تخيلوا معي هدير خطوتين وهما تمشيان معًا دون تحديد نقطة البدء التي بقيت خلفهما ظلا غافيا..
أقول لم تحدداها لأن نقاط البدء لن تبدو جليةً أبدا لمن أراد أن يقتفي آثار خطواتنا ،ووجدها ضبابية..
وهي التي يجب أن تكون دائما واضحَة المعالم والرؤى ..حتى وإن لم نوقعها عن قناعةٍ..ورضا..
نعود الآن إلى الخطوتين..فهذه تمشي لترسم لها نقطةَ بدءٍ ، والأخرى تقفوها أثرا ..أو تحذو حذوها بخط معلوم..
لكن قبل أن تصل الخطوةُ الأولى نقطةَ بدئها على مشارف الشهرة مثلا..
تنزلق إلى ما قد يقابل كلمة شهرة ..ولنقل حفرة على سبيل التجانس، والتقابل..
بينما تمشي الخطوةُ الثانية في ثبات قدَري، ولا تحاول أبدا الالتفات لسقوط الأولى ..
التي وقَّـعتْ ملامحَ النهاية - قسرا - قبل أن تدرج نقطة البدء..
لماذا برأيكم ..؟؟!!!
سؤال مرير أجابتني عنه ، كما ستجيبكم اللوحات التالية....
*******
في سنواتٍ قليلةٍ خَلَتْ أقيمتْ بعضُ المعارضِ الفنية بمدينتنا الرافلة بثياب عُرسها دائما ،وكنا جميعا كفنانين بقاعة كبرى ..
وقد لفَتتْ نظري لوحاتٌ تجمهر الضيوفُ حولها ..وسبق لي وأن تأملتُها جيدا قبل وصول صاحبها ..
لكنني صراحةً ما استطعتُ أن أُخرجَ شيئا ذا بال من حدائقها الجرداء ..!!
وقلت في نفسي : ربما مازلتُ بعيدةً عن قطار الحداثة ..لأنني ممن يحبون التخلف كثيرا عن المحطات الضبابية ..
حتى لا أركب قطارا لا أعرف له نقطة بدءٍ ..فقد يرميني ضجيجُه بمجاهل النهايات..
قلت :..انتظرت حضور الرسام لأستمع من بعيد لبعض شروحاته ..أو بالأحرى لسفسطته التي كم استعصى عليّ فك شفراتها..
لأنها ما كانت أبدا تحمل أي خيطٍ رفيع قد يراهُ قلبي قبل ناظري..!!
فلقد كانت وللأسف كحجارة (تسقط من علِ)
رغم أن الناس كانوا يستمعون إليه بشغفٍ شديد ، ويلمسون تلك اللوحات المؤطرة بأغلى ما يجْلبُ الأنظار..
فسألتني ابنتي حينها : .. عمّا تعبر هذه اللوحات..؟
قلت بمرارة ، واستغراب :..لم أفهم شيئا حتى الساعة...!
وانتظرتُ إلى أن انفضَّ الضيوف من حوله ،وما كانوا لينفضُّوا لولا أجراس الطعام..
ثم تقدمتُ منه مشيرة إلى إحدى الرسومات الهاربِ بياضُها من سوادِها..
من فضلك سيدي ماذا تعني هذه اللوحة ..؟؟!!
قال بكل فخر : إنها هرمٌ بحتٌ من أهرامات الفن التجريدي..
قلت : ما رأيتها كذلك أبدا.. !!!..
وقبل أن يكمل حديثه تذكر أن معرضي يقابل معرضه مباشرة فقال :
يا سيدتي تأملي جيدا ..فهذه اللوحة أكبر من كل الشروحات.. !!
ويجب أن يمتلك قارئها شعورا عاليا جدا بالفن التجريدي حتى يفهمَها ،ويلجَ عوالمَها المبهمة..
لم أضفْ شيئا وانصرفتُ ألوك بعض غصصي المتوالية تباعا ، إذْ يبدو أن تلك الرسومات أكبر من أن أفهمها فعلا ..
كما لم أفهم أشياء كثيرة غيرها ،وأنا لا أحبّ المجهول أبدا ..لأنني تعودت على المعلوم الذي يُحدثني بياضُه صمتا ،لأفهمه قبل أن تشرحَه سفسطةُ اللسان ..
إذْ وحدها الأنامل النابضة صدقا من تستطيع أن تذرف ما بالقلب ناطقا دون حروف مُنمقة ..
فعلى بعد خطواتٍ من تجمّعنا الثقافي ..أقول على بعد خطوات يعني خارج نطاق تلك المعارض الفنية المنمّقة ، كانت هناك لوحات رُسمت بالفحم فقط ..بعيدا عن بهرجة الألوان الصارخة ، ورُصفتْ على الأرض أوراقا مبعثرة يؤطرها صاحبُها ببعض الحصى ، حتى لا تتبع الريح لخفة وزنها..
وما كل ما خفّ وزنه قلّ شأنُه كما قد يظن بعضٌ..فصاحب تلك النفائس كان يضعها كعيّنة لمن يريد رسم نفسه مقابل بعض الدنانير التي لا يمكن أن تكفيه لقوت يومه،وقد عبثتْ بملامحه يدُ السنين ليزداد شحوبا.. إذ يستحيل على من يراه أن يحدد عمره ،لأن وجوهَنا دائما لا تبوح بحقيقة أعمارنا ..فقد تزيدنا بعضُ السنوات حزنا.. كما قد تُحذف بعض السنوات سعادةً ..والنتيجة واحدة دائما ..فأوراقنا إن حان موعدُ سقوطها من شجرة العمر لا يمكن أن تؤخرَها نضارتُها ،أو ذبولُها عن السقوط
في وقتها المعلوم ، وساعتها المحددة ..
أعود لذلك الرسام الذي يبدو لي وكأنه قد احترقَ من الداخل قبل أن ترسو مراكب المشيب الموحشة على بحار محياه الذابل ..
لقد كنتُ وحتى الساعة كلما مررتُ بذلك المكان قبل أن يستهويني جمالُ أوراقه المبعثرة ..أتأمل أولا حذاءه المرتق بكل ألوان الخيوط ..
وإذا ما سألتُه عن أي رسم من رسوماته يجيبني بصمتٍ مرير عليَّ أن أفهمَ ما نُضّد بخيطه الرفيع من خرزاتٍ موجعةٍ ، كانت دائما أثقل من أن
ينفثها زفرةً، أو يرصفها عبارةً منمقةً ،لأفهمَ جيدا بأن السواد إذا ما وقّـّع على البياض يستحيل على أي قارىء مهما بدا بسيطا ألا يفهم كنهَ ذلك التوقيع ..
فكم تمزقُ قلوبَنا بعضُ النظرات وهي تشدُّنا إليها – وسط الزحام - بخيوط رفيعة لنرى دموعَها بكل وضوح ..ويمر أمامها غيرُنا ولا ينتبه لها وهي تنوءُ بحمل
جراحها الغائرة كلما صفعها تنكرُ الشوارعِ ،والمدن.. ليضنيها التلفُّتُ وهي تبحث لها عن حضن دافىء- بين الخطوة والأخرى- لعلها تدفن فيه بعض أشجانها..
وكم هو موجع ذلك الحرف الذي قد ينفثُه صاحبُه جمرا على الورق لنقرأه أنينا صارخا ..بينما نرى غيرَنا حتى وإن حفظه درسا عن ظهر قلب لا يستطيع أن يفرق
بين متنه ،وحواشيه..ليدوسه عابرا وهو يمزق بين طي أوراقه خيوطا شفيفة أنّى لنول الأيام أن يرتق فتقها من جديد ..
من ذكريات سنة 2002
من مجموعة ((الخيط الرفيع))
تعليق