صاحبة السر!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    صاحبة السر!

    صاحبة السر!

    لم يكن الهرب من بيته الذي عاش فيه منذ تفتحت عينيه على برودة النظرات، سوى من تحجر المآقي داخل العيون القادحة بالعقاب المستديم، وعذابات قاساها على أيدي أولياء أمره، للبحث عن حياة كريمة تنقذه من الضيم.
    حمل اسماله وآخر كسرة خبز يسد صرير امعائه الخاوية بها، ناولته اياه امه التي ماعرف غيرها في الحياة وماتفتقت ذاكرته عن وجه يبتسم بحنو حين يراه، ذكرياته جلها مغموسة بنجيع دمعاته الصغيرة وتنهيدة تخرج من بين أضلعه المصابة بكسر لم يشف منه، فاعوج الضلع الأصغر وظلت رئتيه بالكاد تدخل الأوكسجين كي يعيش.
    الشوارع المقفرة تأخذه بين برد الشتاء وصقيع الوجوه التي تلتقيه على الأرصفة القاسيه، وكلمات السباب المنفرة وهو يتلقاها من عمال الرصيف البحري ملأت رأسه بالقهر فانزوى يقضم كسرة الخبز وينتحب.
    صاح به أحد الرجال غريبي الشكل
    - أنت، أتحمل أمتعتي مقابل عشاء والقليل من النقود.
    - أجل سيدي الكريم أفعل، أين تريد بها؟
    - سنأخذ سيارة اجره، وسنستأجر بيتا لي لأني أنوي البقاء هنا اسبوعا فقط، يستحسن أن تستأجره باسمك لأني لاأحب مقابلة السماسرة، وسأكرمك على هذا.
    - بكل سرور.
    لم يكن صعبا بزمن الخراب تأجير بيت بمواصفات رديئة، وثمن باهض نسبيا، وليس صعبا أن يمرر السمسار مسألة عمر الفتى خاصة انه ادعى أن البيت لأبيه وله، وأنهما غريبان عن المنطقة، فشعر بارتياح يغمره وتنفس الصعداء.
    أشعل المدفأة وصار يلملم الأغراض المتبعثرة من المستأجر السابق، ثم خرج لجلب طعام العشاء من مطعم الناصية للرجل الغريب وله، ولم ينس المرور على صاحب الحانة وشراء زجاجة ويسكي دون أن يسأله صاحب الحانة عن عمره ولم يهتم حتى برؤية وجهه، فقط ناوله القنينة وقبض الثمن.
    تمطى الليل ينشر حلكته، والريح تصفر معلنة بدء ليلية شتائية استثنائيه، والهدوء يخيم على الشارع المقفر الذي خلت أغلب عواميده من نور فوانيسها وشحت بالضوء من انكسار أجنحتها العاكسة، فبدا وكأنه خلا من الساكنين على جانبيه ، والغريب يصفر بشفتيه لحنا جنائزيا لم يسمعه الفتى بحياته، فشعر بقشعريرة تعتري بدنه، لكنه مع ذلك كان مرتاحا أنه وجد بيتا يضمه بعد أن يئس ليوم كامل وهو يتنقل بين الأزقة والأرصفة المليئة بالصراخ والشتائم، حتى أخذته سنة النوم، وغفى بوضع القرفصاء مثل قط صغير متكور قرب المدفأة.
    صحى مذعورا ويد الغريب تنتزع عنه أسماله، فصاح مرتعبا:
    - مابك سيدي !؟
    - لاشيء تعال قربي لنتدفأ، مثلا!
    - أشكرك سيدي أنا مرتاح هكذا.
    لوى الغريب يده واقترب بفمه الغليظ منه، فسال اللعاب على رقبة الفتى مما جعله يصرخ ويحاول عبثا التملص من الغريب بأقصى مايستطيع، لكن يد الغريب أطبقت على خصر الفتى وشدته نحوه.
    لم يستطع الفتى البكاء، ولا ليَ الذراعين التي أمسكت به والفرار من شرك لئيم نصبه الغريب، وأكرة الباب المغلق شنقت اختياره الهرب منها، وبفطرته المغموسة بأتراحه أحس بفداحة موقفه، جال بنظراته بخوف يائس مأسور في المكان فوقعت عينيه على السكين المستدق النصل على الطاولة المتأرجحة لشدة فوضى الحركة،استل السكين وانفلت متملصا يعارك ضعف جسده، ودقها بعنق الغريب فانزلقت بالوريد المنتفخ سريعا، وخرج راكضا والخوف يطارده، إلا أنه استدرك الوضع وعاد للداخل ينظر للغريب فوجده بلا حراك، وبقعة الدماء المحيطة برأسه الكبير تشير للنزف الحاد.
    لم يكن صعبا عليه حفر حفرة عميقة تكفي جثة الغريب، وهو الذي عاش حياة أصعب الف مرة من عمره الغض، ومااهتم لثقل الجثة وهو يجرها بشق النفس نحو مدفنها، ورئته المتعبة تصدر الهسيس كاحتراق الحطب في النار، وأهال التراب عليها.
    نقل شجرة النارنج اليانعة من مكانها القصي في الحديقة، زرعها فوق القبر، وبحنق بصق عليه
    مسح العرق المنصب من جبهته بكمه الغارق بالدماء، والجدية تغلب على ملامح وجهه الصغير، وهمهم قائلا:
    - حسنا، منذ اليوم هذا بيتي الجديد، وهذه حديقتي، ووحدها شجرة النارنج هذه ستعرف سري.
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق
  • حسن لشهب
    أديب وكاتب
    • 10-08-2014
    • 654

    #2
    لحظة مرعبة من حياة طفولة ينهش براءتها الفقر و تعبث بها ايادي المكبوتين والشواذ.
    قصة صادمة ولكنها تنقل صورة من واقعنا المؤلم.
    شكرا لإثارة الموضوع بهذه القوة .
    تحيتي لإبداعك.

    تعليق

    • عائده محمد نادر
      عضو الملتقى
      • 18-10-2008
      • 12843

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة حسن لشهب مشاهدة المشاركة
      لحظة مرعبة من حياة طفولة ينهش براءتها الفقر و تعبث بها ايادي المكبوتين والشواذ.
      قصة صادمة ولكنها تنقل صورة من واقعنا المؤلم.
      شكرا لإثارة الموضوع بهذه القوة .
      تحيتي لإبداعك.
      وماأكثر اللحظات المرعبة في حياة الأطفال اليوم
      بين تشريد وجوع وظلمة حالكة طالت النفوس قبل الأماكن
      واقعنا أمر من المرارة وأكثر قسوة منه هي الأنفس المجرمة حتى العظم
      وحقيقة أسمع كل يوم مايشيب له الولدان وتقشعر له الأبدان فقبل يومين
      عم يغتصب ابنة أخيه ويقتلها
      وآخر يغتصب طفلة ويرمي جثتها في مجاري الصرف الصحي
      وقريب يتفق مع أمثاله ويغتصبون طفلا ويقتلونه بالحجارة .. ولك أن تتصور الاجرام
      وقلبي لم يعد يحتمل فعلا
      كن بخير عزيزي
      شتائل ورد لك
      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        و المهزومون أكثر ..
        ربما هنا رؤية خاصة للمقاومة
        مقدرة على قهر الظلم و الانتصار للحياة .. من صغير درج على النقاء و البراءة
        أعجبتني كثيرا و ربما تماهت مع نصي الذي أصررت أن يكون عنوانا لمجموعتي " قرن غزال " من سنين طويلة


        محبتي يا ساقية الحروف من ظمأ و جفاف !
        sigpic

        تعليق

        • رويده العاني
          أديب وكاتب
          • 08-05-2010
          • 225

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
          صاحبة السر!

          هرب من بيته الذي عاش فيه منذ تفتحت عينيه على برودة النظرات، وتحجر المآقي داخل العيون القادحة بالعقاب المستديم
          حمل اسماله وآخر كسرة خبز ناولته اياه امه التي ماعرف غيرها في الحياة يوما، وبقايا ذكريات مغموسة بنجيع دمعاته الصغيرة وتنهيدة تخرج من بين أضلعه المصابة بكسر لم يشف منه، فاعوج الضلع الأصغر وظلت رئتيه بالكاد تدخل الأوكسجين لرئتيه.
          الشوارع المقفرة تأخذه بين برد الشتاء وصقيع الوجوه التي تلتقيه على الأرصفة القاسيه، وكلمات السباب المنفرة وهو يتلقاها من عمال الرصيف البحري ملأت رأسه بالقهر فانزوى يقضم كسرة الخبز وينتحب.
          صاح به أحد الرجال غريبي الشكل
          - أنت، أتحمل أمتعتي مقابل عشاء والقليل من النقود.
          - أجل سيدي الكريم أفعل، أين تريد بها؟
          - سنأخذ سيارة اجره، وسنستأجر بيتا لي لأني أنوي البقاء هنا اسبوعا فقط، يستحسن أن تستأجره باسمك لأني لاأحب مقابلة السماسرة، وسأكرمك على هذا.
          - بكل سرور.
          لم يكن صعبا تأجير بيت بمواصفات رديئة وثمن باهض نسبيا، وليس صعبا أن يمرر السمسار مسألة عمر الفتى خاصة انه ادعى أن البيت لأبيه وله، وأنهما غريبان عن المنطقة.
          أشعل المدفأة وصار يلملم الأغراض المتبعثرة من المستأجر السابق، ثم خرج لجلب طعام العشاء من مطعم الناصية للرجل الغريب وله، ولم ينس المرور على صاحب الحانة وشراء زجاجة ويسكي دون أن يسأله صاحب الحانة عن عمره ولم يهتم حتى برؤية وجهه، فقط ناوله القنينة وقبض الثمن.
          الليل شديد الحلكة، والريح تصفر معلنة بدء ليلية شتائية استثنائيه، والهدوء يخيم على الشارع وكأنه خلا من الساكنين، والغريب يصفر بشفتيه لحنا جنائزيا لم يسمعه الفتى بحياته، فشعر بقشعريرة تعتري بدنه، لكنه مع ذلك كان مرتاحا أنه وجد بيتا يضمه بعد أن يئس ليوم كامل وهو يتنقل بين الأزقة والأرصفة المليئة بالصراخ والشتائم، حتى أخذته سنة النوم، وغفى بوضع القرفصاء مثل قط صغير متكورا قرب المدفأة.
          صحى مذعورا ويد الغريب تنتزع عنه أسماله، فصاح مرتعبا:
          - مابك سيدي !؟
          - لاشيء تعال قربي لنتدفأ، مثلا!
          - أشكرك سيدي أنا مرتاح هكذا.
          لوى الغريب يده واقترب بفمه الغليظ منه، فسال اللعاب على رقبة الفتى مما جعله يصرخ ويحاول عبثا التملص من الغريب بأقصى مايستطيع، لكن يد الغريب أطبقت على خصر الفتى وشدته نحوه.
          لم يستطع الفتى البكاء، ولا ليَ الذراعين التي أمسكت به أو الفرار والباب مغلق وأكرته تخلو من المفتاح، وبالفطرة أحس بفداحة موقفه، جال بنظراته بالمكان فوقعت عينيه على السكين المستدق النصل المستكينة على الطاولة المتأرجحة من شدة الحركة، ودقها بعنق الغريب فانزلقت بالوريد المنتفخ سريعا، وخرج راكضا والخوف يطارده، إلا أنه استدرك الوضع وعاد للداخل ينظر للغريب فوجده بلا حراك، وبقعة الدماء المحيطة برأسه الكبير تشير للنزف الحاد.
          لم يكن صعبا عليه حفر حفرة عميقة تكفي جثة الغريب، وهو الذي عاش حياة أصعب الف مرة من عمره الغض، ومااهتم لثقل الجثة وهو يجرها بشق النفس نحو مدفنها، ورئته المتعبة تصدر الهسيس كاحتراق الحطب في النار، وأهال التراب عليها.
          نقل شجرة النارنج اليانعة من مكانها القصي، وزرعها فوق القبر، ثم مسح العرق المنصب من جبهته بكمه الغارق بالدماء والجدية تغلب على ملامح وجهه الصغير، وهمهم قائلا:
          - حسنا، منذ اليوم هذا بيتي الجديد، وهذه حديقتي، ووحدها شجرة النارنج ستعرف سري.


          مساء الخير سيدتي الفاضله
          أكثر جملة جذبتني بالنص..
          والغريب يصفر بشفتيه لحنا جنائزيا لم يسمعه الفتى بحياته
          جعلتني أتخيل كم كان اللحن غريبا !!
          تخيلت كيف أقشعر شعر الصبي ولم يجرأ على ان يلتفت
          ..
          نهاية صادمة ,وغير متوقعه !
          وفعلا أنها وحدها شجرة النارنج ستعرف ذلك ..

          تحياتي
          رويده العاني
          حتماً اليك, حتى بعد الفراق ..!

          تعليق

          • عائده محمد نادر
            عضو الملتقى
            • 18-10-2008
            • 12843

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
            و المهزومون أكثر ..
            ربما هنا رؤية خاصة للمقاومة
            مقدرة على قهر الظلم و الانتصار للحياة .. من صغير درج على النقاء و البراءة
            أعجبتني كثيرا و ربما تماهت مع نصي الذي أصررت أن يكون عنوانا لمجموعتي " قرن غزال " من سنين طويلة


            محبتي يا ساقية الحروف من ظمأ و جفاف !
            للمقاومة أوجه وأشكال
            ورد الظلم أحدها
            والتصدي للمعتدي
            والمحتل
            والسارق
            والمجرم
            والفاسد ومأكثرهم ربيع
            ماأكثر الوجوه التي تحتل حياتنا لتحيلها الى جحيم مطلق
            وليس أقل من قتل المغتصب
            فهو غريب بكل الأحوال لأنه ليس منا
            أليس الشذوذ غريبا أيضا
            كما المحتل غريب
            ولو كان الأمر بيدي لشمرت عن السواعد قسريا لدحر المغتصب بكل أشكاله
            وسأوصيهم بزرع الأرض محبة وأشجارا وياسمين
            كن بخير يالغلا فأنت الربيع الذي تزهو به فصول السنه
            وباقات الغاردينيا لعينيك
            الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

            تعليق

            • عائده محمد نادر
              عضو الملتقى
              • 18-10-2008
              • 12843

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة رويده العاني مشاهدة المشاركة
              مساء الخير سيدتي الفاضله
              أكثر جملة جذبتني بالنص..
              والغريب يصفر بشفتيه لحنا جنائزيا لم يسمعه الفتى بحياته
              جعلتني أتخيل كم كان اللحن غريبا !!
              تخيلت كيف أقشعر شعر الصبي ولم يجرأ على ان يلتفت
              ..
              نهاية صادمة ,وغير متوقعه !
              وفعلا أنها وحدها شجرة النارنج ستعرف ذلك ..

              تحياتي
              رويده العاني
              رودي غاليتي
              شكرا لأنك كنت هنا بنوته
              وأيضا تساهمين ولو قليلا حين تقرأين لغيرك من الأديبات والأدباء
              وأحثك على المزيد كي تقوى رؤاك وتتفتح آفاقك
              فكلما قرأت أكثر وكتبت رؤيتك كان ذلك أفضل صدقيني
              لأنك وببساطة ستعرفين اين مكمن الضعف وأين كانت مواقع القوة وستتجنبينها
              كوني بخير بنوتتي
              غابات الغاردينيا لعينيك الجميلتين
              الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

              تعليق

              يعمل...
              X