الغروب
تدخل إلى البيت والفرحة تغمر قلبها، من غرفة إلى غرفة تنتقل برشاقة العصافير، تقبّل أمها، تُعانق أخاها وأخيرا تصل عند أبيها القاعد على كرسيّ يلازمه كلما أراد التّنزه عبر البيت الصغير أوالحديقة المنشرحة بورود وزهور تتغازل فيها الألوان، تقبّل جبينه وتضع يديها على رجليه المنتفختين الجامدتين الثّقليتين وتهمس عند أذنه وهي تدفع الكرسي نحو الحديقة: "سأكون قدميك اللّتين تطوف بهما الدّنيا، ستراها يا أبي بعينيّ مضاءة مسرورة، سأمسح عن نظّارتيك سوادهما لترى الوجود كما كان جميلا، يا أبي حمرة الشفق كما ضياء الصباح، يا أبي روعة الأصيل وظلال الزوال، يا أبي رشة المطر الخفيف ومنظر الثلج المهيب، يا أبي هبّ للحياة فهي لا تزال جميلة" سمعت الأب يلوك بعض كلمات أقرب إلى أهات وزفرات أنفية، فلسانه الثقيل وفكّه المشدود وريقه الذي يبلّل شفتيه كلها تحول دون طلاقة كلامه حتى أضحى همهمة غريبة، لكنها متيقنة من كونها عربون محبة، وباقات تشجيع.
كل أفراد الأسرة تأثروا بما حدث منذ ثلاثة أشهر، هناك في الحقل وجدته الأم معوجا معقوفا مصروعا.بشرى ترى فيه الأب الحنون الذي يلاعب شغبها الطفولي، كانا كصديقين لا يملان من المزاح، يتلاسنان بالأحاجي الفكاهية، يتنابزان بالألقاب الهزلية، يغضّان الطرف عن الهفوات ويكبر الواحد فيهما مناولات الآخر. تتذكر بشرى يوم رست على المقعد الخامس من عقدها الثاني وتهيأت لأبيها امرأة صفعت آخر شياطين الطفولة بدخولها إلى الثانوية، كان يقول لها ترجّلي يا ابنتي وتماسكي فما عدت طفلة صغيرة، تجهّمت ملامحها وقالت بنبرة حزينة: " لا يا بطلي ..لا .. مازلت طفلتك ولايزال دلعك يشملني بدفء الطمأنينة، وخفة ظلك ينعشني نداها، كتلك الزهرة المطلّة على استحياء بين الأوارق الخضراء، يا أبي لاتطلب منّي إلا أن أبقى صغيرتك المدللة."
اليوم آخر عهدها بالثانوي في الغد القريب ستتربع على كراسي الجامعة، ستغادر القرية. تنظر إلى الحديقة التي ستفتقدها كثيرا، استوى بصرها على كرسيّ أبيها الجاثم تحت الدّوحة الظليلة، تتأمل جدران المنزل الطينية الشاهدة على تاريخها البشوش، على مجد الطفولة السامق الشامخ، مشت بخطوات وئيدة نحو بوابة المزرعة، هناك لا تزال البقرة الحلوب تتهادى في مشيتها مثقلة الضّرع، لسانها يلف حزم الحشائش فتقتلعها بنهم، ذنبها يسوط حشرات تقض راحتها. عجلها يقفز مع الفراشات في المرج الأخضر ويرسل ركلاته للهواء. كان الجو هادئا و بعض نسيم المساء يلطف حرارة الشمس، تعود ببصرها إلى كرسيّ والدها. هرعت نحوه، جعلته يستقبل مغيب الشمس، على صهوة ربوة تكسوها أشجار البلوط، تبدو قويّة مشعة رغم ما شاب صفاءها من احمرار العياء وقد اكملت عبور السماء، نظرت بشرى إلى لوحة الغروب تشع في عيني والدها، أحست بغروب طفولتها، و ذهابها إلى غير رجعة، الجامعة هي المسؤولية، هي الاعتماد على النفس، تأملت غروب صلابة والدها الذي تحول إلى قطعة معطوبة، كومة بلا طعم ولا رائحة، كانت الشمس تهوي في منحدرها ويستقبلها قبرها عندما سمعت آخر زفرة صاعدة من جوفه محركة الكرسي الذي ارتج بين أصابعها، فاستعادت نفسها المتناثرة، سبقت دمعة كل أحاسيسها، مسحتها على عجل، تتأكد من غروب الشمس و سفر والدها إلى عالم آخر، إلى شروق جديد، هناك في عالم الجامعة ستبدأ لونا حياتيا جديدا، ستلهو يوما أو بعض يوم في انتظار لحظة غروب أخرى.
تدخل إلى البيت والفرحة تغمر قلبها، من غرفة إلى غرفة تنتقل برشاقة العصافير، تقبّل أمها، تُعانق أخاها وأخيرا تصل عند أبيها القاعد على كرسيّ يلازمه كلما أراد التّنزه عبر البيت الصغير أوالحديقة المنشرحة بورود وزهور تتغازل فيها الألوان، تقبّل جبينه وتضع يديها على رجليه المنتفختين الجامدتين الثّقليتين وتهمس عند أذنه وهي تدفع الكرسي نحو الحديقة: "سأكون قدميك اللّتين تطوف بهما الدّنيا، ستراها يا أبي بعينيّ مضاءة مسرورة، سأمسح عن نظّارتيك سوادهما لترى الوجود كما كان جميلا، يا أبي حمرة الشفق كما ضياء الصباح، يا أبي روعة الأصيل وظلال الزوال، يا أبي رشة المطر الخفيف ومنظر الثلج المهيب، يا أبي هبّ للحياة فهي لا تزال جميلة" سمعت الأب يلوك بعض كلمات أقرب إلى أهات وزفرات أنفية، فلسانه الثقيل وفكّه المشدود وريقه الذي يبلّل شفتيه كلها تحول دون طلاقة كلامه حتى أضحى همهمة غريبة، لكنها متيقنة من كونها عربون محبة، وباقات تشجيع.
كل أفراد الأسرة تأثروا بما حدث منذ ثلاثة أشهر، هناك في الحقل وجدته الأم معوجا معقوفا مصروعا.بشرى ترى فيه الأب الحنون الذي يلاعب شغبها الطفولي، كانا كصديقين لا يملان من المزاح، يتلاسنان بالأحاجي الفكاهية، يتنابزان بالألقاب الهزلية، يغضّان الطرف عن الهفوات ويكبر الواحد فيهما مناولات الآخر. تتذكر بشرى يوم رست على المقعد الخامس من عقدها الثاني وتهيأت لأبيها امرأة صفعت آخر شياطين الطفولة بدخولها إلى الثانوية، كان يقول لها ترجّلي يا ابنتي وتماسكي فما عدت طفلة صغيرة، تجهّمت ملامحها وقالت بنبرة حزينة: " لا يا بطلي ..لا .. مازلت طفلتك ولايزال دلعك يشملني بدفء الطمأنينة، وخفة ظلك ينعشني نداها، كتلك الزهرة المطلّة على استحياء بين الأوارق الخضراء، يا أبي لاتطلب منّي إلا أن أبقى صغيرتك المدللة."
اليوم آخر عهدها بالثانوي في الغد القريب ستتربع على كراسي الجامعة، ستغادر القرية. تنظر إلى الحديقة التي ستفتقدها كثيرا، استوى بصرها على كرسيّ أبيها الجاثم تحت الدّوحة الظليلة، تتأمل جدران المنزل الطينية الشاهدة على تاريخها البشوش، على مجد الطفولة السامق الشامخ، مشت بخطوات وئيدة نحو بوابة المزرعة، هناك لا تزال البقرة الحلوب تتهادى في مشيتها مثقلة الضّرع، لسانها يلف حزم الحشائش فتقتلعها بنهم، ذنبها يسوط حشرات تقض راحتها. عجلها يقفز مع الفراشات في المرج الأخضر ويرسل ركلاته للهواء. كان الجو هادئا و بعض نسيم المساء يلطف حرارة الشمس، تعود ببصرها إلى كرسيّ والدها. هرعت نحوه، جعلته يستقبل مغيب الشمس، على صهوة ربوة تكسوها أشجار البلوط، تبدو قويّة مشعة رغم ما شاب صفاءها من احمرار العياء وقد اكملت عبور السماء، نظرت بشرى إلى لوحة الغروب تشع في عيني والدها، أحست بغروب طفولتها، و ذهابها إلى غير رجعة، الجامعة هي المسؤولية، هي الاعتماد على النفس، تأملت غروب صلابة والدها الذي تحول إلى قطعة معطوبة، كومة بلا طعم ولا رائحة، كانت الشمس تهوي في منحدرها ويستقبلها قبرها عندما سمعت آخر زفرة صاعدة من جوفه محركة الكرسي الذي ارتج بين أصابعها، فاستعادت نفسها المتناثرة، سبقت دمعة كل أحاسيسها، مسحتها على عجل، تتأكد من غروب الشمس و سفر والدها إلى عالم آخر، إلى شروق جديد، هناك في عالم الجامعة ستبدأ لونا حياتيا جديدا، ستلهو يوما أو بعض يوم في انتظار لحظة غروب أخرى.
تعليق