في النقد الأدبي: النقد علم؟
[align=justify]لما كنت في الجامعة طالبا ثم أستاذا بعد سنوات طويلة بعد الطلب، كنت أسمع من بعض أساتيذي المهتمين بالنقد الأدبي زعمه أنه يسعى هو ومن يقاسمونه الزعم إلى جعل النقد الأدبي "علما دقيقا"، وكنت وأنا طالب أندهش من هذا الزعم لكنني لم أكن لأتجرأ على الأستاذ وأناقضه في زعمه ذاك، لكن وبعد أن صرت أستاذا وزميلا له في الكُلِّيَّة ذاتها صار عندي من الجرأة ما يكفي لمناقشة هذا الزعم جهارا نهارا مع الطلبة الذين كانوا عندي أو مع الأساتيذ الذين يهتمون بالأدب والنقد الأدبي.
والسؤال: هل يمكن جعل النقد الأدبي علما دقيقا؟ بحيث لا يخطئ الناقد في نقده، في حكمه على نص ما، إن هو اتبع القواعد أو الأصول أو النظريات النقدية كما لا يخطئ الحاسب في حسابه والرياضي في رياضياته والفزيائي في فزيائه إن هم اتبعوا القواعد و"الفرمولات" (formules) في عملياتهم الحسابية والرياضية والفزيائية؟
ردي البسيط والمباشر والصريح هو: إنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يصير النقد الأدبي علما دقيقا مهما كانت القواعد والأصول والنظريات النقدية دقيقة ومضبوطة لأن العمل الأدبي نفسه ليس علما دقيقا بل هو "تعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية"، كما قرر ذلك الأديب المصري الكبير الأستاذ سيد قطب، رحمه الله تعالى، في كتابه الفذ "النقد الأدبي: أصوله ومناهجه"، وبناء عليه، فلا يمكن أن يكون الأدب علما دقيقا وكذلك النقد الأدبي لأنه هو الآخر "تعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية عن تجربية شعورية سابقة"، أو هو "إبداع عن إبداع" كما قلته في موضوعي "في النّقد الأدبيِّ: النّاقد ذوّاقة":
"النقد إبداع عن إبداع، و لذا فهو لا يقل أهمية عن الكتابة الفنية الأصلية، و هو كتابة جديدة للنص المنقود، لكنه، و زيادة عن شروط الكتابة الفنية، يخضع لشروط إضافية تمس الناقد ذاته أكثر مما تمس العملية النقدية، و من هنا أرى أن نركز في حديثنا على "الناقد" و ليس على النقد، و من ثمة فسيكون حديثي السريع هذا عن "الناقد" من حيث ذاتيته.
"الناقد" فنان كذلك، و هو قبل هذا إنسان له من ضعف الإنسانية نصيب، أو هو مبدع من نوع آخر ينطلق من عمل فني ليصنع منه عملا فنيا جديدا. "الناقد" قارئ متميز لا يقرأ لتمضية الوقت أو للتلذذ بنص أو أي عمل فني آخر، و إنما يقرأ ليستخرج من النص، أو من العمل الفني عموما، القيم الفنية الجمالية من حيث شكل العمل المنقود أو من حيث المضمون ليستوحي منه القيم الإنسانية فيه، و هذا العمل ليس سهلا و لا ميسورا لأي أحد بل يتطلب حسا متذوقا زيادة على النزاهة و التجرد من الذاتية السلبية السالبة، و ليس الذاتية الإيجابية المضيفة ؛ و هنا مربط الفرس كما يقال، إن الذاتية السلبية السالبة هي التي تسيء إلى النقد أولا و إلى العمل الإبداعي المنقود ثانيا، و هذا ما نعاني منه عادة." اهـ بنصه وفصه؛ فالنقد يرتكز أساسا على الناقد أكثر مما يرتكز على العمل الفني المنقود، والنقاد في تذوق الأعمال الأدبية متفاوتون كتفاوتهم في تذوق الأطعمة والأشربة والملذات والجماليات وغيرها مما يعتمد على الذوق في تقديره وتقويمه.
بيد أن هذا الإطلاق يحتاج إلى ضوابط، أو إلى قيود، فالكاتب الأديب وإن كان حرا طليقا في تصوير تجربته الشعورية ولا يلتزم إلا بما تلزمه به اللغة التي يعبر بها عن تجربته تلك فعلى الناقد أن ينضبط بقواعد أدبية تمكنه من تقويم العمل الأدبي تقويما مقبولا ولا أقول صحيحا لأن "الصحة" تقتضي خضوع الناقد لقواعد "علمية" دقيقة وهذا غير وارد في النقد والناقد هو الآخر كاتب شأنه شأن الكاتب الأديب، فهو أديب من نوع آخر، أو هو أديب يقوم أدب الآخرين ويحكم عليه حسب ذوقه أو حسب رؤيته للجمال الكامن في النص، وتقدير الجمال متفاوت عند الناس، والناقد من الناس حتما.
تقدير جماليات النص، أو تقويمها، بمعنى: معرفة قيمتها الفنية، يحتاج إلى دراية واسعة باللغة المكتوب بها من حيث نحوها وبلاغتها وأساليبها في التعبير الصحيح، وإلى معرفة بالأدب وفنونه واتجاهاته، ثم يأتي النقد ليستنبط تلك الجماليات بموضوعية ونزاهة خدمة للنص أولا ثم للنَّاص ثانيا ثم للقراء ثالثا، فإن لم يكن للنقد هذه الغايات الثلاث فلا مبرر لوجوده ولا حاجة للأدب إليه؛ ثم إن كان النقد علما دقيقا، فلماذا يحتاج هو الآخر إلى نقد، أقصد "نقد النقد"؟ السؤال يبقى معروضا للنقاش.
هذا، وللحديث بقية إن كان في العمر بقية، قراءة ممتعة إن شاء الله تعالى.[/align]
البُليْدة، أمسية يوم الثلاثاء 28 نوفمبر 2017 الموافق 10 ربيع الأول 1439.
تعليق