مقامة الأعمش
حَدّثَنا الأبْكم بن والديه عن جده الأطرش أبي وَلَديه، أنه سمع الأخْرس بن أخت خَالَوَيْه يقول:
بَينَما نَحن جلوسٌ في حضْرة الأعْمش ذاتَ وليمة، وكان شَيْخاً ذا بَصيرة، أدْركَ منَ الحِكمة الدرجة الرفيعة، رجُلٌ مُطاعٌ يُهاب، ما قَصَد بَابَه مُكْتَوٍ مُصاب، إلا وَ قَدْ عَلِم أن طَلبه في الحال مُستَجاب، يُرجَع إليه في أدنى صَغِيرة و أكْبر كَبيرة، و في كُل شَكوى وَ شَكيمة لِما أوتيَ من فِطْنةٍ سليمة وعَزيمةٍ رَشيدة،
حَدّثَنا الأبْكم بن والديه عن جده الأطرش أبي وَلَديه، أنه سمع الأخْرس بن أخت خَالَوَيْه يقول:
بَينَما نَحن جلوسٌ في حضْرة الأعْمش ذاتَ وليمة، وكان شَيْخاً ذا بَصيرة، أدْركَ منَ الحِكمة الدرجة الرفيعة، رجُلٌ مُطاعٌ يُهاب، ما قَصَد بَابَه مُكْتَوٍ مُصاب، إلا وَ قَدْ عَلِم أن طَلبه في الحال مُستَجاب، يُرجَع إليه في أدنى صَغِيرة و أكْبر كَبيرة، و في كُل شَكوى وَ شَكيمة لِما أوتيَ من فِطْنةٍ سليمة وعَزيمةٍ رَشيدة،
يَحضُر مَجلسَه أكابر القوم من السّاسَة والقَادة، و من اشْتَهر منهُم بالأدب والفَصَاحة، يَتوَسّطهم شرذمة من السوق والبَاعة و كذا كُلٌ مُسْتَرزقٍ متشَدّق و مُلَحّنٍ فِي القول مُنَافق...فَما أنِ امتدّت الأيادي إلى الَقصعة حتى دخَل علينا على حينِ غرّة، رَجُل حول وجهه لِثام، أطْنب في التحية و السّلام، فَقطَع عَلينا
شَهْوة الطّعام. تفَضّل من غَيْر إذنٍ بالجُلوس، فَلَعنْتُ في نفسي ذاك المنْحوس، الذي أزال عنْ وَجْهه اللّثام، فبَدا عليه أثَر الجُذام، جَبِينه مَدقوق و أنْفُه مَشْقوق، فشَرَع المخلوق يَتلعْثم في الكلام و يَده من غير بسملة تشق طريقها صَوْب الطعام: قصدتك أيها الشيخ الجَليل يا من ليس لعدله في الناس مثيل، يا من يُجْبر كلّ كَسير عَليل، و ينْصر كل مظلوم ذَليل، وَ كُلّي رَجاءٌ أن أجِد في نُصرتك للْعبد الهزيل مَا يُشْفي الغَلِيل. فبعد أن تنطّع الرّجُل في الكلام تَنَطُّعَه في الطّعام، أَخْبَر الأعْمش صاحِب الوليمة بحكايته المُؤلمة وبما صار له في رِحْلته الأخيرة مع قُطّاع طرق في أقصى الجزيرة، تعَرّضوا سبيله و نهبوا رزقه و خطفوا أهله، فَلوْلا الحيلة لكادوا يحفرون قبره، ففرّ فالتاً بجِلده، إِلَى آخِره إلَى آخره...
فبَعْد أن انْتَهى مِنْ قّص الْخَبَر، شقّ الرّجل عَلى بَعْض منْ حضَر، و شَكّك في صِدْقه نفرٌ أُخَر. أَما الأعمش المَقصود و كأنّه وليّ أمر المُسْلمين، حامي حِمى المِلّة وَ الدّين، ناصر المُسْتضعفين و قاهرِ المرتزقة المرتدين، فضَجر، وقَام مِن مقعده و شمّر، وطلع من فمه لهيب كأنه من سقر، وعقد النية أمام النفر، أن يخرج الليلة في سفر لينتقم ممن طغى وتجبر. فينتصر لرجل من قَبيلته، عَسى أَنْ يَرُد الاعتبار لِبَني عشِيرَته فيسترجع الأهل والمال الذي تَلف و يحوز الهيبة من رفعة المكانة وعظيم الشرف. وأخَذ مَعه من الذين حَضروا ثلاثة تبثت عليهم الشّجاعة والبَسالَة، ولم يختر من مجلسنا من به كعّ عُرِف بالضّعف والجبانة: فخَرج مَعه عَنَطْنطٌ جَرَنْفش، طويل قَامة، عصَب على رأْسه عمَامَة؛ وآخر جَلَنْدح عَثْجل، يُرهب به المُرتزقة مِن فَرط الضّخامة؛ وثَالث حِنْتَار، قَصيرُ القامة دَحْدَاح، لكنه رجُلٌ يَعدِل عشراً في الشّهامة. خَرَجُوا فِي مَوْكب مَهيب و كلّ واحد مِنهم يَحمل في يدِه هَرَاوه، قاصدين الجزيرة المشؤومة، ليحَققوا الموعود، ويعودوا إلى أهْليهم بطَوق الحَمَامة المفقود...
وَحَمِدْت الله أن جعل في خَلقي عِلّة و لم يزدني في البَسالة بسْطة لكُنْت والعِياذُ بالله خَامِسَ فُرْسَان الطَّلِيعَة.
فأقْسمْتُ أنْ أَلزَم الوَقار وأُكْثر مِن الإسْتغْفَار عَلى ألاّ أَعُود إِلى تِلك الدّار.
م.ش.
مونتريال
صباح السبت 2 ديسنبر 2017.
فبَعْد أن انْتَهى مِنْ قّص الْخَبَر، شقّ الرّجل عَلى بَعْض منْ حضَر، و شَكّك في صِدْقه نفرٌ أُخَر. أَما الأعمش المَقصود و كأنّه وليّ أمر المُسْلمين، حامي حِمى المِلّة وَ الدّين، ناصر المُسْتضعفين و قاهرِ المرتزقة المرتدين، فضَجر، وقَام مِن مقعده و شمّر، وطلع من فمه لهيب كأنه من سقر، وعقد النية أمام النفر، أن يخرج الليلة في سفر لينتقم ممن طغى وتجبر. فينتصر لرجل من قَبيلته، عَسى أَنْ يَرُد الاعتبار لِبَني عشِيرَته فيسترجع الأهل والمال الذي تَلف و يحوز الهيبة من رفعة المكانة وعظيم الشرف. وأخَذ مَعه من الذين حَضروا ثلاثة تبثت عليهم الشّجاعة والبَسالَة، ولم يختر من مجلسنا من به كعّ عُرِف بالضّعف والجبانة: فخَرج مَعه عَنَطْنطٌ جَرَنْفش، طويل قَامة، عصَب على رأْسه عمَامَة؛ وآخر جَلَنْدح عَثْجل، يُرهب به المُرتزقة مِن فَرط الضّخامة؛ وثَالث حِنْتَار، قَصيرُ القامة دَحْدَاح، لكنه رجُلٌ يَعدِل عشراً في الشّهامة. خَرَجُوا فِي مَوْكب مَهيب و كلّ واحد مِنهم يَحمل في يدِه هَرَاوه، قاصدين الجزيرة المشؤومة، ليحَققوا الموعود، ويعودوا إلى أهْليهم بطَوق الحَمَامة المفقود...
وَحَمِدْت الله أن جعل في خَلقي عِلّة و لم يزدني في البَسالة بسْطة لكُنْت والعِياذُ بالله خَامِسَ فُرْسَان الطَّلِيعَة.
فأقْسمْتُ أنْ أَلزَم الوَقار وأُكْثر مِن الإسْتغْفَار عَلى ألاّ أَعُود إِلى تِلك الدّار.
م.ش.
مونتريال
صباح السبت 2 ديسنبر 2017.
تعليق