في مقهى شعبي جلست أغزل ثوب فضولي كما هي عادتي، فمرّة أنسجه بخيوط إصرار وترصّد، لأحشر بصري في تعقّب ما يمارسه المارّة بعضهم على بعض من فنون التحرّش والتّضييق والنصب، فأحسّ متعة التّشفي والفرحة حين أشاهد من يزاول نيابة عنّي خبثا تخمّر في أحشائي، وتعتري راحة عارمة دواخلي ونشوة النّصر تنتابني بعد أن غذّيت نهم الأحقاد بشحنات سلبية ذائبة في بشاعة ما التهمته عيناي. مرّة أخرى أعمل على تفصيل جلباب الواعظ فتفتل مقلتاي خيوطا نورانية يستجيب لها لساني هامسا حوقلة استنكار لما تقدم عليه الأيادي من لمس وصفع، والعيون من غمز وخيانة، والأفواه من سب وتقبيل، حتى الأنوف لا تفوتها فراستي فأكاد أشتم ما تمتدّ إليه، سواء أكان عطرا فواحا أو حشرا غبيا في غير موضعه.
اليوم أحس نفسي على غير طبيعتي، فلا غبطة زائدة ولا إحساس الأخ الأكبر، فقط أنظر متأمّلا المشهد، فالكراسي على عادتها ممتلئة بالأجساد والعيون تمارس رياضتها المفضلة متراقصة بين المشاهد على قارعة الشارع، و أصناف بشرية بين الذهاب والإياب، الدّراجات يتصاعد أزيزها والسيارات والحافلات تطلق مزاميرها والشاحنات تنفث دخانها الكثيف، كان الجو غائما وقهوتي فقدت سخونتها، لم تمهلني ما يكفي من الوقت للانتشاء بحلاوة حرارتها، بدأت الأمطار تتهاطل فأخذت الحركة في التسارع لبرهة، لكن سرعان ما تباطأ الإيقاع وابتلعت المحلاّت الأسراب الهادرة، المقهى أيضا بات مهجورا إلا من بعض الزبائن الذين خيّم عليهم الصمت لكأن الجميع يعيش معي لحظة التأمل تلك.
رأيت امرأة خمسينية بجلبابها المبلل تتحاشى برك الماء في الشارع فتعتلي الرصيف أحيانا و تتجرأ أحيانا متوسطة الطريق، مستغلة فسحة قلّة المركبات. مرّ بجانبها شاب يمتطي دراجة نارية دفعها بيده دفعة خفيفة كادت تسقطه من على راحلته التي انعرجت به يمينا ثم يسارا، ليوقفها بعد جهد في بركة الماء، ولسانه يسترسل سبّا وشتما. انخلع قلبه عندما التفت ليجدها جثة هامدة وسط الطريق وبعض المتطفلين يهرولون جهتها محاولين استنهاض همّتها المتراخية، كانت الأمطار تزداد غزارة عندما لحقت بالمتحلقين حول المرأة، نظرت إلى عينيها اللتين تفتّحتا، فحدجتني بنظرة ماكرة قبل أن يزيغ نظرها ولسان الشاب يلومها بافتعال الصرع، وتماديها في التمثيل قصد ابتزازه حينما يحضر رجال الأمن والسلامة الطرقية.
ازدادت الأمطار قساوة و هبّت ريح عاصفة بينما لاتزال المرأة ممدّدة على البساط الأسود، تتجنبها العربات كما سيول المياه الجارية، تفضل واحد من رجال الحسنات فغطاها بغطاء بلاستيكي يقيها رعونة الأمطار التي أجبرت فضولنا على التلاشي، بينما صاحب الدراجة يتحين الفرصة للهروب من هذا المأزق الذي يراه مفتعلا.
عندما وصلت إلى مقعدي لم أستطع تبيّن المرأة مع اشتداد الضباب و تقلّص مدى الرّؤية بينما بعض السّيارات أطلقت أنوارها، بغتة ظهرت شاحنة ممتدة تتطاير المياه من جانبيها وعواؤها المفزع يثير ما تبقى من فضولي، رأيت شبح المرأة ينتفض بعنف، تعثرت خطوتها فحاولت التخلص من الغطاء الملتف حول رجلها بحركة بهلوانية ويداها ممتدتان لإرغام الموت على تغيير مساره، لكن أطنان الحديد أبت إلا أن تعصر ليونتها وتحطم صلابتها، تألّمت عيناي من ذلك المشهد الرّهيب، أحكمت أغلاقهما وجبهتي على المائدة، حين رجعت بهما إلى المكان، غابت الشاحنة و لم أر للدّراجي أثرا لكن حمرة الماء كانت بادية.
طفت بعينيّ المتعبتين المقهي الّذي تخلص من آخر زبنائه، قدماي تبتعدان عن المكان وسياط المياه المتدفقة من الأعالي تنهال على جسدي بينما تحاصرني ظلمة خفيفة يزداد سوادها مع توالي الخطوات.
اليوم أحس نفسي على غير طبيعتي، فلا غبطة زائدة ولا إحساس الأخ الأكبر، فقط أنظر متأمّلا المشهد، فالكراسي على عادتها ممتلئة بالأجساد والعيون تمارس رياضتها المفضلة متراقصة بين المشاهد على قارعة الشارع، و أصناف بشرية بين الذهاب والإياب، الدّراجات يتصاعد أزيزها والسيارات والحافلات تطلق مزاميرها والشاحنات تنفث دخانها الكثيف، كان الجو غائما وقهوتي فقدت سخونتها، لم تمهلني ما يكفي من الوقت للانتشاء بحلاوة حرارتها، بدأت الأمطار تتهاطل فأخذت الحركة في التسارع لبرهة، لكن سرعان ما تباطأ الإيقاع وابتلعت المحلاّت الأسراب الهادرة، المقهى أيضا بات مهجورا إلا من بعض الزبائن الذين خيّم عليهم الصمت لكأن الجميع يعيش معي لحظة التأمل تلك.
رأيت امرأة خمسينية بجلبابها المبلل تتحاشى برك الماء في الشارع فتعتلي الرصيف أحيانا و تتجرأ أحيانا متوسطة الطريق، مستغلة فسحة قلّة المركبات. مرّ بجانبها شاب يمتطي دراجة نارية دفعها بيده دفعة خفيفة كادت تسقطه من على راحلته التي انعرجت به يمينا ثم يسارا، ليوقفها بعد جهد في بركة الماء، ولسانه يسترسل سبّا وشتما. انخلع قلبه عندما التفت ليجدها جثة هامدة وسط الطريق وبعض المتطفلين يهرولون جهتها محاولين استنهاض همّتها المتراخية، كانت الأمطار تزداد غزارة عندما لحقت بالمتحلقين حول المرأة، نظرت إلى عينيها اللتين تفتّحتا، فحدجتني بنظرة ماكرة قبل أن يزيغ نظرها ولسان الشاب يلومها بافتعال الصرع، وتماديها في التمثيل قصد ابتزازه حينما يحضر رجال الأمن والسلامة الطرقية.
ازدادت الأمطار قساوة و هبّت ريح عاصفة بينما لاتزال المرأة ممدّدة على البساط الأسود، تتجنبها العربات كما سيول المياه الجارية، تفضل واحد من رجال الحسنات فغطاها بغطاء بلاستيكي يقيها رعونة الأمطار التي أجبرت فضولنا على التلاشي، بينما صاحب الدراجة يتحين الفرصة للهروب من هذا المأزق الذي يراه مفتعلا.
عندما وصلت إلى مقعدي لم أستطع تبيّن المرأة مع اشتداد الضباب و تقلّص مدى الرّؤية بينما بعض السّيارات أطلقت أنوارها، بغتة ظهرت شاحنة ممتدة تتطاير المياه من جانبيها وعواؤها المفزع يثير ما تبقى من فضولي، رأيت شبح المرأة ينتفض بعنف، تعثرت خطوتها فحاولت التخلص من الغطاء الملتف حول رجلها بحركة بهلوانية ويداها ممتدتان لإرغام الموت على تغيير مساره، لكن أطنان الحديد أبت إلا أن تعصر ليونتها وتحطم صلابتها، تألّمت عيناي من ذلك المشهد الرّهيب، أحكمت أغلاقهما وجبهتي على المائدة، حين رجعت بهما إلى المكان، غابت الشاحنة و لم أر للدّراجي أثرا لكن حمرة الماء كانت بادية.
طفت بعينيّ المتعبتين المقهي الّذي تخلص من آخر زبنائه، قدماي تبتعدان عن المكان وسياط المياه المتدفقة من الأعالي تنهال على جسدي بينما تحاصرني ظلمة خفيفة يزداد سوادها مع توالي الخطوات.
تعليق