صرخة ملذوغ بعقارب الساعة
ها أنت تنقب في مستودع أفكارك؛ وحيرتك الأماني المعلولة . هل ترغب في جلب المزيد من الآهات إلى باحة كيانك ؛ فيرتج صدرك كمرجل يغلي على النار . ألم يكن صدرك دافئا باسم الله ولسانك رطبا بذكره .ها أنت تركض خلف سراب أمانيك بعدما أصبح الناس في شغل عنك وانفض الجمع من حولك ؛ وأصبحت تضرب أخماس بأسداس . كيف تعيد للحلقة توهجها بحكاياتك الممتعة التي انتزعت لها المعاطف واعتلاها التصفيق الجماهري بحرارة ؟. كنت ترتشف من قوارير الانتشاء ما يُثلج صدرك ؛ لا سيما عندما تصغي لقهقهات من حولك ، لأنك أمسكت بزمامك، و أبدعت في مداعبة الحكاية بطراز رفيع من التشويق ، وصوت منغم يعلو بمسامع الأشخاص فوق كل التصورات المحتملة للإطراب .حقا عرفت كيف تلملم رموز الحكاية بخفة حركات جوارحك ؛ فتتهاطل معانيها على نفوس الجمهور كزخات مطر بارد يوم القيظ ؛ لينسى الجمهور حصاد جراحاته الغائرة طوال اليوم ويدوس بنعاله على هموم الدنيا ...حقا إنها الفرجة ... وهذا غيض من فيض ............
انتبه فجأة فوجد نفسه في ساحة "جامع الفنا " أطلق نور الشمس شرارات المغيب فاختلطت الحمرة بدخان المقاهي الفواح. كان المشهد كله معتقا برائحة مقليات وشواء؛ والنهار يسلم مفاتيحه لمغيب الشمس ؛ غاص تفكيره في الحشد الذي بدا متدفقا من حوله كالسيل في اتجاه الموائد المبسوطة في الساحة ؛ شعر بخنق ؛ كاد أن يصرخ بأعلى صوته المبحوح " هلموا إلى الفرجة...." تبعثرت الأفكار بضجيج الأصوات في رأسه ؛ وتاه في دروبها لعله يظفر بالجواب المناسب الذي ينتشله من قبضة حيرته ؛ إنها الفكرة العارية من لباس التنميق الموشومة بصدق الحقيقة : " لا جدوى من الفرجة .." فالكل محمول على ظهر سفينة عالم افتراضي تمخر عباب " الوتساب والفايسبوك " الكل يحدق في الشاشة الصغيرة التي تخنق الأنفاس ؛ وتصم الآذان ؛وتعمي الأبصار ....
انتصب واقفا وجال ببصره في دوامة العتمة؛ وارتشف جرعة ماء بللت ريقه؛ فتأكد للمرة الأخيرة أن .. لا جدوى من تلميع الحكاية كي تبرق في وجه الجميع ..... " لالا مستحيل ؛أنا ملفوف في ثنايا الماضي؛ مسكون بهاجس العطالة ؛ أين دربي أين مكاني في هذه الزوبعة العالمية .
إن الدريهمات التي كانت تتقاطر عليه في هذا المكان عصفت بها رياح التغيير فجفت المنابع ؛ وتصحرت القلوب، وأصبح الذوق كليلا ؛ عليلا ؛ فجا ؛ ميئوسا من شفائه.
ثم جثا على ركبتيه كعادته في الاستجداء؛ وقبل الأرض التي تشهد على صدق ما يقول؛ فاغرورقت عيناه بالدمع كأنما يكتب في سجل ذكرياته وداع المحبين؛ وجمع أغراضه في حقيبته التي طالها البلى حتى التمزيق. حملها على كتفه مترفقا بها متوجسا من أشلائها وهو يتمتم لا لا مستحيل ..أنا ..من أكون ؟ وأين دربي في هذه الزوبعة التي حجبت الأفق إلا من ظلال باهتة ؟....استجمع قواه ومشى متثاقلا يجر أذيال الخيبة ؛ ويجتر أمانيه بطعم المرارة حتى اختفى عن الأنظار وابتلعه ضجيج المقاهي.....
تعليق