القلوب البيضاء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نورالدين لعوطار
    أديب وكاتب
    • 06-04-2016
    • 712

    القلوب البيضاء

    القلوب البيضاء


    ها قد وجد نفسه على عتبة عرين غريمه و صديقه معا، كان يسير شاردا، إزميل المصائب حفر عميقا في صلابة تركيزه، وسهم الخذلان اخترق قلب عزمه. يومه مليء بالحركة كما الأيام قبله، تفقد الساعة، الليل يدبّ نحو ثلثه الأخير، في لحظات ضعف و وحشة كهذه، لا أجدى ولا أنفع من الغفران فمخزون التحمّل تلاشى و سبل ردّ الاعتبار غير سالكة. فما أسهل أن يرمي الفرد نفسه لوما، قاذفا إياها بالخطأ والتقصير والوافي لن يردّها في وجهه، سيفتح له قلبه الأبيض ليعيدا قطار صحبتهما التي دامت أربعة عقود كاملة إلى سكته الطبيعية.
    بخطى ثابتة تقدم نحو الركن الأيسر القصي من مكتب الاقتراع حين انتصف النهار، وراء الستارة استفرد بورقة التصويت في خلوة شرعية، شعّ اسمه على اللائحة، أشّر عليه، سرت رعشة جسده، تساءل إن كان من سبقوه إلى هذا المخدع صباحا قد استمالهم رمزه وحظي بنظرة إكبار منهم؟ تطلّع نحو الذين سيتشرفون بالخلوة بعده، هل ستعانق علاماتهم صورته؟ أم سيغضّون عنها أبصارهم و تفر منها قلوبهم. مسح على شعره، تمنى لو أن مرآة تعلو هذه المنضدة ليتأكد من صمود دماء وجهه. في هذا المتر المربع الواحد سيتحدّد مصير شعبيته التي كانت جارفة، يومئذ لم يتجرّأ أحد على منازعته، بل خرّ خصومه صرعى، تذكّر اللحظة ذاتها قبل ستّ سنوات، كان حينئذ مقداما صلبا، لم يستعن طيلة حملاته الانتخابية تلك، لا بحسب ولا بنسب، لم يعزف على لحن العشيرة ولم يرقص على أماني الغلابة، لم يتوكّأ على عكازة المال و ضؤل في عينيه كيد السماسرة، كان نجمه وقّادا يعانق علياء السماء والجمع يدفع به إلى كرسي قيادة البلدة. لم يكن من هوّاة المناصب والجاه والمال، كان بسيطا تستوي روحه على تراتيل الإيخاء والمساواة و العدالة، لم يحكم يوما قبضة يده اليسرى مشهرا حدّ لسانه ولاء للشرق، و يده اليمنى ما انبسطت ملوّحة للغرب، حافظ على براءة دقنه الحليق ولم يتغلغل في أوحال العصبية. يحبّ هذه الحيادية التي جبل عليها الأفراد، هذه الحرية التي تعمق الإحساس بالمسؤولية.
    " خذ بطاقتك الوطنية، وحظّا موفقا." هكذا نطق رئيس الصندوق عندما صبغ ظفر إبهام الصافي بمداد لا تمحى آثاره كما وقع سياط الغدر التي اكتوى بها ظهره، فصديقه الوافي الذّي لازمه منذ الطفولة، وكانا يشربان من نبع الوفاء و الصفاء والإخلاص طوال مدة صحبتها سدّد له طعنة غائرة أربكت كل خططه ، تساءل لم تكالب عليه الجميع لاقتلاعه من جذوره؟ أهكذا السياسة؟ أهي كلها مكر وخداع و نفاق؟
    رجع إلى بيته غضبان آسفا ورجلاه لا تقويان على الوقوف وقد هدّهما السهر و العياء، رحبت به أميرة طالبة الهدوء من أبنائها والتوقف عن إزعاج والدهم، شعرها الناعم متدفق على كتفيها، تمطّط على سرير غرفته والرغبة في ضمها إلى صدره تخامره، بياض بشرتها اللؤلئي وبريق عينيها يوقظان جموح الشهوة في جوفه، لا تزال محافظة على بهائها الأصيل، بل تزداد أنوثتها إشراقا وسطوعا بعد كل مولود. رنّ الجرس فقطع عليه نشوة هذه اللحظة التي همّت فيها روحه بالانتعاش. زغرد لسانها بلطف:" قم إلى أنصارك، ولا تجعلهم ينتظرون أكثر، فلربّما زفّوا إليك نبأ سارّا، أو يحتاجون منك لخدمة، لا تتهاون حبيبي فسيف الزمن بتّار والحظ حليف المثابر حتى النفس الأخير."ردّ والدّمع يكاد يغالبه: "ماذا أنا فاعل لولا تضحياتك يا أميرتي، ما كان مصير بيتي وأبنائي لولا اجتهادك؟ دمت سندا و ملاذا آمنا لروعاتي.
    لم يكن هاجسه الأوحد الحفاظ على مقعده في مجلس قيادة البلدة وحده، فلربّما يظفر بالعضوية رغم كيد الناقمين، لكن تراه يحافظ على منصبه كرئيس للبلدة وقد انهالت عليه سياط الدعاية من كل جانب، الشباب الهائج لم يعد يملأ عيونهم أحد منذ أن أزهرت حقول السياسة فرحا بالربيع، ولم تعد لطموحاتهم التدميرية حدود، لسانهم يلهج بالتغيير والرحيل صبحا و مساء. الأعيان ازداد جشعهم وغلظت أمانيهم وقد بزغت فصول القوانين تقضّ راحتهم. السلطة و ما أدراك ما رجال السلطة، كانت له معهم صولات طوال مدة انتدابه، جوعهم لا يُسكت، و مكائدهم لا تنتهي. كانت حربا ضروسا تلك التي خاضها لأعوام، فهبّ الجميع لإبعاده عن الميدان.
    في بيت مطلّ على الشارع العام، مكوّن من طابقين سيستقبل عند المغيب من تكمن من اجتياز الاختبار بنجاح، هناك ينتظره رفاقه، يزيّنون له خططه، يبصمون على أمانيه بالعشر، يشيّدون له أبراج المجد والسلطان: " تمالك نفسك، فكل من رشّحتهم في الدوائر رابحون لا محالة، دائرتك ستهزم فيها الوافي شرّ هزيمة، ستنال الزعامة بأغلبية مريحة، فأنت الفتى الأول في البلدة، ثقافة هائلة، قدرة على التدبير عالية، وجه بشوش حازم يشدّ العيون و تطمئن إليه القلوب، اصمد أيها البطل، واستعدّ للاحتفال."
    عكس المتوقّع كانت الدقائق تمرّ مرّ السحاب، وموعد إغلاق المكاتب يدنو، في يده اليمنى هاتف وفي أذنه اليسرى آخر، بلغت السمسرة مداها عند اصفرار الشمس، رهانه على أحدهم كان خاسرا، فهاتفه لا يستجيب منذ أن صاح في وجهه أن البرصة ارتفعت مؤشراتها والأسهم لم يسبق أن حقّقت هذه القفزات، اشتعلت العلامات الحمراء في وجهه، ففوز منافسي مرشّحيه كفيل بسحب بساط القيادة من تحت قدميه. صعد إلى سطح المبنى يتأمل البلدة و هي تودّع آخر خيوط الشمس أحس بانقباض أنفاسه، فهذا ليس وقت التّأمل والاستمتاع بلحظة الغروب فكلما اختلى بنفسه عظمت عليه الخطوب، هرول نازلا فارّا من هواجسه و المئذنات تودّع صخب النهار بابتهالاتها الرخيمة، والمصابيح تقاوم زحف ظلمة الليل. دق الرّعب باب قلبه حين سيطر الوجوم على رفاقه، بعضهم يؤدي الصلاة، والآخرون يتطلعون إلى هواتفهم متى تريحهم من طول هذا اليوم الثقيل، فالصناديق ألقت ما بجوفها وطاولات الفرز ستكشف أسرارها، تسمع الأنفاس الحارة وبعض الهمهمات الخافتة في الغرف بينما الرؤوس مطرقة والعيون خاشعة. أخيرا جاء أول الغيث فانشرح الجميع، واحد من زملائه في الحزب أصبح عضوا بمجلس البلدة، ثان فثالث فرابع ليغمر الهتاف البيت والعناقات متوالية والسلالم مائجة بين صعود وهبوط بين الدورين. توقف الخبر السّار فاسحا المجال لقصف الرعود ودقّ الطبول فسكن البيت سكونا رهيبا، وبدأ تسلّل متفقدي الأخبار، حصد الحلف المضاد تسعة مقاعد كاملة، أصبحت قيادة البلدة في مهب الريح، جاءت نتيجة حصوله على مقعد دائرته المتأخرة فاترة، انتصار بطعم الهزيمة، أصبح البيت مستوحشا إلا من بعض رفاقه، حتى ثلاثة من زملائه في الحزب فرّوا منه ليعقدوا صفقة مع الناجحين.
    قدماه ممتدتان أمامه، و ظهره مسنود بحائط سطح المبنى، يحاوره جليسه بين الفينة والأخرى، كلام ممزّق لا يصله إلا بعضه، فالأهازيج تملأ الشارع، والزغاريد تطنّ في أذنيه طنينا مزعجا، لم يكن يخطر بباله أن هذه الأفواه المليحة الرقيقة وهذه النغمات الشجية قد تصبح مؤذية إلى هذا الحدّ، همّ بغلق أذنيه لو لم تخنه يداه المشلولتان، كل شيء تحول إلى سراب في لحظة واحدة، يبحث عن نفسه في خضمّ هذه الفوضى فلا يحسّ إلا ببقايا حطام آدمي بأجزاء متناثرة عزّ عليها الالتئام.
    هدأ الشارع و سكن بعد ساعات طويلة كان فيها بين الحياة والموت، لم يفلح حتى في عيش لحظة تشييعه و رؤية نعشه و هو يوارى التراب، كانت مسرحية ساخرة أنتجها أباطرة البلدة و أخرجها صاحب السلطة و شخّصها فتية الربيع. قام من مكانه وقد تحررت أطرافه من أغلالها، تدحرج عبر السلالم غير عابئ بصوت خفيف ينبعث من مكان ما في البيت فعقله لا يزال مخدّرا .
    الشارع أجرد من صحراء، اختار الانعراج مع أول طريق تفضي به إلى الضاحية الجنوبية. " غارق أنت أيها الوافي في لجة خسائرك، خسرتني صديقا، خسرت الانتخابات، خسرت سمعتك الطيبة، لوثتتك السياسة، أهبل أنت ياصديقي حين ظننت أنك ستهزمني بسهولة، كيف فتحت ذراعيك مرحّبا بلعنة الكراسي، من كان يظن أنني سأستميت مدافعا عن منصبي؟ من كان يظن أنني سأستمرئ السباحة في هذه البرك الآسنة، بئس ما تفعل بنا السياسة، لكن ذكي أنا يا صديقي، من سيعزّيك غيري، لن أجعل هذه اللّعبة تمزق روابط الحب السّامية بيننا، لن أنسى حين تنمّر عليّ أطفال الكتّاب، أنت من انتشلني من مخالبهم، كنا ثنائيّا رائعا على الدوام، هكذا سنبقى دوما.
    لمح شبحا يقترب من بيت الوافي متنقلا عبر الظلال، اندلف في خفة، كاد لسان الصافي ينطلق مناديا، لولا أن ألجمه الخوف، أصبح مرعوبا من كل خطوة، رجلاه تقتربان من باب الحديقة همس يتسسل إلى أذنيه:
    ـ تأخرت كثيرا حتى كاد النعاس يغلبني.
    ـ أنت تعلمين أن منظمي الرهان يتأكدون من النتائج قبل إعلانها.
    ـ هل جاءت توقعاتي في محلها.
    ـ ورقتك هي الرابحة، وهذه حصتك.
    ـ كل هذا لي، كم أنا محظوظة، ادخل لنحتفل.
    ـ و زوجك؟
    ـ هه، ذاك المهزوم، لن تجد له أثرا وسيتجرع خيباته وحيدا وبعيدا.
    ارتجفت أوصال الصافي وكادت الصدمة توقعه أرضا ، كيف أصبح بيت الوافي مستباحا إلى هذا الحدّ؟؟؟.. رهانات على نتائج الاقتراع !!!؟.. استوطنه غبن شديد هو يرى ما آلت إليه أحوال البلدة. واصل مسيره إلى بيته والمرارة تمزّق آخر أربطة رشده. دون إزعاج أهله وأبنائه تسلل إلى البيت كاللّصّ، استوت جثّته على وثاب، أغمض عينيه في سكينة، وشوشة تنبعث من غرفة نومه، أميرة تضيئ مصباح الفناء، الوافي يشكرها على مؤانسته في ساعة الشدّة. تنطلق صيحة هستيرية من غرفة الجلوس.
    انتهى،،،
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2
    المشاركة الأصلية بواسطة نورالدين لعوطار مشاهدة المشاركة
    القلوب البيضاء


    ها قد وجد نفسه على عتبة عرين غريمه و صديقه معا، كان يسير شاردا، إزميل المصائب حفر عميقا في صلابة تركيزه، وسهم الخذلان اخترق قلب عزمه. يومه مليء بالحركة كما الأيام قبله، تفقد الساعة، الليل يدبّ نحو ثلثه الأخير، في لحظات ضعف و وحشة كهذه، لا أجدى ولا أنفع من الغفران فمخزون التحمّل تلاشى و سبل ردّ الاعتبار غير سالكة. فما أسهل أن يرمي الفرد نفسه لوما، قاذفا إياها بالخطأ والتقصير والوافي لن يردّها في وجهه، سيفتح له قلبه الأبيض ليعيدا قطار صحبتهما التي دامت أربعة عقود كاملة إلى سكته الطبيعية.
    بخطى ثابتة تقدم نحو الركن الأيسر القصي من مكتب الاقتراع حين انتصف النهار، وراء الستارة استفرد بورقة التصويت في خلوة شرعية، شعّ اسمه على اللائحة، أشّر عليه، سرت رعشة جسده، تساءل إن كان من سبقوه إلى هذا المخدع صباحا قد استمالهم رمزه وحظي بنظرة إكبار منهم؟ تطلّع نحو الذين سيتشرفون بالخلوة بعده، هل ستعانق علاماتهم صورته؟ أم سيغضّون عنها أبصارهم و تفر منها قلوبهم. مسح على شعره، تمنى لو أن مرآة تعلو هذه المنضدة ليتأكد من صمود دماء وجهه. في هذا المتر المربع الواحد سيتحدّد مصير شعبيته التي كانت جارفة، يومئذ لم يتجرّأ أحد على منازعته، بل خرّ خصومه صرعى، تذكّر اللحظة ذاتها قبل ستّ سنوات، كان حينئذ مقداما صلبا، لم يستعن طيلة حملاته الانتخابية تلك، لا بحسب ولا بنسب، لم يعزف على لحن العشيرة ولم يرقص على أماني الغلابة، لم يتوكّأ على عكازة المال و ضؤل في عينيه كيد السماسرة، كان نجمه وقّادا يعانق علياء السماء والجمع يدفع به إلى كرسي قيادة البلدة. لم يكن من هوّاة المناصب والجاه والمال، كان بسيطا تستوي روحه على تراتيل الإيخاء والمساواة و العدالة، لم يحكم يوما قبضة يده اليسرى مشهرا حدّ لسانه ولاء للشرق، و يده اليمنى ما انبسطت ملوّحة للغرب، حافظ على براءة دقنه الحليق ولم يتغلغل في أوحال العصبية. يحبّ هذه الحيادية التي جبل عليها الأفراد، هذه الحرية التي تعمق الإحساس بالمسؤولية.
    " خذ بطاقتك الوطنية، وحظّا موفقا." هكذا نطق رئيس الصندوق عندما صبغ ظفر إبهام الصافي بمداد لا تمحى آثاره كما وقع سياط الغدر التي اكتوى بها ظهره، فصديقه الوافي الذّي لازمه منذ الطفولة، وكانا يشربان من نبع الوفاء و الصفاء والإخلاص طوال مدة صحبتها سدّد له طعنة غائرة أربكت كل خططه ، تساءل لم تكالب عليه الجميع لاقتلاعه من جذوره؟ أهكذا السياسة؟ أهي كلها مكر وخداع و نفاق؟
    رجع إلى بيته غضبان آسفا ورجلاه لا تقويان على الوقوف وقد هدّهما السهر و العياء( التعب ) لأن السهر للعين، رحبت به أميرة طالبة الهدوء من أبنائها والتوقف عن إزعاج والدهم، شعرها الناعم متدفق على كتفيها، تمطّط على سرير غرفته والرغبة في ضمها إلى صدره تخامره، بياض بشرتها اللؤلئي وبريق عينيها يوقظان جموح الشهوة في جوفه، لا تزال محافظة على بهائها الأصيل، بل تزداد أنوثتها إشراقا وسطوعا بعد كل مولود. رنّ الجرس فقطع عليه نشوة هذه اللحظة التي همّت فيها روحه بالانتعاش. زغرد لسانها بلطف:" قم إلى أنصارك، ولا تجعلهم ينتظرون أكثر، فلربّما زفّوا إليك نبأ سارّا، أو يحتاجون منك لخدمة، لا تتهاون حبيبي فسيف الزمن بتّار والحظ حليف المثابر حتى النفس الأخير."ردّ والدّمع يكاد يغالبه: "ماذا أنا فاعل لولا تضحياتك يا أميرتي، ما كان مصير بيتي وأبنائي لولا اجتهادك؟ دمت سندا و ملاذا آمنا لروعاتي.
    لم يكن هاجسه الأوحد الحفاظ على مقعده في مجلس قيادة البلدة وحده، فلربّما يظفر بالعضوية رغم كيد الناقمين، لكن تراه يحافظ على منصبه كرئيس للبلدة وقد انهالت عليه سياط الدعاية من كل جانب، الشباب الهائج لم يعد يملأ عيونهم أحد منذ أن أزهرت حقول السياسة فرحا بالربيع، ولم تعد لطموحاتهم التدميرية حدود، لسانهم يلهج بالتغيير والرحيل صبحا و مساء. الأعيان ازداد جشعهم وغلظت أمانيهم وقد بزغت فصول القوانين تقضّ راحتهم. السلطة و ما أدراك ما رجال السلطة، كانت له معهم صولات طوال مدة انتدابه، جوعهم لا يُسكت، و مكائدهم لا تنتهي. كانت حربا ضروسا تلك التي خاضها لأعوام، فهبّ الجميع لإبعاده عن الميدان.
    في بيت مطلّ على الشارع العام، مكوّن من طابقين سيستقبل عند المغيب من تكمن من اجتياز الاختبار بنجاح، هناك ينتظره رفاقه، يزيّنون له خططه، يبصمون على أمانيه بالعشر، يشيّدون له أبراج المجد والسلطان: " تمالك نفسك، فكل من رشّحتهم في الدوائر رابحون لا محالة، دائرتك ستهزم فيها الوافي شرّ هزيمة، ستنال الزعامة بأغلبية مريحة، فأنت الفتى الأول في البلدة، ثقافة هائلة، قدرة على التدبير عالية، وجه بشوش حازم يشدّ العيون و تطمئن إليه القلوب، اصمد أيها البطل، واستعدّ للاحتفال."
    عكس المتوقّع كانت الدقائق تمرّ مرّ السحاب، وموعد إغلاق المكاتب يدنو، في يده اليمنى هاتف وفي أذنه اليسرى آخر، بلغت السمسرة مداها عند اصفرار الشمس، رهانه على أحدهم كان خاسرا، فهاتفه لا يستجيب منذ أن صاح في وجهه أن البرصة ارتفعت مؤشراتها والأسهم لم يسبق أن حقّقت هذه القفزات، اشتعلت العلامات الحمراء في وجهه، ففوز منافسي مرشّحيه كفيل بسحب بساط القيادة من تحت قدميه. صعد إلى سطح المبنى يتأمل البلدة و هي تودّع آخر خيوط الشمس أحس بانقباض أنفاسه، فهذا ليس وقت التّأمل والاستمتاع بلحظة الغروب فكلما اختلى بنفسه عظمت عليه الخطوب، هرول نازلا فارّا من هواجسه و المئذنات تودّع صخب النهار بابتهالاتها الرخيمة، والمصابيح تقاوم زحف ظلمة الليل. دق الرّعب باب قلبه حين سيطر الوجوم على رفاقه، بعضهم يؤدي الصلاة، والآخرون يتطلعون إلى هواتفهم متى تريحهم من طول هذا اليوم الثقيل، فالصناديق ألقت ما بجوفها وطاولات الفرز ستكشف أسرارها، تسمع الأنفاس الحارة وبعض الهمهمات الخافتة في الغرف بينما الرؤوس مطرقة والعيون خاشعة. أخيرا جاء أول الغيث فانشرح الجميع، واحد من زملائه في الحزب أصبح عضوا بمجلس البلدة، ثان فثالث فرابع ليغمر الهتاف البيت والعناقات متوالية والسلالم مائجة بين صعود وهبوط بين الدورين. توقف الخبر السّار فاسحا المجال لقصف الرعود ودقّ الطبول فسكن البيت سكونا رهيبا، وبدأ تسلّل متفقدي الأخبار، حصد الحلف المضاد تسعة مقاعد كاملة، أصبحت قيادة البلدة في مهب الريح، جاءت نتيجة حصوله على مقعد دائرته المتأخرة فاترة، انتصار بطعم الهزيمة، أصبح البيت مستوحشا إلا من بعض رفاقه، حتى ثلاثة من زملائه في الحزب فرّوا منه ليعقدوا صفقة مع الناجحين.
    قدماه ممتدتان أمامه، و ظهره مسنود بحائط سطح المبنى، يحاوره جليسه بين الفينة والأخرى، كلام ممزّق لا يصله إلا بعضه، فالأهازيج تملأ الشارع، والزغاريد تطنّ في أذنيه طنينا مزعجا، لم يكن يخطر بباله أن هذه الأفواه المليحة الرقيقة وهذه النغمات الشجية قد تصبح مؤذية إلى هذا الحدّ، همّ بغلق أذنيه لو لم تخنه يداه المشلولتان، كل شيء تحول إلى سراب في لحظة واحدة، يبحث عن نفسه في خضمّ هذه الفوضى فلا يحسّ إلا ببقايا حطام آدمي بأجزاء متناثرة عزّ عليها الالتئام.
    هدأ الشارع و سكن بعد ساعات طويلة كان فيها بين الحياة والموت، لم يفلح حتى في عيش لحظة تشييعه و رؤية نعشه و هو يوارى التراب، كانت مسرحية ساخرة أنتجها أباطرة البلدة و أخرجها صاحب السلطة و شخّصها فتية الربيع. قام من مكانه وقد تحررت أطرافه من أغلالها، تدحرج عبر السلالم غير عابئ بصوت خفيف ينبعث من مكان ما في البيت فعقله لا يزال مخدّرا .
    الشارع أجرد من صحراء، اختار الانعراج مع أول طريق تفضي به إلى الضاحية الجنوبية. " غارق أنت أيها الوافي في لجة خسائرك، خسرتني صديقا، خسرت الانتخابات، خسرت سمعتك الطيبة، لوثتتك السياسة، أهبل أنت ياصديقي حين ظننت أنك ستهزمني بسهولة، كيف فتحت ذراعيك مرحّبا بلعنة الكراسي، من كان يظن أنني سأستميت مدافعا عن منصبي؟ من كان يظن أنني سأستمرئ السباحة في هذه البرك الآسنة، بئس ما تفعل بنا السياسة، لكن ذكي أنا يا صديقي، من سيعزّيك غيري، لن أجعل هذه اللّعبة تمزق روابط الحب السّامية بيننا، لن أنسى حين تنمّر عليّ أطفال الكتّاب، أنت من انتشلني من مخالبهم، كنا ثنائيّا رائعا على الدوام، هكذا سنبقى دوما.
    لمح شبحا يقترب من بيت الوافي متنقلا عبر الظلال، اندلف في خفة، كاد لسان الصافي ينطلق مناديا، لولا أن ألجمه الخوف، أصبح مرعوبا من كل خطوة، رجلاه تقتربان من باب الحديقة همس يتسسل إلى أذنيه:
    ـ تأخرت كثيرا حتى كاد النعاس يغلبني.
    ـ أنت تعلمين أن منظمي الرهان يتأكدون من النتائج قبل إعلانها.
    ـ هل جاءت توقعاتي في محلها.
    ـ ورقتك هي الرابحة، وهذه حصتك.
    ـ كل هذا لي، كم أنا محظوظة، ادخل لنحتفل.
    ـ و زوجك؟
    ـ هه، ذاك المهزوم، لن تجد له أثرا وسيتجرع خيباته وحيدا وبعيدا.
    ارتجفت أوصال الصافي وكادت الصدمة توقعه أرضا ، كيف أصبح بيت الوافي مستباحا إلى هذا الحدّ؟؟؟.. رهانات على نتائج الاقتراع !!!؟.. استوطنه غبن شديد هو يرى ما آلت إليه أحوال البلدة. واصل مسيره إلى بيته والمرارة تمزّق آخر أربطة رشده. دون إزعاج أهله وأبنائه تسلل إلى البيت كاللّصّ، استوت جثّته على وثاب، أغمض عينيه في سكينة، وشوشة تنبعث من غرفة نومه، أميرة تضيئ مصباح الفناء، الوافي يشكرها على مؤانسته في ساعة الشدّة. تنطلق صيحة هستيرية من غرفة الجلوس.
    انتهى،،،
    حسنا عزيزي
    مساء الورد عليك
    إذن كان رهين الخيانة
    ياربي موجعة الحياة بهذا الشكل والصراع
    لك اسلوب أدباء الروايه وبظني لو شرعت بكتابة رواية ستنجح كثيرا وستنهيها بوقت قياسي
    استخدمت جملا رائعة وقوية مما أعطى النص قوة وبلاغه
    الحوار برأيي يحتاج مراجعة وتكثيف خاصة بين الزوجة والوافي لأن الحوار يأخذ من النص لو لم يكون محبكا فهو سيف ذو حدين عزيزي
    هناك بعض الهنات البسيطة لونتها لك ( موف/ بنفسجي ) واللون الأزرق لمقترحات
    لكن النص جميل وسردك ماتع وشفاف يستحق القراءة والتعب لهذا أشرت عليك بالمراجعه
    لك نفس وملكة القص تؤشر على تمكنك مع محبتي وغابات الورد
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • حسن لشهب
      أديب وكاتب
      • 10-08-2014
      • 654

      #3
      ماذا عساني أقول ؟
      هل أكرر ما سبق أن قيل !
      أم الأفضل هو المختصر المفيد؟
      روائي أنت ومن طراز رفيع.
      شكرا لإبداعك الجميل.

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        قرأت
        فقط أحتاج لقراءة أخرى لأكون قريبا منك !

        تحياتي
        sigpic

        تعليق

        • نورالدين لعوطار
          أديب وكاتب
          • 06-04-2016
          • 712

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
          حسنا عزيزي
          مساء الورد عليك
          إذن كان رهين الخيانة
          ياربي موجعة الحياة بهذا الشكل والصراع
          لك اسلوب أدباء الروايه وبظني لو شرعت بكتابة رواية ستنجح كثيرا وستنهيها بوقت قياسي
          استخدمت جملا رائعة وقوية مما أعطى النص قوة وبلاغه
          الحوار برأيي يحتاج مراجعة وتكثيف خاصة بين الزوجة والوافي لأن الحوار يأخذ من النص لو لم يكون محبكا فهو سيف ذو حدين عزيزي
          هناك بعض الهنات البسيطة لونتها لك ( موف/ بنفسجي ) واللون الأزرق لمقترحات
          لكن النص جميل وسردك ماتع وشفاف يستحق القراءة والتعب لهذا أشرت عليك بالمراجعه
          لك نفس وملكة القص تؤشر على تمكنك مع محبتي وغابات الورد
          كانت القصّة القصيرة لا تعتبر قصيرة إلا عندما تتجاوز مدّة قراءتها 15دقيقة على أن لا تتجاوز 45 دقيقة
          وهناك من يقول القصّة القصيرة زمنيا محدودة في ثلاثة أيام و مكانيا في ثلاثة مواضع، مع ثلاث شخصيات رئيسة دائرية، مع ثلاثة أحداث.
          الأسلوب يختلف من كاتب إلى كاتب
          الحوار ركن أساسي يجعل القصّة القصيرة حيّة.
          ..........
          ما أريد قوله هو أن الأقصوصة تطوّرت، لكن ما قدرة هذا التطوير على الصّمود، هذا موضوع آخر. بل تناسل من الأقصوصة ماهو قصير وماهو قصير جدّا وماهو ومضة، هي أشكال تعبيرية جديدة. تحاول أن تجد لها وجودا فعليا. ربّما قد تصل.

          وجدتك هنا متألقة كعادتك
          شكرا حول تنبيهك الجميل حول حلق نقطة ذال الذّقن هههه.

          تقديري الوافي

          تعليق

          • نورالدين لعوطار
            أديب وكاتب
            • 06-04-2016
            • 712

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة حسن لشهب مشاهدة المشاركة
            ماذا عساني أقول ؟
            هل أكرر ما سبق أن قيل !
            أم الأفضل هو المختصر المفيد؟
            روائي أنت ومن طراز رفيع.
            شكرا لإبداعك الجميل.
            أستاذي الغالي
            شكرا على دعمك و مساندتك
            وعلى استمتاعك
            وعلى ذوقك

            احترامي

            تعليق

            • نورالدين لعوطار
              أديب وكاتب
              • 06-04-2016
              • 712

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
              قرأت
              فقط أحتاج لقراءة أخرى لأكون قريبا منك !

              تحياتي
              أهلا بكم أستاذي
              شرف هذا الحضور
              وزيادة في الكرم أن تعود

              سلامي

              تعليق

              • ربيع عقب الباب
                مستشار أدبي
                طائر النورس
                • 29-07-2008
                • 25792

                #8
                الحياة على حافر ثور
                لعبة مربكة و شاقة
                و صراع من أجل البقاء .. و لكن البقاء في ماذا ؟
                ما بين أصدقاء و محبين إما أعداء و منافسين
                أهذه هي طبيعة الحياة التي نحلم و نرجو فيها أن نتحقق و أن نعيش السعادة في حياة قد تطول أو تقصر ؟
                هل اختلفت عن عصور الغابة و الجبل ؟
                و ربما كانت عصور الغابة و الجبل أكثر احتراما لأنها لم تكن مواجهة بين الرجل و الرجل أو الانثى و الأنثى .. بل كانت بين الرجل و عوامل الطبيعة في الحياة من كائنات أخرى و ظواهر جوية أو برية !
                ثم تطور الأمر و أصبح الصراع على شيء بعينه .. على السطوة و أظهار الجبروت و المنعة
                و لا أظن إلا أنه بحكم التطور البشري و سطوة المدينة قد تطور و تعقد و أصبحت القوة في الرأس و حبك الخيوط حول الضحية
                و في بعض الأحيان تكون القوة العضلية أو المادية ( في حال الدول و احكام السيطرة )
                و كما رأينا قديما و في ظل الأديان كانت الحكاية قريبة الشبه للمنتصر الحق في كل شيء حتى أعز و أدنى ما يملك المهزوم و لو كانت نفسه الساكنة بين ضلوعه

                رحلة قاسية و رسم صادق و إن كانت لغتك الرقيقة في كثير من الأحيان تحدث الغموض و الخدعة !

                تحياتي أستاذي
                sigpic

                تعليق

                • نورالدين لعوطار
                  أديب وكاتب
                  • 06-04-2016
                  • 712

                  #9
                  الاستاذ ربيع عقب الباب

                  مرحبا بكم أستاذي
                  في دائرة السياسة، ليس هناك مهادنة إلا كتكتيك، هناك يظهر الصّراع الحقيقي، هناك تعرف الحقيقة مختلفة نوعا ما عن تلك المهدّئات التي تلتهمها النفوس البيضاء بنهم فتستطيب حياتها، تحس السعادة والحرية، وهمان لهما ذوق جميل، ينسيان حقيقة الصراع، لكن العجلة لا تتوقف، تسير، يقودها ذوو بأس شديد، تستهلك جبروتهم وتفرغهم من سطوتهم، فيجدون أنفسهم خدعوا بها، فيسألون أين اللذة وأين السعادة، وأين القوّة، ماذا يحدث؟ حكاية لن تعقل أبدا، لأن هناك من بدأت عنده بشكل مختلف و بزغ إلى النور وصوته مسموع، عزف على الأماني المخبوءة، عزف على حلم مفقود، على سعادة مرجوّة على عدل سينثره في الأرجاء، فما الإنسان؟ ذاك الذي يعد أم ذاك الذي يصدّق أم كلاهما؟ سؤال يحاول النصّ أن يطرحه متسائلا عن بياض القلوب؟

                  تعليق

                  • بسباس عبدالرزاق
                    أديب وكاتب
                    • 01-09-2012
                    • 2008

                    #10
                    أحب النصوص الدسمة

                    نص سأعود إليه
                    تحية تقدير واحترام

                    محبتي أستاذي نورالدين
                    السؤال مصباح عنيد
                    لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

                    تعليق

                    • بسباس عبدالرزاق
                      أديب وكاتب
                      • 01-09-2012
                      • 2008

                      #11
                      نص كبير
                      بعد قراءة ثانية استطعت الولوج لعالمك الرحب
                      استخدامك للألفاظ يؤكد أنك تحترم الكلمة وتعرف كيف تجعلها في تفاعل مع بقية النص

                      الصافي لم يكن بيته وحياته صفاء
                      والوافي لم تكن زوجته وفية كما هو تماما

                      رائع جدا
                      استمتعت كثيرا بالنص
                      السؤال مصباح عنيد
                      لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

                      تعليق

                      • نورالدين لعوطار
                        أديب وكاتب
                        • 06-04-2016
                        • 712

                        #12
                        أخي المبدع المتألق بسباس عبد الرزاق

                        شكرا لهذه العودة المشبعة بالجمال و التذوق والانتشاء بحب القراءة والتفاعل معها بصدق
                        تقديري أيها الكاتب النبيل

                        تعليق

                        يعمل...
                        X