ملحٌ ذائبٌ ... أنت
لِمَ أنتَ هُنا ؟!
تَتَخطّفُكَ الأهواءُ وتنسَى أنّكَ أنتَ الأشقَى
لِمَ تجلسُ مُنتظراً أبوابَ المَوتِ لِتدخلَها ؟!
لِمَ تركنُ للدّنيا تَتقاذفُ قلبَكَ بينَ كَوابحِها ؟!
إنْ لمْ تجعلْها ناقةَ صحراءٍ
سَتميدُ بكَ الأيّامُ وتبقَى الأشقَى..
واسألْ مَن سكنَ الأجداثَ..
فلنْ تأسَى
لَمْ ترفضْ من أحدٍ قبلكْ
خذْ للدّارِ الأُخرى زُوّادةَ أطولِ يومٍ..
إنْ تنظرْ للخلفِ تَحِنَّ إليها..
دارُ الآخرةِ انطلقتْ صُفّارتُها
مَزمورُ السّاعةِ بينَ أصابعِ مأمورٍ
فَتزَوّدْ بالقُرُباتِ وشدَّ رحالكَ لا تنظرْ خلفكْ
دُنيا تحلُو في العينِ وتخضَرُّ
ستَغُرُّكَ فِتنَتُها
قد تخطَفُكَ الشّهواتُ وتُبلَى..
إنَّ القلبَ يذوبُ كقطعةِ ملحٍ في كأسِ الماءِ
لا تجعلْها تُلهيكَ عنِ الأمجادِ فتنأى..
إنَّ سَفاسِفَها غرّتْ مَن قبلكَ وارتَحلُوا
كَسعافِ النّخلِ إذا جفّتْ والجمرُ تَناوشُها
فاعملْ كالنّملِ قُبيلَ هُروبِ الصّيفِ..
تَعفّفْ عنْ أسبابِ النّارِ..
وخذْ بالحقِّ بغيرِ لهاثٍ في الشّكوَى
لا تملأْ عمْرَكَ بالقلَقِ المَشقوقِ من الخَوفِ
بالخوفِ رَمَوكَ على الطّرقاتِ لتَسكُنَها
أنتَ الهدَفُ المرسومُ لكلِّ تَجاربِهم
للْمرآةِ انْظرْ، أنتَ أحقُّ لِما تَسعَى
لا غيرَكَ فوقَ الأرضِ يراكَ جَميلا..
الدّنيا ملأَى بالذّلِّ تَحُفُّ بها السّخمُ
لا تملأْ غُرفةَ حُلمِكَ بالأُمْنِيّاتِ
لا تُزعجْ عينكَ إنْ لمْ تبصرْ فيها قوسَ قُزحْ
لنْ تُوهنَكَ الضّرباتُ وأنتَ على الحقِّ
لا تستسلمْ
كلُّ الآلام تزولُ وأنتَ تراها ماضيةً تنأَى
إنْ تُبدِ مخاوفَ تأتِكَ والأَوجاعُ تَمدُّ أظافرَها
كي تنهشَ منكَ بَواقيَ آمالكْ
انظرْ لعباءاتِ الغيمِ احْتلّتْ عينيكَ وكلَّ سمائِك..
ستهبُّ الريحُ وتطفئ مصباحَكْ
فانصبْ لحسابِ اليوم ولا تقنطْ
الشّمسُ ضَحوكٌ والأيّامُ تُجاهَك..
والظّلماتُ تدورُ فشدَّ لها حالَك
***********************
- لِمَ أنتَ هُنا ؟!
عبارة يفتتح بها الشاعر قصيدته وهو يحدث نفسه لتبدو لنا صورة قوية يضعها كلافتة تنبيه أمام من يطرق باب نصه الصوفي هذا الذي أراه زوادة كل مؤمن لعله يتفكر في حقيقة وجوده..وحقيقة هذه الحياة العابرة ..فما أرقى أن يقف المؤمن هذه الوقفة مع الذات حتى يجلدها حينا ،ويذكرها أحيانا عساها تعود من ترحالها بين مرافئ الحياة الفانية لتستقر على درب ما خُلقت إلى لتسير عليه آمنة مطمئنة ..
وأول ما نلاحظه أن شاعرنا الكريم قد اتكأ على يقين راسخ ..وقاعدة صلبة بقلب عاف الدنيا وقد سبر أغوارها ليتميز النص في صورته الخطية التي نستشف من خلفها ظلالا أخرى ..أو ما يسميه النقاد بـ ..(اللانص) وهو ما تخفيه الحروف من ظلال تستقيم أطول وأعلى مقاما بكثير من واجهة النص التي تستوقف المتلقي من أول وهلة ..
فإذا تأملنا نظام فجوات النص أو تلك الكوة التي نلج من خلالها إلى ما وراء الحروف نلاحظ نظام المحور الذي اتكأ عليه الشاعر والذي يعتبر إحدى ركائز النص الصوفي ..ذلك الاتكاء الذي كثيرا ما يشكل عائقا أمام المتلقي للنص الصوفي ..غير أن الأمر هنا يختلف في نص الشاعر صقر أبو عيدة الذي كانت ركيزته واضحة الرؤى مستقيمة البيان.. والبنيان لا يمكن أن تشكل أي عائق صوب من يريد أن يتفيأ هذه الظلال الوارفة التي تدلّت بين الحروف وما تخبئه أبعادها..
نتأمل هذا البيت مثلا :
لِمَ تركنُ للدّنيا تَتقاذفُ قلبَكَ بينَ كَوابحِها
فالشاعر يشير هنا إلى ثبوت محورمعين.. يعني ثبوت العلاقة بين نفس الشاعر والحياة ..أو بين المتلقي والحياة ..وفي ذات الوقت هو ينفي محورا آخر كان يجب أن يكون لبوسَ كل مؤمن وهو التفكير في يوم الرحيل الأبدي ..وبالتالي فهي صورة للسقوط من المرتبة اليقينية إلى التدني بسفوح الدنيا الفانية..
- إن التجربة الصوفية تجربة فردية لا تراعي مدى استيعاب الآخر ولا تقيم وزنا لقدرات فهمه ..غير أن الأمر هنا يختلف فالمتلقي يعي تماما ما يريده الشاعر ،ويعرف كيف سيكون مصيره في نهاية المطاف لذلك فكل من يقرأ هذا النص يستطيع أن يكمل الفجوات التي نلاحظها جيدا
نعود إلى البيت الأول مثلا :..
لِمَ أنتَ هُنا..؟!!
فالشاعر يخاطب شخصين ..هما شخص معنوي.. والمتمثل في ذات الشاعر، وشخص مادي وهو المتلقي ..وبالتالي فإننا ندرك بأن الخطاب جاء مزدوجا ..فالشاعر يحدث المتلقي من خلال حديثه لنفسه لأنه كان يذكر نفسه أولا..
ونلاحظ هنا أهم فجوة قد قام عليها هذا البيت الذي افتتح به الشاعر نصه وهي سؤال كل مسلم يعلم حقيقة وجوده ونهايته المحتومة ..وهكذا تتجلى خلفية البيت أو ظلاله التي اتكأ عليها والمتمثلة في حقيقة الخلق حيث نجد أن ضمير المخاطب ''أنت'' قد تجاوز دلالته إلى الدلالة الموضوعية متضمنا صفات النفس المقصِّرة في التفكر ،والتدبر مثلها مثل المتلقي الذي قد يحمل ذات الصفات..
- إنَّ القلبَ يذوبُ كقطعةِ ملحٍ في كأسِ الماءِ
فقلب الإنسان ما يلبث أن يذوب في ماء الحياة ليتوحد بها حدّ التماهي متناسيا كنه وجوده ..فالشاعر لم يقل قطعة سكر ..!! وإنما قال قطعة ملح لأنه لا يقصد قلب المؤمن.. وإنما خطابه محدد ومخصص ..فهو تذكرة لقلب الغافل الذي كلما ذاب وانصهر في كأس الحياة لا يمكن أن يترك خلفه سوى ماءٍ أجاج
فما هو إلا ملح ذائب ما يلبث أن يختفي ولا يمكن أن يبقى منه سوى أفعاله المالحة..
وهكذا ندرك أن الشاعر يدعو المتلقي ضمنيا لأن يملأ الفجوات بنفسه لتحقيق تكامل معرفي يرقى إلى مستوى التجربة الصوفية..
- نتأمل معا أواخر القصيدة لنقطف هذا البيت من هذه التذكرة البليغة ولنقرأه معا ..
ستهبُّ الريحُ وتطفئ مصباحَكْ
نلاحظ هنا كلمة الريح ..لغة فهي الهواء إذا تحرك
أما في النص فدلالته ريح الرحيل الأبدي.. فالشاعر قد استخدم اللفظة على وجهين اثنين هنا..
فالوجه الأول لغوي وهو القريب.. أما البعيد فهو ضمني بدلالته الواضحة ،والمقصود به ريح الفناء ..حيث يشير الشاعر إلى أن ريح الموت سوف تهب يوما وتطفئ مصباحك ( أيها الغافل ) أي تخمد جمر أنفاسك المتقدة بعشق الحياة ، وتقطف روحك ..ومن هنا نرى بوضوح صورتين اثنتين هما الحلول والاتحاد مع ثبوت المحور يعني ثبوت العلاقة بين الحياة والموت..لندرك بأن شعرية هذه القصيدة ترتكز على تأرجح الرؤية بين الشاعر والمتلقي بما يشبه الحلم واليقظة.. وهذا التشابه يُخرِج دلالات القصيدة الواضحة من إخباريَّتها المحضة إلى فسحة التفكر والتدبر..
فالشاعر يقوم بسرد وقائع وحقائق لا مناص من العبور بمحطاتها كبديهيات. .وقد يبدو تركيبها السردي مماثلاً أو مطابقا للشعر الحداثي من حيث الدلالة ؛وعلى الرغم من متانة التوصيف الفني للأبيات بتماثلها مع الشعر المحدث إلا أنها لم تبتعد عن أساسها، وجذورها المستمَدة مما يتجذر في نفس الشاعر من يقين ،وتمسك بالعقيدة الاسلامية غير أنها لا تمثل تجربة فنية ليرصد القارئ جمالياتها.. وإنما هي تداعيات لتجربة ذاتية ،ووقفة مع النفس المتدبرة في صيرورة هذا الكون ككل وترقرقه كنهر لا بد أن ينضب يوما .. ثم في حال الإنسان كجزء من هذا الكون ونهايته الحتمية التي تجعل المؤمن الحق يدرك مسبقا مصير الكل من خلال وقوفه على مصير الجزء..
- فالنص إذن لم يرصد الصور الجمالية شأنه شان النص الصوفي لأنه فيض من رؤية وجودية لماهية الإنسان أكثر مما هو رغبة في رصدٍ لصورة فنية.. أو اقتناص لفكرة فتية قد يتباهى بها الشاعر..
ومن هنا نستنتج أن قصائد الشاعر صقر أبو عيدة على شعريته التي لا يختلف عليها اثنان هي أهم من أن نقرأها قراءة عابرة ..وما رصدتْه هذه القصيدة تحديدا لهو خير دليل على نفس يملؤها الإيمان، والعقل السوي الذي ما خلق إلا ليتدبر مظاهر قدرته تعالى في هذا الكون ليخرج في النهاية بحتمية لا بد منها ..وهي رحلة الانسان الأزلية التي عليه أن يتزود لها بخير زاد ''وخير زاد التقوى ''
لكن هذه الحتمية قد تكون مقبولة من قبل المتلقي الذي ارتوى من ذات المعين للشاعر..كما قد تكون مرفوضة ممن لا تزال الدنيا تعبث به ذات اليمين.. وذات الشمال لينتبه من غفلته بعد تمعنه في هذه الأبيات ، ويدرك أن ما رُصد بهذا النص لا يصدر إلا عن نفس بلغت أرقى الدرجات من الإيمان والرضا بقدرية محتومة .
إذن فكل ما نستشفه من النص هو مستمد من وحي ديننا الحنيف ..متجاوزا إشارة القول التقليدي إلى إبداع يوازي بين القول ،والتجربة المعاشة للشاعر ذلك لأن طموحه أكبر ..وأبعد من القول المرصود من أول وهلة ؛فهو يحدث المتلقي من خلال حديثه لنفسه ويريد منه أن يستوعب حديثه جيدا ليملأ معه كل الفراغات التي تلوح خلف النص كما سبق وأن أشرت ..
والأهم من هذا أن إيقاع هذه القصيدة جاء عفوياً ..وهادئا بموسيقى تستقر في النفس وتطرق أبوابها من كل الجهات لتحاوطها بنبرة مهموسة خافتة لا تخلو من بعض انفعال ..وذلك تلبية للتجربة الشعورية للشاعر.. فالانفعال واضح في تلاحق العبارات المتمركزة حول دلالة الموت والتي سبقت هذه العبارة الأخيرة للنص في قوله :..
والظّلماتُ تدورُ فشدَّ لها حالَك
والتي شكلت وحدة مقطعية أولى'' والظلمات تدور''
وتأتي الوحدة المقطعية الثانية كفاصلة - فشدَّ لها حالَك -
هذه الأخيرة التي انتهت بباب مفتوح على مصراعيه رغم كونه انتهى بقفلة أوجزت ما قصده الشاعر فعبارة
''فشد لها رحالك'' تدل على تجرده من الدنيا ،وقد أعدّ عدته بنفس تسامت طهرا إلى عليائها وقد اتضحت فيها حرارة الوجدان وصدق العاطفة، وسموّ المعاني المحلقة بفضاء يقيني رحب ..
وهذا ما يدل على قمة النضج ،ومنتهى التصور الذي أبدع فيه الشاعر الكريم محققا نسقية متينة بين الحس الجمالي ،والفكرة المعبرة عن ذلك الجمال القائم بذاته لندرك أن جمالية الشعر قلما تتحقق بعيدا عن سمو المضمون الفكري ،والأخلاقي الذي يسقط دونه كل نص لم يتطهر بمعينه عز وجل..
- القصيدة من الأدب الرفيع الذي حمل أسمى المعاني بين جنبات حروف يميزها السمو الروحي والتجرد من الدنيا ..لتبدو لنا جليا روح الشاعر وهي تحلق بالأفق وكأنها غيمة بيضاء لا تفوح سوى بعبق الصفاء.. والنقاء إذ كلما تأملناها نجد أنفسنا قد نسينا كل ما حولنا ،ونحن نجوب الآماد لنتفكر في هذا الكون الفسيح ..وفي حقيقة الرحلة الأبدية التي علينا أن نحسن زادها قبل فوات الأوان..
لِمَ أنتَ هُنا ؟!
تَتَخطّفُكَ الأهواءُ وتنسَى أنّكَ أنتَ الأشقَى
لِمَ تجلسُ مُنتظراً أبوابَ المَوتِ لِتدخلَها ؟!
لِمَ تركنُ للدّنيا تَتقاذفُ قلبَكَ بينَ كَوابحِها ؟!
إنْ لمْ تجعلْها ناقةَ صحراءٍ
سَتميدُ بكَ الأيّامُ وتبقَى الأشقَى..
واسألْ مَن سكنَ الأجداثَ..
فلنْ تأسَى
لَمْ ترفضْ من أحدٍ قبلكْ
خذْ للدّارِ الأُخرى زُوّادةَ أطولِ يومٍ..
إنْ تنظرْ للخلفِ تَحِنَّ إليها..
دارُ الآخرةِ انطلقتْ صُفّارتُها
مَزمورُ السّاعةِ بينَ أصابعِ مأمورٍ
فَتزَوّدْ بالقُرُباتِ وشدَّ رحالكَ لا تنظرْ خلفكْ
دُنيا تحلُو في العينِ وتخضَرُّ
ستَغُرُّكَ فِتنَتُها
قد تخطَفُكَ الشّهواتُ وتُبلَى..
إنَّ القلبَ يذوبُ كقطعةِ ملحٍ في كأسِ الماءِ
لا تجعلْها تُلهيكَ عنِ الأمجادِ فتنأى..
إنَّ سَفاسِفَها غرّتْ مَن قبلكَ وارتَحلُوا
كَسعافِ النّخلِ إذا جفّتْ والجمرُ تَناوشُها
فاعملْ كالنّملِ قُبيلَ هُروبِ الصّيفِ..
تَعفّفْ عنْ أسبابِ النّارِ..
وخذْ بالحقِّ بغيرِ لهاثٍ في الشّكوَى
لا تملأْ عمْرَكَ بالقلَقِ المَشقوقِ من الخَوفِ
بالخوفِ رَمَوكَ على الطّرقاتِ لتَسكُنَها
أنتَ الهدَفُ المرسومُ لكلِّ تَجاربِهم
للْمرآةِ انْظرْ، أنتَ أحقُّ لِما تَسعَى
لا غيرَكَ فوقَ الأرضِ يراكَ جَميلا..
الدّنيا ملأَى بالذّلِّ تَحُفُّ بها السّخمُ
لا تملأْ غُرفةَ حُلمِكَ بالأُمْنِيّاتِ
لا تُزعجْ عينكَ إنْ لمْ تبصرْ فيها قوسَ قُزحْ
لنْ تُوهنَكَ الضّرباتُ وأنتَ على الحقِّ
لا تستسلمْ
كلُّ الآلام تزولُ وأنتَ تراها ماضيةً تنأَى
إنْ تُبدِ مخاوفَ تأتِكَ والأَوجاعُ تَمدُّ أظافرَها
كي تنهشَ منكَ بَواقيَ آمالكْ
انظرْ لعباءاتِ الغيمِ احْتلّتْ عينيكَ وكلَّ سمائِك..
ستهبُّ الريحُ وتطفئ مصباحَكْ
فانصبْ لحسابِ اليوم ولا تقنطْ
الشّمسُ ضَحوكٌ والأيّامُ تُجاهَك..
والظّلماتُ تدورُ فشدَّ لها حالَك
***********************
- لِمَ أنتَ هُنا ؟!
عبارة يفتتح بها الشاعر قصيدته وهو يحدث نفسه لتبدو لنا صورة قوية يضعها كلافتة تنبيه أمام من يطرق باب نصه الصوفي هذا الذي أراه زوادة كل مؤمن لعله يتفكر في حقيقة وجوده..وحقيقة هذه الحياة العابرة ..فما أرقى أن يقف المؤمن هذه الوقفة مع الذات حتى يجلدها حينا ،ويذكرها أحيانا عساها تعود من ترحالها بين مرافئ الحياة الفانية لتستقر على درب ما خُلقت إلى لتسير عليه آمنة مطمئنة ..
وأول ما نلاحظه أن شاعرنا الكريم قد اتكأ على يقين راسخ ..وقاعدة صلبة بقلب عاف الدنيا وقد سبر أغوارها ليتميز النص في صورته الخطية التي نستشف من خلفها ظلالا أخرى ..أو ما يسميه النقاد بـ ..(اللانص) وهو ما تخفيه الحروف من ظلال تستقيم أطول وأعلى مقاما بكثير من واجهة النص التي تستوقف المتلقي من أول وهلة ..
فإذا تأملنا نظام فجوات النص أو تلك الكوة التي نلج من خلالها إلى ما وراء الحروف نلاحظ نظام المحور الذي اتكأ عليه الشاعر والذي يعتبر إحدى ركائز النص الصوفي ..ذلك الاتكاء الذي كثيرا ما يشكل عائقا أمام المتلقي للنص الصوفي ..غير أن الأمر هنا يختلف في نص الشاعر صقر أبو عيدة الذي كانت ركيزته واضحة الرؤى مستقيمة البيان.. والبنيان لا يمكن أن تشكل أي عائق صوب من يريد أن يتفيأ هذه الظلال الوارفة التي تدلّت بين الحروف وما تخبئه أبعادها..
نتأمل هذا البيت مثلا :
لِمَ تركنُ للدّنيا تَتقاذفُ قلبَكَ بينَ كَوابحِها
فالشاعر يشير هنا إلى ثبوت محورمعين.. يعني ثبوت العلاقة بين نفس الشاعر والحياة ..أو بين المتلقي والحياة ..وفي ذات الوقت هو ينفي محورا آخر كان يجب أن يكون لبوسَ كل مؤمن وهو التفكير في يوم الرحيل الأبدي ..وبالتالي فهي صورة للسقوط من المرتبة اليقينية إلى التدني بسفوح الدنيا الفانية..
- إن التجربة الصوفية تجربة فردية لا تراعي مدى استيعاب الآخر ولا تقيم وزنا لقدرات فهمه ..غير أن الأمر هنا يختلف فالمتلقي يعي تماما ما يريده الشاعر ،ويعرف كيف سيكون مصيره في نهاية المطاف لذلك فكل من يقرأ هذا النص يستطيع أن يكمل الفجوات التي نلاحظها جيدا
نعود إلى البيت الأول مثلا :..
لِمَ أنتَ هُنا..؟!!
فالشاعر يخاطب شخصين ..هما شخص معنوي.. والمتمثل في ذات الشاعر، وشخص مادي وهو المتلقي ..وبالتالي فإننا ندرك بأن الخطاب جاء مزدوجا ..فالشاعر يحدث المتلقي من خلال حديثه لنفسه لأنه كان يذكر نفسه أولا..
ونلاحظ هنا أهم فجوة قد قام عليها هذا البيت الذي افتتح به الشاعر نصه وهي سؤال كل مسلم يعلم حقيقة وجوده ونهايته المحتومة ..وهكذا تتجلى خلفية البيت أو ظلاله التي اتكأ عليها والمتمثلة في حقيقة الخلق حيث نجد أن ضمير المخاطب ''أنت'' قد تجاوز دلالته إلى الدلالة الموضوعية متضمنا صفات النفس المقصِّرة في التفكر ،والتدبر مثلها مثل المتلقي الذي قد يحمل ذات الصفات..
- إنَّ القلبَ يذوبُ كقطعةِ ملحٍ في كأسِ الماءِ
فقلب الإنسان ما يلبث أن يذوب في ماء الحياة ليتوحد بها حدّ التماهي متناسيا كنه وجوده ..فالشاعر لم يقل قطعة سكر ..!! وإنما قال قطعة ملح لأنه لا يقصد قلب المؤمن.. وإنما خطابه محدد ومخصص ..فهو تذكرة لقلب الغافل الذي كلما ذاب وانصهر في كأس الحياة لا يمكن أن يترك خلفه سوى ماءٍ أجاج
فما هو إلا ملح ذائب ما يلبث أن يختفي ولا يمكن أن يبقى منه سوى أفعاله المالحة..
وهكذا ندرك أن الشاعر يدعو المتلقي ضمنيا لأن يملأ الفجوات بنفسه لتحقيق تكامل معرفي يرقى إلى مستوى التجربة الصوفية..
- نتأمل معا أواخر القصيدة لنقطف هذا البيت من هذه التذكرة البليغة ولنقرأه معا ..
ستهبُّ الريحُ وتطفئ مصباحَكْ
نلاحظ هنا كلمة الريح ..لغة فهي الهواء إذا تحرك
أما في النص فدلالته ريح الرحيل الأبدي.. فالشاعر قد استخدم اللفظة على وجهين اثنين هنا..
فالوجه الأول لغوي وهو القريب.. أما البعيد فهو ضمني بدلالته الواضحة ،والمقصود به ريح الفناء ..حيث يشير الشاعر إلى أن ريح الموت سوف تهب يوما وتطفئ مصباحك ( أيها الغافل ) أي تخمد جمر أنفاسك المتقدة بعشق الحياة ، وتقطف روحك ..ومن هنا نرى بوضوح صورتين اثنتين هما الحلول والاتحاد مع ثبوت المحور يعني ثبوت العلاقة بين الحياة والموت..لندرك بأن شعرية هذه القصيدة ترتكز على تأرجح الرؤية بين الشاعر والمتلقي بما يشبه الحلم واليقظة.. وهذا التشابه يُخرِج دلالات القصيدة الواضحة من إخباريَّتها المحضة إلى فسحة التفكر والتدبر..
فالشاعر يقوم بسرد وقائع وحقائق لا مناص من العبور بمحطاتها كبديهيات. .وقد يبدو تركيبها السردي مماثلاً أو مطابقا للشعر الحداثي من حيث الدلالة ؛وعلى الرغم من متانة التوصيف الفني للأبيات بتماثلها مع الشعر المحدث إلا أنها لم تبتعد عن أساسها، وجذورها المستمَدة مما يتجذر في نفس الشاعر من يقين ،وتمسك بالعقيدة الاسلامية غير أنها لا تمثل تجربة فنية ليرصد القارئ جمالياتها.. وإنما هي تداعيات لتجربة ذاتية ،ووقفة مع النفس المتدبرة في صيرورة هذا الكون ككل وترقرقه كنهر لا بد أن ينضب يوما .. ثم في حال الإنسان كجزء من هذا الكون ونهايته الحتمية التي تجعل المؤمن الحق يدرك مسبقا مصير الكل من خلال وقوفه على مصير الجزء..
- فالنص إذن لم يرصد الصور الجمالية شأنه شان النص الصوفي لأنه فيض من رؤية وجودية لماهية الإنسان أكثر مما هو رغبة في رصدٍ لصورة فنية.. أو اقتناص لفكرة فتية قد يتباهى بها الشاعر..
ومن هنا نستنتج أن قصائد الشاعر صقر أبو عيدة على شعريته التي لا يختلف عليها اثنان هي أهم من أن نقرأها قراءة عابرة ..وما رصدتْه هذه القصيدة تحديدا لهو خير دليل على نفس يملؤها الإيمان، والعقل السوي الذي ما خلق إلا ليتدبر مظاهر قدرته تعالى في هذا الكون ليخرج في النهاية بحتمية لا بد منها ..وهي رحلة الانسان الأزلية التي عليه أن يتزود لها بخير زاد ''وخير زاد التقوى ''
لكن هذه الحتمية قد تكون مقبولة من قبل المتلقي الذي ارتوى من ذات المعين للشاعر..كما قد تكون مرفوضة ممن لا تزال الدنيا تعبث به ذات اليمين.. وذات الشمال لينتبه من غفلته بعد تمعنه في هذه الأبيات ، ويدرك أن ما رُصد بهذا النص لا يصدر إلا عن نفس بلغت أرقى الدرجات من الإيمان والرضا بقدرية محتومة .
إذن فكل ما نستشفه من النص هو مستمد من وحي ديننا الحنيف ..متجاوزا إشارة القول التقليدي إلى إبداع يوازي بين القول ،والتجربة المعاشة للشاعر ذلك لأن طموحه أكبر ..وأبعد من القول المرصود من أول وهلة ؛فهو يحدث المتلقي من خلال حديثه لنفسه ويريد منه أن يستوعب حديثه جيدا ليملأ معه كل الفراغات التي تلوح خلف النص كما سبق وأن أشرت ..
والأهم من هذا أن إيقاع هذه القصيدة جاء عفوياً ..وهادئا بموسيقى تستقر في النفس وتطرق أبوابها من كل الجهات لتحاوطها بنبرة مهموسة خافتة لا تخلو من بعض انفعال ..وذلك تلبية للتجربة الشعورية للشاعر.. فالانفعال واضح في تلاحق العبارات المتمركزة حول دلالة الموت والتي سبقت هذه العبارة الأخيرة للنص في قوله :..
والظّلماتُ تدورُ فشدَّ لها حالَك
والتي شكلت وحدة مقطعية أولى'' والظلمات تدور''
وتأتي الوحدة المقطعية الثانية كفاصلة - فشدَّ لها حالَك -
هذه الأخيرة التي انتهت بباب مفتوح على مصراعيه رغم كونه انتهى بقفلة أوجزت ما قصده الشاعر فعبارة
''فشد لها رحالك'' تدل على تجرده من الدنيا ،وقد أعدّ عدته بنفس تسامت طهرا إلى عليائها وقد اتضحت فيها حرارة الوجدان وصدق العاطفة، وسموّ المعاني المحلقة بفضاء يقيني رحب ..
وهذا ما يدل على قمة النضج ،ومنتهى التصور الذي أبدع فيه الشاعر الكريم محققا نسقية متينة بين الحس الجمالي ،والفكرة المعبرة عن ذلك الجمال القائم بذاته لندرك أن جمالية الشعر قلما تتحقق بعيدا عن سمو المضمون الفكري ،والأخلاقي الذي يسقط دونه كل نص لم يتطهر بمعينه عز وجل..
- القصيدة من الأدب الرفيع الذي حمل أسمى المعاني بين جنبات حروف يميزها السمو الروحي والتجرد من الدنيا ..لتبدو لنا جليا روح الشاعر وهي تحلق بالأفق وكأنها غيمة بيضاء لا تفوح سوى بعبق الصفاء.. والنقاء إذ كلما تأملناها نجد أنفسنا قد نسينا كل ما حولنا ،ونحن نجوب الآماد لنتفكر في هذا الكون الفسيح ..وفي حقيقة الرحلة الأبدية التي علينا أن نحسن زادها قبل فوات الأوان..
تعليق