ذات خروج..
لا تلتمسي لي الأعذار؛ فأنا بلا عذر..
لا تختلقي لي الحجج؛ فلم أقتنع بواحدة منها..
تعبّين القهوة أقداحاً وتسهرين لتكتبي عن تلك البائسات أمثالك ثم تمسحين ما يسيل من كحلٍ تحت عينيك وتلطخين به وجهك مع الدموع حزناً عليهن.
كثيراً ما تختارين لي صفحات مطوّلة لتلك الأدوار العقيمة داخل قصصك. إما أُمّاً يقتات عليها المرض ويشرب، وإما أن أكون امرأة وحيدة بلا خلف أو سند وإما مجنونة في مصحٍ نفسي!
كم ضجرتُ من تلك الأدوار!
كم سقمت تلك الحكايات البائسة من نسيج خيالك المتهرئ!
سأخرجُ ذات غفلة منك وأشق هذه الورقة المصفرة بمقصٍ كنت قد خبأته من قصة قديمة، رميتيني في قعرها.
سأخرج من النص لأبحث عن ذات أخرى في جنبات هذا البيت.. ذات مستقلة عن خيوط (الماريونت) التي تلعبين بها.
...
تجرّدتْ من ردائها الورقي ونثرتْ بضع كلمات كانت عالقة بشعرها الأشعث.. ما يزال بعض الحبر الأسود عالقاً تحت عينيها الجامحتين بلا صبر، اللامعتين بلهفة الخروج.
تجلسُ إلى جانب الكاتبة التي غطت في النوم منذ ساعة.. تلملم شعرها المنثور على المكتب.
في خلسة، تمتد أصابعها لسحب الورقة، وأخذت تقرأ..
...
" لم تستطع الاحتمال أكثر من ذلك! حملت حقيبتها وتركت مفتاحها في الباب وأخذت تصرخ: "لن أعود إليه ثانية !!" لا تعرف أين وجهتها، لا تفكر بأقاربها؛ فحتما سيعيدونها إليه! ستذهب إلى مكان بعيد لا يعرفها فيه أحد، تود أن تكون بمفردها إنها العزلة صاحبتها وأليفتها دومًا ..."
ترفع حاجبها الأيمن في استنكار..
الدور العقيم ذاته، سأكون المغلوبة على أمري مجدداً. ما بال هذه المؤلفة؟!
استرسلتْ في القراءة..
"كان المطر يهمي. صارت أميرة نفسها ذلك اليوم، راحت تفكر في أشياء مجنونة لم تكن تتخيل أن تفعلها يوما.. أن تتناول فطورها في الطريق وهي تسير.. أن تعتلي سور البحر لا تعبأ بالمارة وتجري، أو أن تفكر في ركوب زورق خشبي على الموج يتهادى .. تلفه المياه من كل النواحي كجزيرة خشبية معزولة في الماء تحط عليه النوارس يتراقص بها وتترنح!"
هل ستتغير نهاية القصة أخيراً؟ ربما ستكتب لي ما يليق بي ولو لمرةٍ واحدة.. قصة بلا نهاية خانقة وإنما نهاية تبدأ عندها بدايات طازجة بلا أسقف أو جدران.
أكملتْ..
"وصلت إلى الرصيف، نزلت من الزورق. من بعيد رأت المفتاح يتدلّى من يده.. المفتاح !!.. صاح بها قائلاً: "هل يصح لامرأة أن تنسى مفتاح بيتها وتخرج؟. أخذها من ذراعها ونظراتها مشتتة بين الزورق والواقفين الناظرين إليها في استياء واشمئزاز!"
تلتقط القلم بحذر وعيناها تتوجس ارتجافة جفني الكاتبة، أخذت تشطب وتحذف وتعيد الكتابة من جديد.
مزّقت الأوراق الأصلية وألقتها في سلة المهملات.
عليّ إكمال دوري وتغيير النهاية..
على أطراف أصابعها تصعد السلم الداخلي للمنزل.. لابد أنّ هذه هي غرفة نوم الكاتبة.
لابد أن هذا هو زوجها المسكين الذي ملّ انتظارها فظل يتقلّب ويتكور على نفسه مفتقداً وليفته في طيات السرير.
من علبة السجائر سحبت واحدة وأشعلتها، لدقائق كانت تصارع سعلات قوية كافية لإرباك هدأة ظلام تخللته بعدها أفعوانيات مسترسلة وانبجاسات دخانية كثيفة. إلى جانبه تدثّرت وراحت يداها تزحف نحوه لتطوقه بذراعيها.. التفت إليها يعارك بُسُط النوم الممتدة على عينيه، ليراها تتثنّى أمامه على غير عادتها يكاد ينكرها لولا ابتسامتها وملامحها المحفورة في رأسه..
تحيّر من استغراق عينيها الذي يُرغّب ببراعة في التغلغل إليها.. حيازتها والولوج إلى عالم من أحرف متطايرة تدعو إلى اقتناصها وفك طلاسمها.. تجرّدها من كل شيء سوى اكتسائها بدفئه لأول مرة..
كيف تأتّى لها زجّه إلى الإبحار داخل زورقها الورقي المتفسخ؟ ودون إرادةٍ منه غاب في باطنها لتسحبه أمواجها الفائرة المنتفخة وتبتلعه في دوامة تمتصه حتى النخاع..
كانت ترنو إليه فتراه هيكلاً وما يزال الحبر الأسود عالقاً تحت عينيها.
دينا نبيل
تعليق