يقبع في غرفة صغيرة من الإسمنت المسلح ذات حيطان بيضاء صماء، من دون نوافذ، واجهتها الأمامية تطل على ساحة فسيحة، نصبت وسطها مشنقة، وتحيط بها مدرجات غاصة بالمتفرجين، كان يتابع المشهد بعينين قلقتين. فتح الباب حارس غليظ القلب، بارد القسمات، مده بخمسة ألواح، وأخبره: واحدة هي التي تحمل خلاصك، فأحسن الإختيار!
كيف يحسن الاختيار؟ هل رفع عنه الحجاب؟!
منحسر الجسد في ما يشبه كيس ليمون ينتظر لحظة العصر، أغمض عينيه متسائلا:
لم أنا هنا؟
أنا رجل مسالم، أحب السير في الظل، لصق الحائط، ما سبق لي الانتماء لا لحزب سري ولا لحزب علني، ولم أكن عضوا في نقابة، وحتى جمعية حينا لم أقربها بنسب، لا أريد صداعا مع السلطة. فهل احترام الجيران لي يمكن أن يكون السبب؟ إذا، يمكنني، لو علمت بذلك، تغيير سكني، والابتعاد عن الناس، ولن أخوض في أحاديث السياسة، وهل خضتها قبلا؟!أكيد: لا؛ فشعاري الأساس: لا أريد وجع رأس
فتح عينيه، تلمس الألواح بلمسات حانية عساها تبوح له بالسر، قربها من بصره، يريد أن يخترق حجبها ويطالع الرموز، ويكتشف اللوح المخلص، لكنه لا يمتلك أشعة سينية، يقربها من قلبه، فالبصيرة أقوى من البصر، لكن الألواح بقيت صامتة، قلبه يخفق بسرعة، والجبين يتفصد عرقا، يتنفس بسرعة، يشعر باختلاجات متتابعة في عضلات صدره، دمع حار يسل على خديه، ينظر إلى الساعة المعلقة أمامه، يراها تسرع، لأول مرة يدرك معنى أن الوقت كالسيف، إنه مسلط على رقبه، يحزها ببطء، عليه أن يسرع، قبل فوات الأوان، والأوان أرنب، يشعر بغضب، أكبر من الغضب الذي شعر به يوم قالت له زوجته:
اخرج لجلب علبة الحليب لابننا..
وكانت نفساء، لم ينجبا إلا بصعوبة، وبعد فحوصات واختبارات..
دعي الأمر إلى الغد. أشعر بانقباض صدري، اللهم اجعله خيرا..
كفاك تهربا، اخرج الآن، الطفل بحاجة للحليب..ولا تتحجج بالخرافات.
ارضعيه ما في ثديك من حليب..
تعلم أن صدري لا يتوفر إلا على القليل، وما أشبعه، لقد امتص كل ما فيه، حتى شعرت بالألم..هيا، اخرج سريعا.
وخرج على مضض، يدمدم بكلمات غير مسموعة، خوفا من غضبها، وجد الصيدلية القريبة من محل سكناه مغلقة، ولا التي أبعد منها. أخبره أحد المارة بالذهاب إلى صيدلية الساحة العمومية؛ فهي الوحيدة المفتوحة لحد الساعة، وعليه أن يسرع قبل أن تغلق ويجتمع الناس. حث الخطو متذمرا، وما إن وصل حتى وجد الساحة غاصة بالمتظاهرين، شعر بخوف شديد، وازداد لما قدمت الشرطة بسياراتها المصفحة، وخراطيم مياهها، وهراوات رجالها، فعدا كما عدا الناس، تلمس النجاة، لكن الشرطة حاصرته، واقتادته إلى مخفرها غير عابئة بتوسلاته، فهو ، في نظرها، أحد المشاركين في الانقلاب الفاشل، هكذا قيل له. يا للهول! كيف أفسر لهم أني ضحية سوء تقدير وحكم، لم يجد أذنا صاغية، حسم الأمر، وها هو قابع في هذه الغرفة الصغيرة، يقلب الألواح بقلب راجف، بحثا عن اللوح المخلص، كما لو كان يبحث عن كنز بخريطة ملغزة. يستحضر صورة طفله، يبتسم مبددا، للحظة، العبوس المقيم، ثم يعود إلى نحيبه.
يرى المشهد التالي حيا في مخيلته: ما ان يتم تعليق الحبل في رقبته ويتم فتح البوابة السفلية حتى يسقط جسده متدليا للاسفل ليتم فورا كسر حبله الشوكي وحدوث الوفاة فورا. يشعر بألم يجتاح كيانه كاملا، أيها الطيب، يقول في نفسه: لا داعي لجس نبضي، فأنا ميت قبل ولوج هذه الغرفة المنحوسة!
كانت يداه ترتجفان، والوقت يسير باتجاه نهايته، وضربات القلب تعلو، وتعلو، والعرق يتصبب منه، وفي الأخير، ولم يبق سوى ثانية واحد، وضع إصبعه على لوح واحد، قرأ آية الكرسي قبل اختياره، رفعه إلى أعلى، وألصقه بالزجاجة الأمامية، واستدار إلى الحائط ملتصقا به، كان يرتجف بشدة، ومن قنة رأسه يسيل عرق بارد يهبط مع مهوى عموده الفقري، ومن بين رجليه ينبجس ماء دافئ أشعره بوجوه..
مرت ألة كهربائية على اللوح، مرسلة أشعة تقرأ رموز اللوح، وتعكسها على شاشة كبيرة وضعت خصيصا أمام الجميع ليروا النتيجة.
استدار ببطء، والقلب في اوج خفقانه، حين سمع صراخ الحاضرين، نظر إلى الشاشة متوسلا، لم يصدق ما رأته عيناه، فخر مغشيا عليه.
كيف يحسن الاختيار؟ هل رفع عنه الحجاب؟!
منحسر الجسد في ما يشبه كيس ليمون ينتظر لحظة العصر، أغمض عينيه متسائلا:
لم أنا هنا؟
أنا رجل مسالم، أحب السير في الظل، لصق الحائط، ما سبق لي الانتماء لا لحزب سري ولا لحزب علني، ولم أكن عضوا في نقابة، وحتى جمعية حينا لم أقربها بنسب، لا أريد صداعا مع السلطة. فهل احترام الجيران لي يمكن أن يكون السبب؟ إذا، يمكنني، لو علمت بذلك، تغيير سكني، والابتعاد عن الناس، ولن أخوض في أحاديث السياسة، وهل خضتها قبلا؟!أكيد: لا؛ فشعاري الأساس: لا أريد وجع رأس
فتح عينيه، تلمس الألواح بلمسات حانية عساها تبوح له بالسر، قربها من بصره، يريد أن يخترق حجبها ويطالع الرموز، ويكتشف اللوح المخلص، لكنه لا يمتلك أشعة سينية، يقربها من قلبه، فالبصيرة أقوى من البصر، لكن الألواح بقيت صامتة، قلبه يخفق بسرعة، والجبين يتفصد عرقا، يتنفس بسرعة، يشعر باختلاجات متتابعة في عضلات صدره، دمع حار يسل على خديه، ينظر إلى الساعة المعلقة أمامه، يراها تسرع، لأول مرة يدرك معنى أن الوقت كالسيف، إنه مسلط على رقبه، يحزها ببطء، عليه أن يسرع، قبل فوات الأوان، والأوان أرنب، يشعر بغضب، أكبر من الغضب الذي شعر به يوم قالت له زوجته:
اخرج لجلب علبة الحليب لابننا..
وكانت نفساء، لم ينجبا إلا بصعوبة، وبعد فحوصات واختبارات..
دعي الأمر إلى الغد. أشعر بانقباض صدري، اللهم اجعله خيرا..
كفاك تهربا، اخرج الآن، الطفل بحاجة للحليب..ولا تتحجج بالخرافات.
ارضعيه ما في ثديك من حليب..
تعلم أن صدري لا يتوفر إلا على القليل، وما أشبعه، لقد امتص كل ما فيه، حتى شعرت بالألم..هيا، اخرج سريعا.
وخرج على مضض، يدمدم بكلمات غير مسموعة، خوفا من غضبها، وجد الصيدلية القريبة من محل سكناه مغلقة، ولا التي أبعد منها. أخبره أحد المارة بالذهاب إلى صيدلية الساحة العمومية؛ فهي الوحيدة المفتوحة لحد الساعة، وعليه أن يسرع قبل أن تغلق ويجتمع الناس. حث الخطو متذمرا، وما إن وصل حتى وجد الساحة غاصة بالمتظاهرين، شعر بخوف شديد، وازداد لما قدمت الشرطة بسياراتها المصفحة، وخراطيم مياهها، وهراوات رجالها، فعدا كما عدا الناس، تلمس النجاة، لكن الشرطة حاصرته، واقتادته إلى مخفرها غير عابئة بتوسلاته، فهو ، في نظرها، أحد المشاركين في الانقلاب الفاشل، هكذا قيل له. يا للهول! كيف أفسر لهم أني ضحية سوء تقدير وحكم، لم يجد أذنا صاغية، حسم الأمر، وها هو قابع في هذه الغرفة الصغيرة، يقلب الألواح بقلب راجف، بحثا عن اللوح المخلص، كما لو كان يبحث عن كنز بخريطة ملغزة. يستحضر صورة طفله، يبتسم مبددا، للحظة، العبوس المقيم، ثم يعود إلى نحيبه.
يرى المشهد التالي حيا في مخيلته: ما ان يتم تعليق الحبل في رقبته ويتم فتح البوابة السفلية حتى يسقط جسده متدليا للاسفل ليتم فورا كسر حبله الشوكي وحدوث الوفاة فورا. يشعر بألم يجتاح كيانه كاملا، أيها الطيب، يقول في نفسه: لا داعي لجس نبضي، فأنا ميت قبل ولوج هذه الغرفة المنحوسة!
كانت يداه ترتجفان، والوقت يسير باتجاه نهايته، وضربات القلب تعلو، وتعلو، والعرق يتصبب منه، وفي الأخير، ولم يبق سوى ثانية واحد، وضع إصبعه على لوح واحد، قرأ آية الكرسي قبل اختياره، رفعه إلى أعلى، وألصقه بالزجاجة الأمامية، واستدار إلى الحائط ملتصقا به، كان يرتجف بشدة، ومن قنة رأسه يسيل عرق بارد يهبط مع مهوى عموده الفقري، ومن بين رجليه ينبجس ماء دافئ أشعره بوجوه..
مرت ألة كهربائية على اللوح، مرسلة أشعة تقرأ رموز اللوح، وتعكسها على شاشة كبيرة وضعت خصيصا أمام الجميع ليروا النتيجة.
استدار ببطء، والقلب في اوج خفقانه، حين سمع صراخ الحاضرين، نظر إلى الشاشة متوسلا، لم يصدق ما رأته عيناه، فخر مغشيا عليه.
تعليق