عندما ضحك البحر !

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • زياد الشكري
    محظور
    • 03-06-2011
    • 2537

    عندما ضحك البحر !

    عندما ضحك البحر !


    "هذه غلطة العمر! "
    قالها شاب أسمر اللون بلهجة تميز صعيد مصر، لم التفت إليه وتشاغلت بالتطلع إلى مئات الوجوه التي تتلقى ضربات العاصفة وقطرات المطر بعنف. تأملت سحنات وجوههم فوقع في ذهني أن أفريقيا بكاملها معي على متن القارب الحديدي، الذي يختلط صوت محركه القديم بالرعود التي تصرخ بها السماء، كأنها تؤنبنا على مفارقة الديار.

    تذكرت وطأة جيوبي الفارغة على نفسي حين أعبث بيدي داخل أحدها علني أجد ما أشتري به دواءً لوالدين هدهما المرض، أو أجد ثمن وجبة ثانية هي أندر في بيتنا من لبن الطير ولكن المعجزات لا تتحقق للفقراء، راقني أن أحدث نفسي هكذا في خضم عاصفة يبدو أنها لن تمر بسلام، ورغماً عني وجدتني أكرر عبارة الشاب الصعيدي بصوت هامس!

    كان عم إبراهيم رجلاً يحمل طيبته على وجه لم تخف التجاعيد عذوبة ابتسامته، قضيت في ورشته سنة كصبي أعاونه في أعمال النجارة وتسليم المنجز للزبائن، على أن ينقدني نصف اليومية ويحتفظ بالنصف الآخر في خزانته، حتى يكتمل المبلغ الذي تتطلبه رحلتي لأوروبا. كان يفترض حسب حساباتي أن أقضي مع العم إبراهيم سنتين، لكنه نقدني أكثر مما يحتفظ لي به، ربما أعجب بالتفاني الذي ميز عملي وحبي له، أو أنه قد رق لحالي وأسف لظروفي رغم شهادة الهندسة التي إقتلعتها من هذه الدنيا بما تئن له الجبال من صبر.

    "سنموت جميعاً"
    هذه المرة التفت إليه، كانت ملامحه تشي برعب شديد، راجعت في نفسي ما أعرفه عن صعايدة مصر، كنت أحتفظ بصورة الأهالي الذين تميزهم القسوة والسعي للثأر الذي يمتد لأجيال في الأسرة بسبب قتل جدهم بواسطة عيار ناري أطلقه جد أسرة أخرى. أيقنت أن الشاب الصعيدي الجالس قربي على طرف المركب قد نسف ما كنت أتصوره تماماً !

    كان المركب يرتفع ويهبط مع الأمواج التي تنقسم عند ارتطامها به، فيمر جزء منها فوقه مرتطماً بمئات الوجوه المذعورة، ويمر الجزء الأكبر من تحت المركب ليحمله إلى أعلى كريشة خفيفة، ثم لا يلبث إلا قليلاً ليهبط بقوة على سطح الماء لتتطاير على وجوهنا دفقات الماء البارد المالح.

    كان شرود ذهني يخفف علي من وطأة الذعر الذي عم المركب كالوباء، وكأن للذاكرة وظيفة أخرى لا نعرفها إلا في ظروف كهذه. عدت إلى تلك اللحظة التي ركبت فيها عربة نقل البضائع التي نعرفها باسم "اللوري" في السودان، ذات موديل يعود لما قبل الإستقلال الذي تذكرنا به الحكومة كل عام. انطلق اللوري من أطراف أم درمان في رحلة امتدت عبر صحراء أفريقيا الكبرى حتى داخل الأراضي الليبية. لنستقل عربة نقل مع عصابة أخرى تولت نقلنا إلى مدينة على الساحل الليبي حيث تم وضعنا بمنزل مهجور لعشرة أيام.

    وفي مساء اليوم العاشر تم نقلنا إلى الساحل مع بقية المهاجرين الذين تواصلت وفودهم طيلة الأيام الفائتة، وذلك لاستغلال هدوء البحر. ضحكت في نفسي من حكومات تبرع في صنع الظروف الكافية للفظ بعضنا من ديارنا، وفي تحويل من فضلوا البقاء إلى متاجرين يجنون آلاف الدولارات من تجارة البشر أو إلى جالسين أمام نشرات الأخبار ليصفعهم ترامب كما يشاء !

    "سنموت! "
    كانت الصيحة كافية لأنتفض بقوة، قبل أن أنتبه إلى أن المركب على وشك أن ينقلب، كان غضب السماء قد بلغ ذروته. لم تمض ثواني حتى صفعت المركب موجة أكبر من أخواتها لتشتت أجسادنا وأحلامنا على سطح البحر الهائج، تذكرت كل ما أعرفه عن الشهداء، تخيلت نفسي شهيداً تولى الفقر إزهاق روحه، فأطلقت ضحكة ساخرة لم يخرسها سوى الماء المالح الذي ملأ جوفي وضحكة البحر التي تجلجلت في أعماقي !
    التعديل الأخير تم بواسطة زياد الشكري; الساعة 12-12-2017, 21:42.
  • حسن لشهب
    أديب وكاتب
    • 10-08-2014
    • 654

    #2
    لك كل التحية أخي زياد
    نص قاس ونهاية صادمة وقوية.
    من أجمل وأقوى النصوص التي قرأتها مبنى ومعنى
    شكرا لهذا الإبداع الجميل

    تعليق

    • زياد الشكري
      محظور
      • 03-06-2011
      • 2537

      #3
      شكراً لك أخي وأستاذي / حسن، هي محاولة سررت أنها راقت لك، أنتم أهل القصة وأدرى بشعابها، تقديري الكبير.

      تعليق

      • محمد شهيد
        أديب وكاتب
        • 24-01-2015
        • 4295

        #4
        أسقطت عليها مصطلحاً أراه مناسباً لتركيبة القصة البديعة التي أتحفتنا بها: estructura abierta يقابله ربما في التحليل النقدي العربي نموذج السرد المفتوح على الشكل الذي نسجت به حكايات ألف ليلة وليلة. فالنهاية جد قابلة - بحسب رأيي - إلى فتح الباب لسرد أحداث جديدة وذلك بالاعتماد على خطة - الفلاش باك أو الاستدراك. مثال مقتبس من قصيدة الأطلال: "وَ إذا بِيَد تمتد نحوي كَيَدٍ مُدت من بين الموج لغريق".

        واصل مسيرتك الموفقة مع السرد، عزيزي زياد.

        تعليق

        • حنان عبد الله
          طالبة علم
          • 28-02-2014
          • 685

          #5
          لم أقرأ لك قصص من قبل أستاذ زياد وان كانت هذه المرة الأولى فأنت تحسن السرد ومتمكن
          ومزيدا من التألق ودام الإبداع

          تعليق

          • زياد الشكري
            محظور
            • 03-06-2011
            • 2537

            #6
            الصديق العزيز م.ش تنثر الفوائد أينما حللت، حياك الله وأسعدك.

            تعليق

            • زياد الشكري
              محظور
              • 03-06-2011
              • 2537

              #7
              شكراً وارفتنا الخلوقة حنان ..
              أحببت أن أحاول في هذا الميدان، وأشكركِ على التشجيع بكلماتكِ الطيبة، سررت بحضوركِ جداً، أطيب التحايا لنبلكِ.

              تعليق

              • محمد شهيد
                أديب وكاتب
                • 24-01-2015
                • 4295

                #8
                نريد لغزاً على سجية "أبي محمد الكسلان".

                تعليق

                • زياد الشكري
                  محظور
                  • 03-06-2011
                  • 2537

                  #9
                  سرقت القراءة معظم وقتي، فتركت لك دفة الألغاز، وستجدني حاضراً إن شاء الله، حتى لو كان لغزك للكسلان ههه

                  تعليق

                  • عمار عموري
                    أديب ومترجم
                    • 17-05-2017
                    • 1300

                    #10
                    لعدم توفر وظيفة مكافئة لشهادته في الهندسة، يضطر أحد الشباب إلى العمل كصبي عند أحد النجارين الشيوخ، للنفقة على أبويه المريضين بنصف الأجرة، وادخار النصف الآخر عند النجار حرصا منه على توفير مبلغ كاف لتمويل مشروعه في الهجرة السرية إلى أوروبا.

                    ها هو الآن على الساحل الليبي، بعد رحلة طويلة وشاقة من أم درمان على متن شاحنة قديمة، وفي ساعة صحو ينطلق به المركب رفقة مئات الأشخاص من أمثاله وأغلبهم من إفريفيا السمراء. لكن الجو سرعان ما يتقلب، ويبدأ المركب في التمايل والاهنزاز تحت تأثير العاصفة البحرية القوية إلى أن ينقلب بمن فيه، ومن ضمنهم بطل القصة، الذي وهو يغرق، يستغرق في الضحك من سذاجته، لكن قهقهة البحر طغت على ضحكته إلى حد أنها أخرستها في النهاية.

                    قصة حاولت في إطار نفسي حكي ظاهرة الهجرة غير الشرعية من بداياتها إلى نهاياتها مرورا بظروفها، ومحاكاة سلوك المهاجرين وهم في عرض البحر وعلى وشك الغرق، وركزت على البطل الذي أظهرته أولا غير مبال لما يحدث حوله من اضطراب الأجواء وتلاطم الأمواج والخوف العام السائد بين ركاب القارب منهم البطل الثانوي الذي كان يجلس بجانبه، وأظهرته أخيرا في نوبة ضحك وهو يسقط في البحر.

                    ما سبب الفرح عند البطل الرئيسي بخلاف الحزن عند البطل الثانوي الذي أبدى ندمه على مفارقة الديار؟
                    سلوك التحول من الصمت إلى الثورة، واللامبالاة إلى اهتمام مفاجئ بما يحدث، سلوك معقول ومنطقي حينما تبلغ الأزمة ذروتها عند بعض الأشخاص، وهو يمثل في القصة تعبيرا لاشعوريا عند البطل في التخلص من آماله المكبوتة في أعماقه، ورغبته العارمة بالموت في البحر مع مشروع عمره الذي آل إلى الغرق في البحر، وهي نهاية سعيدة أرادها الكاتب لبطل قصته، رغما عن الكارثة وصناع وسماسرة الكارثة.

                    محاولة قصصية أعادت إلى الأذهان حادثة غرق المئات من المهاجرين السريين قبالة السواحل الليبية، ويمكن اعتبارها موفقة رغم ما شاب عناصرها وأسلوبها - حسب رأيي - من مفارقة أو ضعف أو مغالاة في غير موضعها، كسرد القصة على لسان راو من المفترض أنه غرق حسب تعبير الكاتب في نهاية القصة، أو كقول الكاتب على سبيل المثال لا الحصر في بداية القصة : تشاغلت بالتطلع إلى مئات الوجوه التي تتلقى ضربات العاصفة وقطرات المطر بعنف. تأملت سحنات وجوههم...والصواب أن يقال : ''بالتطلع إلى وجوه مئات الأشخاص''... ''صفقات العاصفة العنيفة''...''وابل المطر الشديد''...''سحناتها'' أو المغالاة بغير ما داع إليها : هي أندر في بيتنا من لبن الطير...أو الخطأ الإملائي في كلمة : ثواني والصحيح ثوانٍ.

                    استغلت بعض الوقت المتاح لكتابة هذا التعليق السريع على قصتك التي كنت قرأتها البارحة، وقد أعود لمزيد من التدقيق والملاحظات في المرة القادمة. من دون أن أنسى تبليغك تحيتي ومحبتي، أخي الحبيب زياد الشكري.

                    تعليق

                    • أميمة محمد
                      مشرف
                      • 27-05-2015
                      • 4960

                      #11
                      مرحبا أخي زياد الشكري.. يسعدني القراة لك
                      أتخيل أن القصة ـ أية قصة ـ تفجير لعاطفة لحظة تبلور الفكرة. وإذ يأخذ العقل بتلابيبها تفقد شيئا من تلقائيتها
                      لذا أصحاب العقول يبرعون في المقال وأصحاب العاطفة المتبلرة يبرعون في القصة والاثنان لا بد لهما من التغيير أحيانا.
                      تقمص الحالة المفكرة في الهجرة ودوافعها ونتائجها جميل ومقنع وسردك بروح هادئة خففت من اندلاع الخوف والرعب وتراءي النهاية في المشهد
                      ولم أحب ذكر مصر ليبيا السودان بالأسماء وفضلت مزيدا من التكثيف واستبعاد مقاطع مثل كونه يحمل شهادة الهندسة ثم صبيا
                      لديك قدرة سردية سنراها تتجدد مستقبلا.. أهنئك لأنك كتبت نصا بهذا الطول بعد كتابة القصة القصيرة جدا بما فيها من اقتضاب وتكثيف.. كان استبعاد بعض المقاطع والكلمات سيزيدها رونقا.. النهاية كانت بموت الراوي.. يمكن أن يكتب له النجاة بالإنقاد أو ربما الراوي جسّد تخيلات لما تكون عليه تلك الحالة أو نقلا عن حالات مشابهة
                      أشكرك.. وأتمنى أن أقرأ لك مجددا بدون خصخصة تعرّض النص لأشكاليات
                      عذرا إذا أثقلت إنما نصك يستحق القراءة فتفضلت
                      وفير تقدير

                      تعليق

                      • زياد الشكري
                        محظور
                        • 03-06-2011
                        • 2537

                        #12
                        الحبيب عمار ..
                        عندما وضعت القصة تمنيت لو كنت أضفتها بقسم النقد، فالمحاولات الأولى يهفو صاحبها لمعرفة مواطن الخلل لقلة الخبرة .. شكراً لما تفضلت به من جهد كبير واقتطاعك من وقتك، شكراً كبيرة .. وسأضع ملاحظاتك الثرية في موضع الإعتبار في المحاولات التالية بإذن الله .. محبتي لك يا غالي.

                        تعليق

                        • زياد الشكري
                          محظور
                          • 03-06-2011
                          • 2537

                          #13
                          أختي أميمة .. غمرني سرور بالغ حين رأيت أسمكِ بين الموقعين على هامش هذه المحاولة، سأضع ملاحظاتكِ في بالي في القادم إن شاء الله .. لا حرمناكِ وتعليقاتكِ القيمة .. شكراً بلا حد.

                          تعليق

                          • عائده محمد نادر
                            عضو الملتقى
                            • 18-10-2008
                            • 12843

                            #14
                            الله يازياد
                            تفوقت على نفسك بهذا النص بكل هدوء الموت وجبروت العاصفة
                            نبتلع أوجاعنا زياد
                            الشوارع تأكل أعمار الشباب والبحر يبتلعهم وملحه يذيب أجسادهم الفتية
                            تؤرقني هجرة الشباب وتتعب نفسيتي حالة نعيشها مرغمين
                            كم أحببتك هنا
                            بالمناسبة وقبل أن أنسى في العراق ايضا نقول ( لوري ) على سيارات الحمل الكبيرة
                            لك أنفاس تحمل الهم وتنشره لأننا نتنفسه
                            محبتي لك
                            الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                            تعليق

                            • زياد الشكري
                              محظور
                              • 03-06-2011
                              • 2537

                              #15
                              يسعد المرء ببصمة القديرة/ عائدة لما لها من باع كبير في القصة، وعلى وجه الخصوص كنت أنتظر هذه البصمة الكريمة، شكراً عائدة تقديري الكبير لكِ واحترامي، ومبارك الوسام الذهبي.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X