في المخبزة
عمل مشترك بين الكاتبة عائدة محمد نادر وحاتم سعيدنشأت في عائلة وفيرة الأفراد، والدتي ربّة بيت حكيمة، لم تشك يوما من السهر على راحتنا، صغارا أو كبارا أمّا والدي فقد كان خبّازا ماهرا يحب مهنته ويعتبرها مدخلا إلى قلوب كلّ الناس قبل بطونهم، لطيف المعشر ومحبّ لفعل الخير.
كنت أحمل إليه في تلك المخبزة ما تعدّه والدتي من طعام لفطور الغداء أو العشاء فهو يرفض أكل الشارع بل والأكل من يد أخرى.
ذات يوم، تزامن وصولي إلى تلك المخبزة مع قدوم بائع للحلويات في القرية كنّا ندعوه "العمّ فتوح"، كان على عجلة من أمره، ألقى التحيّة وأخذ يسأل أبي عن أطباقه إن كانت جاهزة لأنّ بضاعته قاربت على النفاد.
يرتدي العمّ فتوح عادة، بلوزة بيضاء كتلك التي يلبسها المعلّمون، فتخاله عند وقوفه بعربته أمام باب مدرسة القرية أنّه واحد منهم، لولا تلك الطّاقيّة البيضاء على رأسه التي أهداه إيّاها أحد معارفه عند عودته من الحج فكان يتحسّسها بين الحين والآخر بعد كلّ معاملة ماليّة ويدعو الله أن يرزقه الحج أو الزيارة.
يفتخر العمّ فتوح بأنه صانع تلك العربة، ويشير إلى كفه الأيمن بفخر وهو يحكي كيف صنعها بأيام قلائل وجهد كبير لتناسب تلك الأنواع المختلفة من الحلويّات والأطايب والبيض السّاخن الذي يدعوه "المروّب" لتجد كل بضاعة مكانها الملائم الذي يحفضها من أشعّة الشمس أو ماء المطر أو غبار الطريق.
نظر أبي إلى ساعته اليدويّة مبتسما وطلب منه العودة بعد ربع ساعة ليتسلّم حاجته ثم أمسك بيدي ودعاني لمرافقته إلى داخل المخبزة.
شكره العمّ فتوح وقد تهللت أسارير وجهه ثمّ دعا له بزيارة قريبة إلى بيت الله الحرام.
أخذني والدي إلى الفرن وطلب منّي أن أفتح بابا بالطابق السفليّ بينما تناول كيسا فارغا من القماش ليقوم بإخراج طبقين منه.
كان بالطبق الأوّل تلك الوصفة العجيبة التي نسمّيها "هريسة اللوز" وربما يتبادر إلى الأذهان أنّها أكلة حارّة ولكنها على العكس حلوة لذيذة، يبقى طعمها مغموسا بذاكرة الشاري إذا تذوّقها لسانه ووصلت إلى معدته لطيب مذاقها وليونة تناولها.
لم ينس والدي أن يعلمني طريقة صنع ذلك الطبق ، أخذ يشرح لي كيف يخلط السّميد الخشن بالسكّر وفتات اللوز والمقادير التي نضيفها من مسحوق "الفانيليا" في الإناء قبل أن يفرش الخليط في الطبق ومن ثمّة ندخلها الفرن ونقوم بسقايتها بالماء المحلّى بالسكر فتصبح جاهزة للأكل، أماّ الطبق الثاني فكان فيه بذور عباد الشّمس السّوداء الممزوجة بالملح يقوم والدي بإنضاجها في درجة حراريّة منخفضة لكي لا تحترق، "تلك القلوب كهذه القلوب" قال والدي وهو يشير إلى صدره: "يمكنها أن تحترق إذا أهملتها أو أغفلتها"، تناول أبي منها حفنة وضعها في كيس ورقي وطلب منّي أن آخذها معي إلى المنزل.
عاد العمّ فتوح و ألقى نظرة سريعة على أطباقه التي فاحت رائحتها في المخبزة وكأننا في يوم عرفة، شكر والدي وأراد أن يدفع ثمن الخبز فأجابه: "عيب يا فتوح، خذ أطباقك ولا تكرّر فعلتك، وصلني الثمن فقد أخذت قليلا من "القلوب" وهذا كاف".
أجاب فتوح:"صحّة وبالشفاء لبابا الهادي، ربّي يفظلك"
وانطلق في حاله يحمل أطباقه والبسمة تعلو محيّاه.
تعليق