جزءٌ من ذاكرتي
لم تكن ذاكرتي قوية , لأنّي كنت صغيرة .. ولكن!
هناك صور مازالت عالقة في الذاكرة، أحداث مفجعة ..كم تمنيت لو أني سلّوتها
ذات ليلة شتاء باردة , ينهمر فيها المطر مدرارا , ونحن متحلقون حول نار المدفأة نتلمس الدفء, وصدى ضحكاتنا يعم أرجاء الصالة
استرعى انتباه أمي ،صوت ارتطام جسم حديدي بباب المنزل الخارجي, ولمحَت شخصا يعبر سياج الحديقة,اتسعت عيناها وأبرقت بوهج غريب, وارتعد جسمها للحظة!
أسرعت خطاها متحفزة ..
تراكضنا خلفها أنا وأخي ، نتلفع مناشف المنزل كي نتقي زخات المطر, ورهبة من المجهول تغمرنا !
ويا لدهشتنا, حين وجدنا مغلفاً ملقى على الأرض قرب السيارة , حملته أمي بيد مرتجفة!
فتحته بسرعة يشوبها الحذر ونظرةٌ هلع تطغى على مقلتيها ، قرأته ، ثم شهقت وضربت بيدها على صدرها، وبيدها الأخرى تعتصر عدة رصاصات بعدد أفراد عائلتي أخرجتها من المغلف, دون أن تنبس ببنت شفة, وكأن الطير على رأسها .
خيل لي أني أستشعرت نبضات قلبها , وعيني ترقب أنفاسها المضطربة !
أسبوع مر، اختفت فيه البسمة من وجوهنا ، وحل محلها الخوف والترقب ، وأمي تحضرنا كي نغادر الوطن في أية لحظة, قالت وبلهجة جازمة:
-تجهزوا .. سنسافر إلى بلاد الشام, بعد غد!!
لم تخبرني أمي عن سبب سفرنا المفاجئ وما سر هذا الخوف الذي داهمها من البقاء في العراق ابنها الاول الذي لم تنجبه ..و سر منعي من الخروج حتى لمدرستي القريبة,وتحذيري المستمر من محادثة صديقاتي!
لم تبح لي بالكثير, لكن نظرات الخوف على وجوه إخوتي زادتني التصاقا بهم ،ونوبة من البكاء الدائم لم تبارح مقلتيّ.
حتى سافرنا،
والطريق بطوله تحتضنني والدتي, وتتمتم بآيات من القرآن الكريم ،تمطر عينيها الدموعٌ ،
استبدلت ملامحنا بسمة كنا نتلقف صباحاتنا بها, بوجوم لم نكن نعرفه قبل ذاك اليوم.
أيام قليلة مرت على وجودنا في سوريا, حتى ضاق بي الشوق .. كم كنت أحن لحديقة بيتنا, لسريري.. ومكتبتي الصغيرة الجميلة التي ضمنتها كل مجلاتي الطفولية وكتبي الحبيبة, وتلك الصور الملونة عن أفلام كارتونية كنت أتابعها مشغوفة بها.
صار وجهي كئيبا يشبه المومياءات المحنطة, بلا ملامح أو أسارير, وصرت أسيرة الحزن.. حزني.. وحزن أمي.. وإخوتي .
من يومها عرفت معنى أن تكون غريبا عن وطنك.. غريبا عن أرضك وأصحابك وأهلك.
أحسست بالرهبة , وحنيني إلى وطني يجتاحني, فذهبت جزعة إلى إخواني وأنا أبكي سنين عمري الصغيرة
أجهشنا جميعا بالبكاء على حالنا، كيف أصبحنا مهجرين بين بلدان العرب والغرب
وهاهو اليوم السادس عشر من منتصف عام ألفين وعشره ،يشهد لوجودي سبع سنوات في سوريا..
ولا أعرف كم سأمضي من الوقت.. هنا بعد !!؟
:
:
:
:
كتبت هذا النص سنة 2010 وكان من بداياتي ..
تعليق