت على وجهه , ليكون مثلما هو الان رجلا لا يشعر بالحاضر لكنه يعيش في فوضى الذاكرة العائمة بين الاحداث القريبة والبعيدة , بين دمـــــار الحروب القديمة التي عاشها واستنشق بارود قنابلها رغم انفه , وبين الانفجارات الحديثة للمفخخات الموبوءة التي تحول الأسواق الى ركام هائل من الجثث الممزقة . احس بالاختناق , و بثقل على صدره , متذكرا اصغر أبنائه في ذلك الصباح المشؤوم , عندما كان ذاهبا لمقر عمله في سوق الجملة . لقد كان ماسكا حسابات اكبر تاجر جملة في السوق . وخلال عمله الأربعة سنوات صار محل ثقة الجميع , لأمانته وحسن خلقه . كان صباحا مختلفا , لقد اخبرته امه انها قد رأت مناما سيء الطالع ليلة البارحة وطلبت منه ان لا يذهب للعمل , لكنه قبل رأسها طالبا منها ان تدعو له . حاول ان يتذكر , من اخبره ؟ من اخذه الى المستشفى ليرى ابنه هناك ممدا على السرير مغسولا بدمائه و ساقاه مقطعة . كانت الردهة عباره عن فوضى , صراخ الجرحى وبكاء الأمهات و صياح الاباء والابناء . لكنه رغم كل شيء , استطاع تحمل نظرات ابنه التي كانت تعتصر قلبه , نظرات فيها الكثير من الخوف والكثير من الألم والكثير من الحزن والكثير من المرارة , مرارة لا يمكن ان يحس بها الا من حوله الألم الى دمعة في عيون الأمهات (ابي امي لا استطيع تحمل الألم ... لا استطيع ) صرخ الابن وهو يحتضر . كانت الام منهارة بين اقدامه المقطعة تقبلهما بجنون , لم ينتظر منهما جوابا . فقد اخذه الألم الى الغياب الأزلي تاركا خلفه فراغا ثقيلا, ثقيلا جدا .
ضغط بكلتا يديه على قبضة عكازه , محاولا ان لا يبكي . لكنه لم يستطيع , كانت الدموع قد نزلت تغسل تعرجات وجهه الجاف . راقب قطرات دموعه وهي تتلاشى في الهواء راسمة في فضاء ذاكرته وجه اكبر ابنائه , فرحته الأولى , وحزنه العميق . وكأنما يضعه المه واشتياقه امام مرآة صافيه , لكن عينيه المنهكة تخشى النظر , وتشفق من رؤية وجهه الباكي . ورغم كل هذه المتاهة . لم يزل تحت تأثير خمرة الحب المفقودة مع كل سنة مضت عميقا للداخل المنسي , مع كل شهر راحل في غياهب المجهول , مع كل اسبوع انتهى وصار حلما غامضا , مع كل يوم تلاشى غبارا يرسم صور هلامية تترك الاثر العميق في هذا القلب , الذي لا يزال يبكي كلما تذكر صباح ذلك اليوم حينما كان اكبر ابنائه واقفا امام المرآة , يرتب قيافته العسكرية , مهيأ نفسه للالتحاق هناك , في صحراء الخليج العربي المتوهج . حيث قطعات الجيش هناك , في انتظار لحظة اصدار الاوامر لمحاربة جيوش الثلاثين دولة , القادمين من كل مكان , تقودهم اكبر دولة في العالم لقتال دولة واحدة ... ( لا .... لن تذهب ) صاحت الام ووقفت امام باب غرفته محاولة ان تمنعه , رغم علمها انها لن تمنعه ابدا . لن تستطيع ان تفعل ذلك . لم تكن مجنونة كي تفعل ذلك . وليست تافهة كي لا تقدر عاقبة ان فعلت ذلك . لقد كانت في حيرة من امرها . فخوفها على ابنها جعلها تصرخ رافضة ذهابه هناك , الى بوابة الموت . وان منعته حقا فلن تجني سوى الخذلان لابنها , جاعلة منه جنديا هاربا , مطاردا من قبل رجال الطاغية الذين لا يعرفون سوى التبختر ببزاتهم العسكرية ومسدساتهم اللماعة , مستعدين بأية لحظة ان يدوسوا بأحذيتهم كل من لا يطع اوامرهم , وكل من لا يقدم لهم الولاء الاعمى. انهارت على الأرض باكية بعد ان هزمها الخوف . انحنى عليها , امسكها من كتفيها , مقبلا رأسها , ماسحا دموعها , قائلا لها ( اماه ادعو لي ان اعود سالما ). لكنه لم يعود . كانت قد عرفت انه لن يعود , بمجرد ان نظرت في عيونه . لذلك كظمت حزنها وبكائها اياما وليال . وصارت كل يوم تجلس ساعات بجانب نافذة غرفتها المطلة على الخارج , تدعو وتبتهل الى الله .
مناف بن مسلم
البصرة ...2017
تعليق