ماء الساقية العذب / زهور بن السيد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • زهور بن السيد
    رئيس ملتقى النقد الأدبي
    • 15-09-2010
    • 578

    ماء الساقية العذب / زهور بن السيد

    ماء الساقية العذب / زهور بن السيد

    قبل أن يخرج الفلاحون للحقول وقبل أن تنتشر الدواب والمواشي على الأرض, تقصد الساقية الجارية البعيدة عن بيتها, تملأ جرتها بالماء وتعود إلى البيت.. تضعها في ركن لا يصل إليه الآخرون من أبنائها وزوجاتهم وأحفادها.. ولا يحق لهم الاقتراب منها.
    عجوز طويلة القامة بجمال بربري خاص, شامخة الأنف, سمراء, متجعدة الوجه, عيناها المليحتان يستقر فيهما حزن عميق وسر غامض, قليلة الكلام, تضع على كتفيها رداء مصنوعا من الصوف, ملامحها الهادئة ناطقة على الدوام بالأوامر والتذكير بالقانون الداخلي للبيت, كل أفراد العائلة يهابونها, ينظرون إلى عينيها لاستطلاع الحالة التي تكون عليها ولتلقي الأوامر والنواهي من تقاسيم وجهها الذي يعطيك الانطباع على أنها مريضة على الدوام...
    ورغم ذلك فهي امرأة ليست بالخبث والسوء, هي حادة الطبع والمزاج لكن لها قلب كبير, مضيافة وكريمة, وقد تكون حدة طبعها ضرورة فرضتها على نفسها لتسيير بيت كبير عامر بالناس والخير. ففي بيتهم الأعمام والعمات والأخوال والخالات والإخوان والأحفاد.. لأنهم لا يتزوجون من خارج العائلة إلا نادرا جدا, وإن حدث تظل المرأة الوافدة إليهم غريبة عنهم طيلة حياتها.
    استشعرت كرمها وطيبتها وأنا صغيرة لم أتجاوز التسع سنوات, حيث كنت أدرس في مدرسة ابتدائية قريبة من بيتهم وبعيدة عن منزلنا بما يقارب الكيلومترين, فكانت عندما يحين وقت الخروج من المدرسة وقت الغذاء تأمر بعض حفيداتها بالتربص بي في الطريق, وعندما يلمحنني يدخلن على الفور إلى المنزل لاستحضار شخص كبير يدعوني إلى الدخول. وكنت أجد منها ومن أفراد عائلتها الترحاب والاحترام الكبيرين.
    ذات صباح, وهي عائدة من الساقية حاملة جرتها المملوءة بالماء وقد أطلقت العنان بمشقة لغمغمة تشبه بعض الألحان التي رسمت على شفتيها شبه ابتسامة أضفت على وجهها مسحة من الجمال الطبيعي الأخاذ, لمحها من بعيد رجل من أهل القرية فجحظت عيناه, كالذي عثر على كنز على حين غفلة, وبدأ يسرع الخطو وضحكته تتسابق مع قدميه إليها. لما التقيا في الطريق بادر الرجل بتحيتها وأردفها في الحال بسؤال العارف المستهزئ وقد بدت من نبرة صوته نغمة التشفي, لم لا وقد وجد هذا الصباح مادة فريدة من نوعها يؤنس بها الجلسة المسائية مع الرجال بعد عودتهم من أشغال الفلاحة أو التسوق:
    ـ صباح الخير (خالتي) ماذا تفعلين بذلك الماء الذي تجلبين من الساقية؟
    ـ أشرب منه وأتوضأ به.. أنت تعرف يا بني أن زوجات أبنائي يلمسن حبل البئر بأيديهن مبللة فتتقاطر الأوساخ في الماء, ولا يمكنني أن أشرب من بئر مليئة بالعفن.
    معروف عنها في القرية أنها امرأة حريصة على النظافة بشكل مبالغ فيه, كانت تأخذ معها كأسها عندما تكون في ضيافة أحدهم لتشرب فيه الشاي, وكنت أيضا ألاحظ حرصها الزائد على النظافة عندما أكون ببيتهم, فقد كانت لا تجفف يديها بعد غسلهما بالمنديل المخصص لذلك, بل تتركهما في الهواء إلى أن تجفا, ولن تلمسهما بمنديل استعمله غيرها, وكذلك يفعل كل أهل البيت, وكانوا يحضرون لي أنا وحدي منديلا خاصا.
    وسألها أيضا:
    ـ منذ متى وأنت تشربين ماء الساقية؟
    ـ لا أذكر.. ولكنني كل يوم أجلب ما يكفيني للشرب وغسل وجهي والوضوء..
    فأخذ عنها الجرة, والضحكة تكاد تفضح تشفيه, وطلب منها أن ترجع معه ليريها أمرا, فأخذها إلى أعلى مما كانت تجلب منه الماء, وجعلها تنظر وتكتشف بنفسها نقاء وعذوبة الماء الذي تشرب منه..
    تغير لون وجهها بمجرد أن ألقت نظرة إلى المكان الذي أشار إليه, واعتلى الغضب والاشمئزاز تقاسيم وجهها, فأطلقت شهقة عارمة, كادت تزهق روحها, وأخذت الجرة وبدأت تكسرها بهستيرية .. لقد رأت كلبا منتفخا ومتحللا في الماء, تنبعث منه رائحة الجيفة..
    أصيبت باكتئاب حاد وجعلت تبصق طول اليوم علها تتخلص من كل الماء الذي شربت منه مدة طويلة.
    التعديل الأخير تم بواسطة زهور بن السيد; الساعة 09-10-2017, 21:05. سبب آخر: التصحيح
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    #2
    العذوبة في هذه العجوز ذات الجمال البربري
    العذوبة والسلاسة في هذا السرد الذي ينساب مثل جدول ماء
    العذوبة والرقي في هذا القلم الذي رسم للعجوز خط سيرها
    ابتداء من استيقاظها باكرا قبل خروج الفلاحين إلى الحقول
    إلى أن اعتلى الغضب والإشمئزاز تقاسيم وجهها
    تحياتي لك أستاذتنا دكتورة زهور
    فوزي بيترو

    تعليق

    • عائده محمد نادر
      عضو الملتقى
      • 18-10-2008
      • 12843

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة زهور بن السيد مشاهدة المشاركة
      ماء الساقية العذب / زهور بن السيد

      تستيقظ كل يوم باكرا, قبل أن يخرج الفلاحون للحقول وقبل أن تنتشر الدواب والمواشي على الأرض, تقصد الساقية الجارية البعيدة عن بيتها, تملأ جرتها بالماء وتعود إلى البيت.. تضعها في ركن لا يصل إليه الآخرون من أبنائها وزوجاتهم وأحفادها.. ولا يحق لهم الاقتراب منها.
      عجوز طويلة القامة بجمال بربري خاص, شامخة الأنف, سمراء, متجعدة الوجه, عيناها المليحتان يستقر فيهما حزن عميق وسر غامض, قليلة الكلام, تضع على كتفيها رداء مصنوعا من الصوف, ملامحها الهادئة ناطقة على الدوام بالأوامر والتذكير بالقانون الداخلي للبيت, كل أفراد العائلة يهابونها, ينظرون إلى عينيها لاستطلاع الحالة التي تكون عليها ولتلقي الأوامر والنواهي من تقاسيم وجهها الذي يعطيك الانطباع على أنها مريضة على الدوام...
      ورغم ذلك فهي امرأة ليست بالخبث والسوء, هي
      امرأة حادة الطبع والمزاج لكن لها قلبا كبيرا, مضيافة وكريمة, وقد تكون حدة طبعها ضرورة فرضتها على نفسها لتسيير بيت كبير عامر بالناس والخير. ففي بيتهم تجد الأعمام والعمات والأخوال والخالات والإخوان والأحفاد.. لأنهم لا يتزوجون من خارج العائلة إلا نادرا جدا, وإن حدث تظل المرأة الوافدة إليهم غريبة عنهم طيلة حياتها.
      استشعرت كرمها وطيبتها وأنا صغيرة لم أتجاوز التسع سنوات, حيث كنت أدرس في مدرسة ابتدائية قريبة من بيتهم وبعيدة عن منزلنا بما يقارب الكيلومترين, فكانت عندما يحين وقت الخروج من المدرسة وقت الغذاء تأمر بعض حفيداتها بالتربص بي في الطريق, وعندما يلمحنني يدخلن على الفور إلى المنزل لاستحضار شخص كبير يدعوني إلى الدخول. وكنت أجد منها ومن أفراد عائلتها الترحاب والاحترام الكبيرين.
      ذات صباح, وهي عائدة من الساقية حاملة جرتها المملوءة بالماء وقد أطلقت العنان بمشقة لغمغمة تشبه بعض الألحان التي رسمت على شفتيها شبه ابتسامة أضفت على وجهها مسحة من الجمال الطبيعي الأخاذ, لمحها من بعيد رجل من أهل القرية وجحظت عيناه, كالذي عثر على كنز على حين غفلة, وبدأ يسرع الخطو وضحكته تتسابق مع قدميه إليها. لما التقيا في الطريق بادر الرجل بتحيتها وأردفها في الحال بسؤال العارف المستهزئ وقد بدا من نبرة صوته نغمة التشفي, لم
      ا لا وقد وجد هذا الصباح مادة فريدة من نوعها يؤنس بها الجلسة المسائية مع الرجال بعد عودتهم من أشغال الفلاحة أو التسوق:
      ـ صباح الخير (خالتي) ماذا تفعلين بذلك الماء الذي تجلبين من الساقية؟
      ـ أشرب منه وأتوضأ به.. أنت تعرف يا بني أن زوجات أبنائي يلمسن حبل البئر بأيديهن مبللات فتتقاطر الأوساخ في الماء, ولا يمكنني أن أشرب من بئر مليئة بالعفن.
      معروف عنها في القرية أنها امرأة حريصة على النظافة بشكل مبالغ فيه,
      لقد كانت تأخذ معها كأسها عندما تكون في ضيافة أحدهم لتشرب فيه الشاي, وكنت أيضا ألاحظ حرصها الزائد على النظافة عندما أكون ببيتهم, فقد كانت لا تجفف يديها بعد غسلهما بالمنديل المخصص لذلك, بل تتركهما في الهواء إلى أن تجفا, ولن تلمسهما بمنديل استعمله غيرها, وكذلك يفعل كل أهل البيت, وكانوا يحضرون لي أنا وحدي منديلا خاصا.
      وسألها أيضا:
      ـ منذ متى
      وأنت تشربين ماء الساقية؟
      ـ لا أذكر..
      ولكنني كل يوم أجلب ما يكفيني للشرب وغسل وجهي والوضوء..
      فأخذ عنها الجرة, والضحكة تكاد تفضح خبثه وتشفيه, وطلب منها أن ترجع معه ليريها أمرا, فأخذها إلى أعلى مما كانت تجلب منه الماء, وجعلها تنظر وتكتشف بنفسها نقاء وعذوبة الماء الذي تشرب منه..
      تغير في الحال لون وجهها بمجرد أن ألقت نظرة إلى ( هذه فائضة ويمكننا الاستعانة بكلمة البئر
      المكان الذي أشار إليه ), واعتلى الغضب والاشمئزاز تقاسيم وجهها, فأطلقت العنان ( هذه فائضة وربما شهقة تكون أفضل ) لصرخة مدوية, وأخذت منه الجرة وبدأت تكسرها بهستيرية .. لقد رأت كلبا منتفخا ومتحللا في الماء, تنبعث منه رائحة الجيفة..
      أصيبت باكتئاب حاد وجعلت تبصق طول اليوم علها تتخلص من كل الماء الذي شربت منه مدة طويلة.
      هلا بالغلا زهور الرائعه

      نص بالرغم من بساطة الطرح لكنه جاء على آفة كبيرة في بلداننا
      طرحت فيه مشكلة عويصة بالنسبة لهؤلاء الناس الذين لاتكترث لهم حكوماتهم ولاتوفر لهم أدنى المتطلبات بسرد سلس وحكاية امرأة صاحبة أنفه وكرامه
      لاقتل ولاتدمير لكن النص أخذ على عاتقه مشكلة مستديمة من خلال الطرح وبكل عفوية واقتدار
      لونت لك باللون الأبيض مارأيته فائضا وباللون الأزرق اقتراحاتي وباللون البنفسجي ( الموف ) ماجاء بالنص وأتمنى أن تتقبلي رؤيتي وأنت تعرفين أني لاأقصد سوى الحبكة والقوه للنصوص.
      سعيدة بك وجداااااااااا فوجودك يكفي أن تنثري المحبة والألفه بعد طول غياب مني
      محبتي وغابات من الياسمين لك غاليتي
      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        ليته تركها على ماكانت عليه من ثقة في نفسها و ذائقتها وحرية إحساسها بالمتعة و الحياة
        لقد دمر في دقائق معدودة مالم تستطعه ميكروبات العالم التي تسعى بلا شك في بدنها الطاهر الطيب
        و يحدث أيضا هذا في محيط الطيبين و تتعدد شخوصه و طرائفه
        حتى تشرئب الحقائق و تفسد عليه وجه الحياة الطيب و ربما يخرج منها إلي ماهو أشد قسوة من تلك .. دون أن يتعلم إلا ذات الطعنة
        إلا أنه يظل عرضة لأمثلة ووشائج أكثر عمقا قد تودي به دون أن يدري أنها كانت الغفلة التي عاشها و قاسمها الحياة !

        بدا السرد و الوصف و كأنني في حضرة عمل روائي .. حتى الرواية - اليوم - لم تعد تهتم بالوصف داخليا و خارجيا للشخوص و الأمكنة !

        تقديري و احترامي أيتها المبدعة الكبيرة !
        sigpic

        تعليق

        • زهور بن السيد
          رئيس ملتقى النقد الأدبي
          • 15-09-2010
          • 578

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة فوزي سليم بيترو مشاهدة المشاركة
          العذوبة في هذه العجوز ذات الجمال البربري
          العذوبة والسلاسة في هذا السرد الذي ينساب مثل جدول ماء
          العذوبة والرقي في هذا القلم الذي رسم للعجوز خط سيرها
          ابتداء من استيقاظها باكرا قبل خروج الفلاحين إلى الحقول
          إلى أن اعتلى الغضب والإشمئزاز تقاسيم وجهها
          تحياتي لك أستاذتنا دكتورة زهور
          فوزي بيترو
          أشكرك أستاذي العزيز الدكتور فوزي بيترو على قراءتك للنص
          لقد منحته قيمة كبيرة برأيك المشرف الداعم
          تحياتي الكبيرة وكل التقدير

          تعليق

          • زهور بن السيد
            رئيس ملتقى النقد الأدبي
            • 15-09-2010
            • 578

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
            هلا بالغلا زهور الرائعه

            نص بالرغم من بساطة الطرح لكنه جاء على آفة كبيرة في بلداننا
            طرحت فيه مشكلة عويصة بالنسبة لهؤلاء الناس الذين لاتكترث لهم حكوماتهم ولاتوفر لهم أدنى المتطلبات بسرد سلس وحكاية امرأة صاحبة أنفه وكرامه
            لاقتل ولاتدمير لكن النص أخذ على عاتقه مشكلة مستديمة من خلال الطرح وبكل عفوية واقتدار
            لونت لك باللون الأبيض مارأيته فائضا وباللون الأزرق اقتراحاتي وباللون البنفسجي ( الموف ) ماجاء بالنص وأتمنى أن تتقبلي رؤيتي وأنت تعرفين أني لاأقصد سوى الحبكة والقوه للنصوص.
            سعيدة بك وجداااااااااا فوجودك يكفي أن تنثري المحبة والألفه بعد طول غياب مني
            محبتي وغابات من الياسمين لك غاليتي
            أشكرك أستاذتي وصديقتي المبدعة عائده محمد نادر على قراءتك المتأنية لهذه المحاولة
            وممتنة كثيرا لتصويباتك وتوجيهاتك الدقيقة والتي لاشك سآخذ بها
            اهتمامك شرف
            تحياتي ومحبتي الكبيرة

            تعليق

            • زهور بن السيد
              رئيس ملتقى النقد الأدبي
              • 15-09-2010
              • 578

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
              ليته تركها على ماكانت عليه من ثقة في نفسها و ذائقتها وحرية إحساسها بالمتعة و الحياة
              لقد دمر في دقائق معدودة مالم تستطعه ميكروبات العالم التي تسعى بلا شك في بدنها الطاهر الطيب
              و يحدث أيضا هذا في محيط الطيبين و تتعدد شخوصه و طرائفه
              حتى تشرئب الحقائق و تفسد عليه وجه الحياة الطيب و ربما يخرج منها إلي ماهو أشد قسوة من تلك .. دون أن يتعلم إلا ذات الطعنة
              إلا أنه يظل عرضة لأمثلة ووشائج أكثر عمقا قد تودي به دون أن يدري أنها كانت الغفلة التي عاشها و قاسمها الحياة !

              بدا السرد و الوصف و كأنني في حضرة عمل روائي .. حتى الرواية - اليوم - لم تعد تهتم بالوصف داخليا و خارجيا للشخوص و الأمكنة !

              تقديري و احترامي أيتها المبدعة الكبيرة !
              وكيف يتركها ونفسه أمارة بالخبث
              إنه داء الشماتة المتمكن من النفوس الضعيفة
              يكبر أذى الشماتة عندما يكون من الأقارب وأهل البلدة
              أسعدني جدا اهتمامك بهذه المحاولة أيها الكبير أستاذي ربيع
              وشرفني رأيك ومنحني الكثير من التشجيع لمواصلة تجربة الكتابة القصصية
              شكرا جزيلا مع تقديري الذي تعرف

              تعليق

              • عمار عموري
                أديب ومترجم
                • 17-05-2017
                • 1300

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة زهور بن السيد مشاهدة المشاركة
                ماء الساقية العذب / زهور بن السيد

                تستيقظ كل يوم باكرا, قبل أن يخرج الفلاحون للحقول وقبل أن تنتشر الدواب والمواشي على الأرض, تقصد الساقية الجارية البعيدة عن بيتها, تملأ جرتها بالماء وتعود إلى البيت.. تضعها في ركن لا يصل إليه الآخرون من أبنائها وزوجاتهم وأحفادها.. ولا يحق لهم الاقتراب منها.
                عجوز طويلة القامة بجمال بربري خاص, شامخة الأنف, سمراء, متجعدة الوجه, عيناها المليحتان يستقر فيهما حزن عميق وسر غامض, قليلة الكلام, تضع على كتفيها رداء مصنوعا من الصوف, ملامحها الهادئة ناطقة على الدوام بالأوامر والتذكير بالقانون الداخلي للبيت, كل أفراد العائلة يهابونها, ينظرون إلى عينيها لاستطلاع الحالة التي تكون عليها ولتلقي الأوامر والنواهي من تقاسيم وجهها الذي يعطيك الانطباع على أنها مريضة على الدوام...
                ورغم ذلك فهي امرأة ليست بالخبث والسوء, هي امرأة حادة الطبع والمزاج لكن لها قلبا كبيرا, مضيافة وكريمة, وقد تكون حدة طبعها ضرورة فرضتها على نفسها لتسيير بيت كبير عامر بالناس والخير. ففي بيتهم تجد الأعمام والعمات والأخوال والخالات والإخوان والأحفاد.. لأنهم لا يتزوجون من خارج العائلة إلا نادرا جدا, وإن حدث تظل المرأة الوافدة إليهم غريبة عنهم طيلة حياتها.
                استشعرت كرمها وطيبتها وأنا صغيرة لم أتجاوز التسع سنوات, حيث كنت أدرس في مدرسة ابتدائية قريبة من بيتهم وبعيدة عن منزلنا بما يقارب الكيلومترين, فكانت عندما يحين وقت الخروج من المدرسة وقت الغذاء تأمر بعض حفيداتها بالتربص بي في الطريق, وعندما يلمحنني يدخلن على الفور إلى المنزل لاستحضار شخص كبير يدعوني إلى الدخول. وكنت أجد منها ومن أفراد عائلتها الترحاب والاحترام الكبيرين.
                ذات صباح, وهي عائدة من الساقية حاملة جرتها المملوءة بالماء وقد أطلقت العنان بمشقة لغمغمة تشبه بعض الألحان التي رسمت على شفتيها شبه ابتسامة أضفت على وجهها مسحة من الجمال الطبيعي الأخاذ, لمحها من بعيد رجل من أهل القرية وجحظت عيناه, كالذي عثر على كنز على حين غفلة, وبدأ يسرع الخطو وضحكته تتسابق مع قدميه إليها. لما التقيا في الطريق بادر الرجل بتحيتها وأردفها في الحال بسؤال العارف المستهزئ وقد بدا من نبرة صوته نغمة التشفي, لما لا وقد وجد هذا الصباح مادة فريدة من نوعها يؤنس بها الجلسة المسائية مع الرجال بعد عودتهم من أشغال الفلاحة أو التسوق:
                ـ صباح الخير (خالتي) ماذا تفعلين بذلك الماء الذي تجلبين من الساقية؟
                ـ أشرب منه وأتوضأ به.. أنت تعرف يا بني أن زوجات أبنائي يلمسن حبل البئر بأيديهن مبللات فتتقاطر الأوساخ في الماء, ولا يمكنني أن أشرب من بئر مليئة بالعفن.
                معروف عنها في القرية أنها امرأة حريصة على النظافة بشكل مبالغ فيه, لقد كانت تأخذ معها كأسها عندما تكون في ضيافة أحدهم لتشرب فيه الشاي, وكنت أيضا ألاحظ حرصها الزائد على النظافة عندما أكون ببيتهم, فقد كانت لا تجفف يديها بعد غسلهما بالمنديل المخصص لذلك, بل تتركهما في الهواء إلى أن تجفا, ولن تلمسهما بمنديل استعمله غيرها, وكذلك يفعل كل أهل البيت, وكانوا يحضرون لي أنا وحدي منديلا خاصا.
                وسألها أيضا:
                ـ منذ متى وأنت تشربين ماء الساقية؟
                ـ لا أذكر.. ولكنني كل يوم أجلب ما يكفيني للشرب وغسل وجهي والوضوء..
                فأخذ عنها الجرة, والضحكة تكاد تفضح خبثه وتشفيه, وطلب منها أن ترجع معه ليريها أمرا, فأخذها إلى أعلى مما كانت تجلب منه الماء, وجعلها تنظر وتكتشف بنفسها نقاء وعذوبة الماء الذي تشرب منه..
                تغير في الحال لون وجهها بمجرد أن ألقت نظرة إلى المكان الذي أشار إليه, واعتلى الغضب والاشمئزاز تقاسيم وجهها, فأطلقت العنان لصرخة مدوية, وأخذت منه الجرة وبدأت تكسرها بهستيرية .. لقد رأت كلبا منتفخا ومتحللا في الماء, تنبعث منه رائحة الجيفة..
                أصيبت باكتئاب حاد وجعلت تبصق طول اليوم علها تتخلص من كل الماء الذي شربت منه مدة طويلة.
                نص رائع حقا
                لدي بعض الملاحظات اللغوية وتخص الدقيق اللغوي
                منها :
                لكن لها قلبا كبيرا = لكن لها قلب كبير، فلكن هنا استدراكية لا توكيدية
                لما لا = لم لا، يجب حذف ألف ما الاستفهامية لدخول حرف الجر.
                فكانت عندما يحين وقت الخروج من المدرسة وقت الغذاء = فكانت عندما يحين الخروج من المدرسة وقت الغذاء.
                استحضار = إحضار
                وجحظت عيناه = فجحظت عيناه
                وقد بدا من نبرة صوته نغمة = وقد بدت من نبرة صوته نغمة
                بأديهن مبللات = وأديهن مبللة
                تغير في الحال لون وجهها بمجرد أن ألقت نظرة = تغير لون وجهها بمجرد أن ألقت نظرة
                - وصف العجوز في الفقرة الثانية بحاجة إلى ترتيب، من الصورة المكبرة إلى الصورة المصغرة.
                - استعمال الفاصلة الإفرنجية بدل العربية
                استعملي shift+ن
                وليس shift+و

                شكرا لك أستاذة زهور بن السيد على هذه المقاسمة الجميلة
                مع مودتي الخالصة.

                تعليق

                • زهور بن السيد
                  رئيس ملتقى النقد الأدبي
                  • 15-09-2010
                  • 578

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة عمار عموري مشاهدة المشاركة
                  نص رائع حقا
                  لدي بعض الملاحظات اللغوية وتخص الدقيق اللغوي
                  منها :
                  لكن لها قلبا كبيرا = لكن لها قلب كبير، فلكن هنا استدراكية لا توكيدية
                  لما لا = لم لا، يجب حذف ألف ما الاستفهامية لدخول حرف الجر.
                  فكانت عندما يحين وقت الخروج من المدرسة وقت الغذاء = فكانت عندما يحين الخروج من المدرسة وقت الغذاء.
                  استحضار = إحضار
                  وجحظت عيناه = فجحظت عيناه
                  وقد بدا من نبرة صوته نغمة = وقد بدت من نبرة صوته نغمة
                  بأديهن مبللات = وأديهن مبللة
                  تغير في الحال لون وجهها بمجرد أن ألقت نظرة = تغير لون وجهها بمجرد أن ألقت نظرة
                  - وصف العجوز في الفقرة الثانية بحاجة إلى ترتيب، من الصورة المكبرة إلى الصورة المصغرة.
                  - استعمال الفاصلة الإفرنجية بدل العربية
                  استعملي shift+ن
                  وليس shift+و

                  شكرا لك أستاذة زهور بن السيد على هذه المقاسمة الجميلة
                  مع مودتي الخالصة.
                  الأستاذ الكريم عمار عموري مساء الخير تشرفت بالتعرف عليك
                  أشكرك على قراءة النص وعلى رأيك به
                  أشكرك كذلك على التدقيق اللغوي.
                  وفقك الله في رئاسة قسم النقد الأدبي بملتقانا الشيق والكبير
                  تحياتي وتقديري لك

                  تعليق

                  يعمل...
                  X