عندما ضحك البحر !
"هذه غلطة العمر! "
قالها شاب أسمر اللون بلهجة تميز صعيد مصر، لم التفت إليه وتشاغلت بالتطلع إلى مئات الوجوه التي تتلقى ضربات العاصفة وقطرات المطر بعنف. تأملت سحنات وجوههم فوقع في ذهني أن أفريقيا بكاملها معي على متن القارب الحديدي، الذي يختلط صوت محركه القديم بالرعود التي تصرخ بها السماء، كأنها تؤنبنا على مفارقة الديار.
تذكرت وطأة جيوبي الفارغة على نفسي حين أعبث بيدي داخل أحدها علني أجد ما أشتري به دواءً لوالدين هدهما المرض، أو أجد ثمن وجبة ثانية هي أندر في بيتنا من لبن الطير ولكن المعجزات لا تتحقق للفقراء، راقني أن أحدث نفسي هكذا في خضم عاصفة يبدو أنها لن تمر بسلام، ورغماً عني وجدتني أكرر عبارة الشاب الصعيدي بصوت هامس!
كان عم إبراهيم رجلاً يحمل طيبته على وجه لم تخف التجاعيد عذوبة ابتسامته، قضيت في ورشته سنة كصبي أعاونه في أعمال النجارة وتسليم المنجز للزبائن، على أن ينقدني نصف اليومية ويحتفظ بالنصف الآخر في خزانته، حتى يكتمل المبلغ الذي تتطلبه رحلتي لأوروبا. كان يفترض حسب حساباتي أن أقضي مع العم إبراهيم سنتين، لكنه نقدني أكثر مما يحتفظ لي به، ربما أعجب بالتفاني الذي ميز عملي وحبي له، أو أنه قد رق لحالي وأسف لظروفي رغم شهادة الهندسة التي إقتلعتها من هذه الدنيا بما تئن له الجبال من صبر.
"سنموت جميعاً"
هذه المرة التفت إليه، كانت ملامحه تشي برعب شديد، راجعت في نفسي ما أعرفه عن صعايدة مصر، كنت أحتفظ بصورة الأهالي الذين تميزهم القسوة والسعي للثأر الذي يمتد لأجيال في الأسرة بسبب قتل جدهم بواسطة عيار ناري أطلقه جد أسرة أخرى. أيقنت أن الشاب الصعيدي الجالس قربي على طرف المركب قد نسف ما كنت أتصوره تماماً !
كان المركب يرتفع ويهبط مع الأمواج التي تنقسم عند ارتطامها به، فيمر جزء منها فوقه مرتطماً بمئات الوجوه المذعورة، ويمر الجزء الأكبر من تحت المركب ليحمله إلى أعلى كريشة خفيفة، ثم لا يلبث إلا قليلاً ليهبط بقوة على سطح الماء لتتطاير على وجوهنا دفقات الماء البارد المالح.
كان شرود ذهني يخفف علي من وطأة الذعر الذي عم المركب كالوباء، وكأن للذاكرة وظيفة أخرى لا نعرفها إلا في ظروف كهذه. عدت إلى تلك اللحظة التي ركبت فيها عربة نقل البضائع التي نعرفها باسم "اللوري" في السودان، ذات موديل يعود لما قبل الإستقلال الذي تذكرنا به الحكومة كل عام. انطلق اللوري من أطراف أم درمان في رحلة امتدت عبر صحراء أفريقيا الكبرى حتى داخل الأراضي الليبية. لنستقل عربة نقل مع عصابة أخرى تولت نقلنا إلى مدينة على الساحل الليبي حيث تم وضعنا بمنزل مهجور لعشرة أيام.
وفي مساء اليوم العاشر تم نقلنا إلى الساحل مع بقية المهاجرين الذين تواصلت وفودهم طيلة الأيام الفائتة، وذلك لاستغلال هدوء البحر. ضحكت في نفسي من حكومات تبرع في صنع الظروف الكافية للفظ بعضنا من ديارنا، وفي تحويل من فضلوا البقاء إلى متاجرين يجنون آلاف الدولارات من تجارة البشر أو إلى جالسين أمام نشرات الأخبار ليصفعهم ترامب كما يشاء !
"سنموت! "
كانت الصيحة كافية لأنتفض بقوة، قبل أن أنتبه إلى أن المركب على وشك أن ينقلب، كان غضب السماء قد بلغ ذروته. لم تمض ثواني حتى صفعت المركب موجة أكبر من أخواتها لتشتت أجسادنا وأحلامنا على سطح البحر الهائج، تذكرت كل ما أعرفه عن الشهداء، تخيلت نفسي شهيداً تولى الفقر إزهاق روحه، فأطلقت ضحكة ساخرة لم يخرسها سوى الماء المالح الذي ملأ جوفي وضحكة البحر التي تجلجلت في أعماقي !
"هذه غلطة العمر! "
قالها شاب أسمر اللون بلهجة تميز صعيد مصر، لم التفت إليه وتشاغلت بالتطلع إلى مئات الوجوه التي تتلقى ضربات العاصفة وقطرات المطر بعنف. تأملت سحنات وجوههم فوقع في ذهني أن أفريقيا بكاملها معي على متن القارب الحديدي، الذي يختلط صوت محركه القديم بالرعود التي تصرخ بها السماء، كأنها تؤنبنا على مفارقة الديار.
تذكرت وطأة جيوبي الفارغة على نفسي حين أعبث بيدي داخل أحدها علني أجد ما أشتري به دواءً لوالدين هدهما المرض، أو أجد ثمن وجبة ثانية هي أندر في بيتنا من لبن الطير ولكن المعجزات لا تتحقق للفقراء، راقني أن أحدث نفسي هكذا في خضم عاصفة يبدو أنها لن تمر بسلام، ورغماً عني وجدتني أكرر عبارة الشاب الصعيدي بصوت هامس!
كان عم إبراهيم رجلاً يحمل طيبته على وجه لم تخف التجاعيد عذوبة ابتسامته، قضيت في ورشته سنة كصبي أعاونه في أعمال النجارة وتسليم المنجز للزبائن، على أن ينقدني نصف اليومية ويحتفظ بالنصف الآخر في خزانته، حتى يكتمل المبلغ الذي تتطلبه رحلتي لأوروبا. كان يفترض حسب حساباتي أن أقضي مع العم إبراهيم سنتين، لكنه نقدني أكثر مما يحتفظ لي به، ربما أعجب بالتفاني الذي ميز عملي وحبي له، أو أنه قد رق لحالي وأسف لظروفي رغم شهادة الهندسة التي إقتلعتها من هذه الدنيا بما تئن له الجبال من صبر.
"سنموت جميعاً"
هذه المرة التفت إليه، كانت ملامحه تشي برعب شديد، راجعت في نفسي ما أعرفه عن صعايدة مصر، كنت أحتفظ بصورة الأهالي الذين تميزهم القسوة والسعي للثأر الذي يمتد لأجيال في الأسرة بسبب قتل جدهم بواسطة عيار ناري أطلقه جد أسرة أخرى. أيقنت أن الشاب الصعيدي الجالس قربي على طرف المركب قد نسف ما كنت أتصوره تماماً !
كان المركب يرتفع ويهبط مع الأمواج التي تنقسم عند ارتطامها به، فيمر جزء منها فوقه مرتطماً بمئات الوجوه المذعورة، ويمر الجزء الأكبر من تحت المركب ليحمله إلى أعلى كريشة خفيفة، ثم لا يلبث إلا قليلاً ليهبط بقوة على سطح الماء لتتطاير على وجوهنا دفقات الماء البارد المالح.
كان شرود ذهني يخفف علي من وطأة الذعر الذي عم المركب كالوباء، وكأن للذاكرة وظيفة أخرى لا نعرفها إلا في ظروف كهذه. عدت إلى تلك اللحظة التي ركبت فيها عربة نقل البضائع التي نعرفها باسم "اللوري" في السودان، ذات موديل يعود لما قبل الإستقلال الذي تذكرنا به الحكومة كل عام. انطلق اللوري من أطراف أم درمان في رحلة امتدت عبر صحراء أفريقيا الكبرى حتى داخل الأراضي الليبية. لنستقل عربة نقل مع عصابة أخرى تولت نقلنا إلى مدينة على الساحل الليبي حيث تم وضعنا بمنزل مهجور لعشرة أيام.
وفي مساء اليوم العاشر تم نقلنا إلى الساحل مع بقية المهاجرين الذين تواصلت وفودهم طيلة الأيام الفائتة، وذلك لاستغلال هدوء البحر. ضحكت في نفسي من حكومات تبرع في صنع الظروف الكافية للفظ بعضنا من ديارنا، وفي تحويل من فضلوا البقاء إلى متاجرين يجنون آلاف الدولارات من تجارة البشر أو إلى جالسين أمام نشرات الأخبار ليصفعهم ترامب كما يشاء !
"سنموت! "
كانت الصيحة كافية لأنتفض بقوة، قبل أن أنتبه إلى أن المركب على وشك أن ينقلب، كان غضب السماء قد بلغ ذروته. لم تمض ثواني حتى صفعت المركب موجة أكبر من أخواتها لتشتت أجسادنا وأحلامنا على سطح البحر الهائج، تذكرت كل ما أعرفه عن الشهداء، تخيلت نفسي شهيداً تولى الفقر إزهاق روحه، فأطلقت ضحكة ساخرة لم يخرسها سوى الماء المالح الذي ملأ جوفي وضحكة البحر التي تجلجلت في أعماقي !
تعليق