وِحدة
===
ثماني سمكات سردين بالطبق عليها صلصة طماطم بنكهة الثوم وإلى جانب الطبق طبقٌ ثانٍ عليه كمشة سلاطة حشيش. الطبقان على المائدة وسط الغرفة التي تُسمّيها مطبخا.جلست خالتي المُرضية إلى المائدة مربعة ساقيها وسرحت بعيدا، هي دائما تسرح بعيدا كلما جلست تتناول وجبةً.
فكرت في ابنتها نجمة التي لم تزرها منذ ما لا يقل عن أربعة اشهر. قالت بصوت مسموع " أتراها مريضة؟ أم تراني أخطأت في حقها فقطعت الزيارة انتقاما؟ أم تراني لم أعد أشغل حيزا من دائرة اهتماماتها؟ لا، لا، ليس هذا ولا ذاك، لابد أن ذاك الجني قد حدثت له حادثة، لابد أنه اقترف ما يشغلها ويجبرها على نسيان أمها كعادته، مادام يحوم ويتسكع رفقة الحثالة من شياطين الإنس مثله فلن ترى المسكينة لحظة هناء وسعادة "...خالتي المرضية لاترتاح كثيرا لحفيدها كريم.
رفعت سمكة من الطبق وبسملت وبدأت تتقوّت، وعند اللقمة الثالثة وقف وسط عتبة المطبخ ككل مرة. أذناه مشمّرتان إلى الأعلى وعيناه مبحلقتان تجاهها.
- "على سلامتك !! " قالت.
حرك أذنه اليمنى تجاهها وماء موءة مبحوحة بالكاد يسمعها السامع.
- أعرفك أيها المتشرّد، لا يأتي بك إلا الجوع. أوتطمع في الأكل عندي يا بن الكلب؟.
كان قطا منتفخا غليظ الرأس، وكان جسمه رمادي اللون إلا ذيله ، كان غامقا أقرب إلى السواد وكانت المُرضية تناديه "لَشْخَم غليظ الرأس". حدث في ليلة شديدة البرودة أن كان هائما بين سطوح الجيران ولما هدّه الجوع عاد إلى البيت وحين لم يجد شيئا يسد به رمقه بالمطبخ، صعد إلى سطح البيت وانقض على صندوق أرانب العجوز. التهم أربعة خرانيق حديثة الولادة ولم يُبقِ منها سوى هياكل الرؤوس وبعض الجلد. منذ تلك الحادثة لم تعد المرضية تطيق مجرد النظر إليه...كرهته وتمنت الانتقام منه بقطع رأسه بعد أن كانت تدللـــه وتفرح كلما تمدد قرب رجليها ليلا، فتأنس بوجوده وتغفو على ترنيمة شخيره.
لطالما رمته بنعلها أو بفنجان أو أي شيء صادفها إلا أنه كان متمرسا رشيق الحركة يتقن جيدا تفادي ضربات امرأة عجوز.
لم يكن القط غليظ الرأس يخشى المرضية أبدا، هو لا يخشى من البشر أولئك بطيئي الحركة، العجائز والأطفال لكنه لا يحتمل الوقوع بين أيادي الأطفال.
رمقته المُرضية بنظرة وفمها مليء بالسمك، مضغت اللقمة جيدا وبلعتها وقالت: "يا ربي لو أتمكن منه !! يا ربي لو يقع بين يدي !! آكله نيِّئا الكلب ابن الكلب. آكلك نيِّئا جزاء فعلتك اللعينة...أما زلت هنا ؟ أغرب عن وجهي يا وجه الشر" وتظاهرت أنها ترفع شيئا بجانبها ولوحت عليه، غير أنه قط محنك لم يحرّك ساكنا وبقي مكانه في منتصف عتبة الباب.
جالسا جلسة الأسد المتربص، عدّل من جلسته ثم تمدد على بطنه يراقب المُرضية ويتصنت لصوت مضغها.
- أين كنت البارحة هائما ؟ سألته. وأردفت "تتسكع بين بيوت الناس وتهيم على أسطح الجيران وفي النهاية تعود للمرضية تستجديها ! لاتعرف المرضية الا وقت الاكل يا غليظ الرأس ..ستأكل من عندي السم الذي يقطع أمعاءك أيها الجاحد.
كانت أذناه تتحركان وفق نبرة صوت العجوز، وبين الفينة والفينة تصدر منه همّة بالمواء دون أن يفعل.
- أين كنتَ قلت لك؟ اللعنة !!وكأنني أكلم حائطا ! ابن الكلب، هو كذلك يتجاهلني كأني لاشيء. اللعنة عليك وعلى والديك، أقول لك شيئا ! أنت لقيط.
قالت المُرضية ذلك وأطلقت ضحكة مقتضبة وأردفت:" والله العظيم أنت لقيط ابن لقيط. وحدهم اللقطاء ينكرون الجميل ويعضون اليد التي امتدت إليهم"
اعتدل القط غليظ الرأس في جلسته تلمظ ولعق طرف قائمته اليسرى وبحلق فيها قائلا في نفسه" ألا تملّ هذه العجوز الخرِفة؟ ألا تملّ؟ دائما تنتظر ردّي على تساؤلاتها. ألا تعلم أني لا ولن أرد؟ غريبة أحوال البشر وأحوال هذه الشمطاء أغرب "
لم يبق من السمك في الطبق سوى سمكتين أما السلاطة فلم تمسسها المُرضية.همت تريد القيام فنط القط نحو الحوش.حملت ما تبقى من خبز وطبق السلاطة من على المائدة وتركت طبق السمك بسمكتيه في مكانه. خرجت من المطبخ والقط في وسط الحوش يراقب..." ستخرج وستجلس هنا على اليمين وستلعب بالماء ثم تغيب بالداخل" قال القط في نفسه.
خرجت من المطبخ وجلست تتوضأ وحين فرغت دخلت غرفة نومها وذراعاها يتقاطر منهما الماء.
كانت السمكتان تنتظرانه،استند بقائمتيه الأماميتين على طرف المائدة وانتشل سمكة من الطبق وتقرفص تحت المائدة يلتهمها بلهف..لحظة ولم يبق من السمكة سوى رأسها ، عاد وفعل فعلته الأولى مع السمكة الثانية ثم خرج من المطبخ وتسلق شجرة العنب المغروسة في طرف الحوش وغاب بين أسطح الجيران.
2
عادت خالتي المرضية إلى المطبخ بعد أن تيقنت أن غليظ الرأس قد التهم السمكتين..رفعت المائدة وركنتها في جانب من جوانب المطبخ ونظفت أرضيته وعادت إلى غرفتها.
أفرشت السجادة واعتدلت قائمة تنوي الصلاة.
حين تصلي خالتي المرضية يسمعها كل الناس، الجيران وأطفالهم يعرفون أن خالتي المرضية الآن تصلي...المارّة أمام البيت كذلك يعرفون حيث أنها لا تعرف الصلاة سرا أبدا...كل الصلوات عندها جهرية. ابتدأت المرضية صلاتها وراحت تقرأ " الحمد لله رب العالمين الرحمان الرحيم ياكانعبودوكانستعين..." هكذا لقّنتها أمها ذات دهر مضى. ركعت لتكلّم ربّها وهي راكعة، ثم سجدت لتكلم ربّها وهي ساجدة. أتمت صلاتها ورفعت كفّيها مقابل وجهها وراحت تدعو " يا ربّي تقبل صلاتي، يا ربي ارحم واِلدينا وواليد واليدينا. يا ربي !!! مثلما قلت لك وأقول لك دائما، خذني إليك سليمة يا ربّي..."
في هذه اللحظة يمر صرصور قرب الكنبة فتقطع المرضية دعاءها وتقفز نحوه بنعلها في يدها غير أنه يجري نحو الظلام تحت الكنبة فتصيح في وجهه المرضية " نجا الكلب بن الكلب ، نجا" وتعود لسجادتها، ترفع كفيها وتنسى أين توقفت في دعائها، تقبع برهة كفاها مرفوعتان أمام وجهها لتتذكر " إيه، خذني إليك سليمة، لاتجعلني أمرض يا رب. يا ربي أنا لا احتمل أن أمرض ويشمت فيّ الأعداء. يا ربي خذني بسرعة، في رمشة عين، أنا لا أطيق الاحتضار. يا ربي أنت قادر على كل شيء، خذني بسرعة إذن. يا ربّي حليمة بنت أحمد حين عيّرتها لم أكن أقصد ما قلته لها، والله لم أكن أقصد. يا ربي أريد أن أقر لها بذلك لكنها بنت كلب ستغتنم الفرصة، أنا أعرفها جيدا. يا ربي أنت تعرفني أنا أعلم ذلك..." سكتت لبرهة وكفاها مفتوحتان أمام وجهها تتأملهما محاولة استحضار دعاء ما.
" يا ربي اغفر للمرحوم زوجي، كان طيبا معي، سامحته على كل شي، كان طيبا يا ربي" . مسحت بكفيها على وجهها وهمّت بطي السجادة وفي اللحظة التي مالت فيها على ذراعيها تريد الوقوف تذكرت شيئا آخر . رفعت كفيها ثانية ودعت " يا ربّي احفظ جاري قويدر وبارك له في الذرية، المسكين كل يوم يأتيني بالسمك وكل يوم يزورني يتفقد أحوالي، اعطه ما يتمنى واحفظ له زوجته رقية، هي كذلك ناس ملاح... يا ربي !!! ابنتي نجمة... ابنتي نجمة تعاني من حماقات ابنها، يا ربّي تلك رزقي الوحيد وإن لم تحفظها أنت فمن يحفظها، ابعد عن ابنها رفقاء السوء واجعله يبرها كما برّتني. يا ربي لست أدري لماذا غابت عنّي كل هذه المدة، سامحها يا ربي هي لا تقصد ذلك ، ابنتي واعرفها. يا ربي ! الوِحدة صعبة وأنا لم أعد احتمل، والله لم اعد احتمل، فاجعلها تزورني هذه الأيام."
مسحت كفيها بوجهها للمرة الأخيرة لاهجة "آمين، آمين، آمين" ...ثلاث مرّات.
طوت السجادة طيتين ووضعتها فوق التلفاز وتمددت على فراشها تنشد النوم.
3
في الليل لم يأت غليظ الرأس.كانت خالتي المرضية مستلقية على فراشها مقابلة التلفاز تتابع تتالي الصور على الشاشة وبين اللحظة والأخرى تراقب عتبة الغرفة علّه يظهر. قالت كأنها تكلّم أحدا بجانبها "لابد انه يلهث إثر قطة سلبت لبّه، لقيط ابن لقيط، سيأتي اليوم الذي اجتز فيه رأسه مثلما فعل مع أرانبي"
كانت تنظر إلى التلفاز ، تسمع وترى ولا تفهم، فقط تنظر تتابع المشاهد وتغيرات الألوان. لما أعيتها الرتابة وأصابها الملل قامت وأطفأته وجلست مربعة ساقيها لاتفعل شيئا...جلست تحملق في خزنة الملابس العتيقة مرة ثم تشيح بنظرها عنها نحو النافذة المشرعة ومنها نحو باب الغرفة . "لن يأتي المتشرد، أقولها لكم، لن يأتي.أنا أعرف" قالت.
كان الجو هادئا والصمت مطبقا ، لا تسمع سوى بعض ضحكات الأطفال آتية من بعيد، أطفال الجيران.
"الله يلعنك يا الشيطان !!" قالت ذلك ومالت بكل جسمها نحو اليسار مستندة على ذراعيها تريد الوقوف لاهجة " يا مولى عبد القادر !"، واتجهت نحو باب الغرفة تطفئ نور الكهرباء.
وكان الصمت، وكانت الظلمة الدامسة والمرضية مستلقية على شقها الأيمن تستجدي النوم. فكرت في ابنتها نجمة وحفيدها الطائش، وبينما هي غارقة في سيناريو من نسج خيالها حيث الأفكار تتشابك والحوار المختلق يتداخل مع الحوار التلقائي المنبثق من مصدر غيبي وفي غمرة لذة الغفوة يدخل زوجها معترك السيناريو رغما عنها، تراه هناك في سفح الرابية تحت ظل شجرة التين يلوّح لها بذراعه، تراه وتفرح لرؤياه، تلوّح له بدورها وتشير إليه إن انتظرني وتنحني لتحمل صندوق أرنبتها...تنطلق تجاهه وفي منتصف الطريق يهزها صوت ما وتنبثق من العدم يدٌ تجذبها، ترجّها لتفيق من منامها على صوت أذان الفجر. كانت خالتي المُرضية تحلم.
……يتبع
تعليق