حط بالمدينة صباحا، يحمل في نفسه عظيم الآمال، تلك التي يكاتبها، يجاملها، يلاطفها، استولت على قلبه وأصبح هائما، كلما هم بإبعادها عن حدائق أحلامه، تعود لترصّع الأمنيات بزهرات متفتحة، فيتراءى له الآتي جنة معطاء، تتعانق أشجارها وتتفاخر ثمارها اليانعة، تستمتع أحاسيسه بنغمات الطيور المغردة فيها، يلامس ريش الطاووس، يسبح مع البطات في أحواضها وغدرانها، يشاغب الأرانب البرية التي تنط بين الحشائش بعيونها اللامعة. يرتشف من فنجان فطوره ويقضم من الحلوى التي أحضرها النادل ذو القميص الأبيض والسروال الأزرق والحذاء الأسود، نظر إلى لباسه التقليدي، جلبابه الرمادي، نعلاه الأصفران، محفظته الجلدية المتدلية بحزامها الأسود المفتول، سرواله الفضفاض وطاقيته المزركشة.
منذ ترجّل من الحافلة والعيون تفترس بداوته، كأنّه إنسان قادم من الماضي السحيق، يجوب المدينة مستفسرا عن موطن حبيبته، يقف على مقربة من دارها، عند البقال طلب قنينة غازية وخبزا وعلبة أسماك، رأفة بحاله قدّم له البقال كرسيا خشبيا فاستوى معانقا قنينته ومزدردا طعامه. أطفال الحيّ يتغامزون حوله ويستفزون سكونه، لكن رباطة جأشه، ولسانه السريع المتحكم في ناصية اللغة سرعان ما ردع فضولهم، وبدأت صورته البدوية تخبو وتضمحل في عقولهم، ويستوطنها شخص تشع منه الهيبة، فتتراجع أعناق أنانيتهم المشرئبة منتكسة. تفطن البقال لفرادة زبونه فسأله إن كان روحانيا، أومأ الرجل ذو اللحية السوداء العامرة بالإيجاب. حكى له مصابه، فتمتم صاحبنا بلسانه بعض كلمات، و وعده بإحضار علاجه في اليوم الموالي.
بفستانها المتناغمة ألوانه وشعرها المنسدل على ظهرها، و حذائها ذي العقب الطويل تجوب سوق البلدة، حاملة حقيبة تحتوي علبا من العقاقير المغذية، هذا عقار ضد التعب وهذا يساعد على الهضم وذلك يقوي الانتباه والآخر يساعد على خفض السمنة ... جاءت من أقاصي الأرض تستفسر عن هذا المبدع، هذا الفنان، هذا الفارس الذي يعلو صهوة الكلمة. تعجبت أن لا أحد يعرف عبقريا بمثل هذه الصفات في البلدة. ولا أحد ينتبه إلى ما تستفسرعنه، كلّ أهل البلدة يبتاعون منها الدواء وعيونهم مشدودة إلى مفاتنها، وكل شخص يتحين فرصة دعوتها إلى مسكنه تعبيرا عن إكرام الضيف ورحمة بالنساء، لكنها سرعان ما تنساب متملّصة من شباكهم كسمكة خبيرة بفخاخ اليم. وقفت أمام منزله، تسللت أناملها الناعمة إلى زر بمحاذاة الباب، زغرد الجرس وفتحت امرأة في الخمسين الباب مرحبة بالضيفة، تسألها : " هل هذا منزل إبراهيم ؟ " ردّت عليها الأم بالإيجاب: "نعم يا بنيتي..." فقالت لها: "كان يتصل بشركتنا راغبا في بعض الأدوية، فأحضرت له عينات منها: "هذا مرهم ضد آلام الظهر، وهذا عقار ضد السمنة، وهذا منشط الجسم..." تعجّبت الأم : " لست أدري ما ترمين إليه ياحبيبتي، لكن إبراهيم مسافر، وهو على كل حال ليس صيدليا، ولا بائع أدوية، فهو خياط، لو أحضرت أثوابا لكان الأمر طبيعيا."
فقالت الشابة: "لا عليك سيدتي، سأعود عندما يرجع من السفر، ربما كان ينوي تغيير مشروعه، من يدري ربما أخطأت العنوان ، لكن يمكنك أن تحتفظي بالعينات فربما كان هو من يتصل بنا؟" قدّمت لها الأم الشّاي والحلوى وتشعّب بهما الحديث، انهالت الجارات عليها يشترين الدواء وهي تستعلم عن كل صغيرة وكبيرة في الحي.
مساء عاد عند صاحب الدّكان معتذرا أن مقامه لن يطول في المدينة لأن طارئا ألمّ بأسرته، فاجأه البقال أن العديد من فتيات الحي ينشدن رؤيته، علّه يفكّ ما اعترى حياتهن من سوء الطالع وما يعكر صفوهن من أصناف الحزن، وكثرة الضغط وقلة الأفراح، هكذا مرّ عبر البيوت يطرد النّحس و يؤدّب أرواحها الشّريرة، و يزرع الأمن في القلوب المكلومة، أمّ حبيبته تشكو رفض ابنتها لكل من أتاها خاطبا رغم جمالها الفتان وروحها الطيبة وأجرتها المغرية كممرضة بارعة في مستشفى المدينة، أقسم صاحبنا بغليظ أيمانه أنه من سيزوّجها قريبا جدا.
توقّفت الحافلة في طريق العودة إلى البلدة عند أحد المطاعم ليتناول ركّابها العشاء، تقدم نحو بائع الكباب وقلبه مفعم حيوية، يتناول قطع اللحم بنشوة الفارس الغانم، يتناهى إلى سمعه موال حب على أنغام شرقية من شريط موسيقي يغازل معزوفة قلبه. أنهى عشاءه وتقدمت خطواته ليتسلق درج حافلته عنما رست بجانبها حافلة أخرى، أحس بالتي تحتضنه تتحرك و عيناه مشدودتان إلى حسناء تنزل من الأخرى وهي تتجه صوب بائع الكباب. أحس انقباضا في نفسه، أيكون حظه يعاكسه، تساءل إن كان فعلا سيواصل ما جاء من أجله، أم أنّ قلبه سلبته التي رآها للتو، لكن كيف سيتتبع خيوطها هذه المرّة، يعضّ على نواجذه و تتسارع الخطط في ذهنه حتى استسلم للنوم.
يتحرّش بها سائق الحافلة وهي مشغولة بالخياط، أه خياطي الحبيب هل تستطيع خياطة جراحي، و زخرفة ربيعي الذي كاد يذبل، لم تستطع أن تغمض جفنها بل روحها سابحة هناك في البلدة.
دخلت غرفتها فخنقتها رائحة البخور، فسألت أمّها، "ماذا فعلت بغرفتي ماما؟" فقالت لها الأمّ، جاء رجل ملاك إلى حيّنا، مؤكّد أنه يطرد الأرواح الشريرة ويجلب السعادة، و يزرع الحب في النفوس" ضحكت البنت من قول أمها و هي تعانق فيها البراءة.
في الصباح الباكر تخلّص من قناعه وتقدم إلى منزله فاستقبلته أمه مبتسمة: "مرحبا حبيبي، هذه المرّة ربما أحضرت أثوابا حريرية من المدينة، أم ستتخلى عن أحلامك، وتغير مسارك وتتخذ لك حرفة أخرى، ما قصة تلك التي تبيع الأدوية؟" ردّ عليها في استغراب: "ما هذه الأحجية يا أماه؟" أحضرت له العينات قائلة معذرة ، هذا المرهم جربته في الليل فنمت نوما هنيئا بلا آلام" فردّ عليها: " احتفظي بها يا أمي، سأحاول معرفة القصة كاملة، ولكن لا تفتحي بيتك يوما لمثل هؤلاء، الذين يبدعون الحكايات."
فتح حاسوبه فوجد رسالة من التي علّمته الحب تؤكدّ عليه "هل تقبلني زوجة يا حبيبي؟" طرق رأسه لحظة وهو يفكر في ملاك الحافلة ، فأخذته رعشة فكتب: "هذه فرصة عمري يا ملاكي ".
منذ ترجّل من الحافلة والعيون تفترس بداوته، كأنّه إنسان قادم من الماضي السحيق، يجوب المدينة مستفسرا عن موطن حبيبته، يقف على مقربة من دارها، عند البقال طلب قنينة غازية وخبزا وعلبة أسماك، رأفة بحاله قدّم له البقال كرسيا خشبيا فاستوى معانقا قنينته ومزدردا طعامه. أطفال الحيّ يتغامزون حوله ويستفزون سكونه، لكن رباطة جأشه، ولسانه السريع المتحكم في ناصية اللغة سرعان ما ردع فضولهم، وبدأت صورته البدوية تخبو وتضمحل في عقولهم، ويستوطنها شخص تشع منه الهيبة، فتتراجع أعناق أنانيتهم المشرئبة منتكسة. تفطن البقال لفرادة زبونه فسأله إن كان روحانيا، أومأ الرجل ذو اللحية السوداء العامرة بالإيجاب. حكى له مصابه، فتمتم صاحبنا بلسانه بعض كلمات، و وعده بإحضار علاجه في اليوم الموالي.
بفستانها المتناغمة ألوانه وشعرها المنسدل على ظهرها، و حذائها ذي العقب الطويل تجوب سوق البلدة، حاملة حقيبة تحتوي علبا من العقاقير المغذية، هذا عقار ضد التعب وهذا يساعد على الهضم وذلك يقوي الانتباه والآخر يساعد على خفض السمنة ... جاءت من أقاصي الأرض تستفسر عن هذا المبدع، هذا الفنان، هذا الفارس الذي يعلو صهوة الكلمة. تعجبت أن لا أحد يعرف عبقريا بمثل هذه الصفات في البلدة. ولا أحد ينتبه إلى ما تستفسرعنه، كلّ أهل البلدة يبتاعون منها الدواء وعيونهم مشدودة إلى مفاتنها، وكل شخص يتحين فرصة دعوتها إلى مسكنه تعبيرا عن إكرام الضيف ورحمة بالنساء، لكنها سرعان ما تنساب متملّصة من شباكهم كسمكة خبيرة بفخاخ اليم. وقفت أمام منزله، تسللت أناملها الناعمة إلى زر بمحاذاة الباب، زغرد الجرس وفتحت امرأة في الخمسين الباب مرحبة بالضيفة، تسألها : " هل هذا منزل إبراهيم ؟ " ردّت عليها الأم بالإيجاب: "نعم يا بنيتي..." فقالت لها: "كان يتصل بشركتنا راغبا في بعض الأدوية، فأحضرت له عينات منها: "هذا مرهم ضد آلام الظهر، وهذا عقار ضد السمنة، وهذا منشط الجسم..." تعجّبت الأم : " لست أدري ما ترمين إليه ياحبيبتي، لكن إبراهيم مسافر، وهو على كل حال ليس صيدليا، ولا بائع أدوية، فهو خياط، لو أحضرت أثوابا لكان الأمر طبيعيا."
فقالت الشابة: "لا عليك سيدتي، سأعود عندما يرجع من السفر، ربما كان ينوي تغيير مشروعه، من يدري ربما أخطأت العنوان ، لكن يمكنك أن تحتفظي بالعينات فربما كان هو من يتصل بنا؟" قدّمت لها الأم الشّاي والحلوى وتشعّب بهما الحديث، انهالت الجارات عليها يشترين الدواء وهي تستعلم عن كل صغيرة وكبيرة في الحي.
مساء عاد عند صاحب الدّكان معتذرا أن مقامه لن يطول في المدينة لأن طارئا ألمّ بأسرته، فاجأه البقال أن العديد من فتيات الحي ينشدن رؤيته، علّه يفكّ ما اعترى حياتهن من سوء الطالع وما يعكر صفوهن من أصناف الحزن، وكثرة الضغط وقلة الأفراح، هكذا مرّ عبر البيوت يطرد النّحس و يؤدّب أرواحها الشّريرة، و يزرع الأمن في القلوب المكلومة، أمّ حبيبته تشكو رفض ابنتها لكل من أتاها خاطبا رغم جمالها الفتان وروحها الطيبة وأجرتها المغرية كممرضة بارعة في مستشفى المدينة، أقسم صاحبنا بغليظ أيمانه أنه من سيزوّجها قريبا جدا.
توقّفت الحافلة في طريق العودة إلى البلدة عند أحد المطاعم ليتناول ركّابها العشاء، تقدم نحو بائع الكباب وقلبه مفعم حيوية، يتناول قطع اللحم بنشوة الفارس الغانم، يتناهى إلى سمعه موال حب على أنغام شرقية من شريط موسيقي يغازل معزوفة قلبه. أنهى عشاءه وتقدمت خطواته ليتسلق درج حافلته عنما رست بجانبها حافلة أخرى، أحس بالتي تحتضنه تتحرك و عيناه مشدودتان إلى حسناء تنزل من الأخرى وهي تتجه صوب بائع الكباب. أحس انقباضا في نفسه، أيكون حظه يعاكسه، تساءل إن كان فعلا سيواصل ما جاء من أجله، أم أنّ قلبه سلبته التي رآها للتو، لكن كيف سيتتبع خيوطها هذه المرّة، يعضّ على نواجذه و تتسارع الخطط في ذهنه حتى استسلم للنوم.
يتحرّش بها سائق الحافلة وهي مشغولة بالخياط، أه خياطي الحبيب هل تستطيع خياطة جراحي، و زخرفة ربيعي الذي كاد يذبل، لم تستطع أن تغمض جفنها بل روحها سابحة هناك في البلدة.
دخلت غرفتها فخنقتها رائحة البخور، فسألت أمّها، "ماذا فعلت بغرفتي ماما؟" فقالت لها الأمّ، جاء رجل ملاك إلى حيّنا، مؤكّد أنه يطرد الأرواح الشريرة ويجلب السعادة، و يزرع الحب في النفوس" ضحكت البنت من قول أمها و هي تعانق فيها البراءة.
في الصباح الباكر تخلّص من قناعه وتقدم إلى منزله فاستقبلته أمه مبتسمة: "مرحبا حبيبي، هذه المرّة ربما أحضرت أثوابا حريرية من المدينة، أم ستتخلى عن أحلامك، وتغير مسارك وتتخذ لك حرفة أخرى، ما قصة تلك التي تبيع الأدوية؟" ردّ عليها في استغراب: "ما هذه الأحجية يا أماه؟" أحضرت له العينات قائلة معذرة ، هذا المرهم جربته في الليل فنمت نوما هنيئا بلا آلام" فردّ عليها: " احتفظي بها يا أمي، سأحاول معرفة القصة كاملة، ولكن لا تفتحي بيتك يوما لمثل هؤلاء، الذين يبدعون الحكايات."
فتح حاسوبه فوجد رسالة من التي علّمته الحب تؤكدّ عليه "هل تقبلني زوجة يا حبيبي؟" طرق رأسه لحظة وهو يفكر في ملاك الحافلة ، فأخذته رعشة فكتب: "هذه فرصة عمري يا ملاكي ".
تعليق