المومياء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حسن لشهب
    أديب وكاتب
    • 10-08-2014
    • 654

    المومياء

    المومياء

    مهداة إلى
    الصديقين المبدعين محمد فطومي ونور الدين العوطار
    محبتي



    تحركت أجفاني حركات سريعة، كنت أشعر وكأنني خارج لتوي من حالة نوم عميق، نوم غمرتني فيه كوابيس شتى …
    رغم لحظة اليقظة لم أكن أميز بين الحلم و الواقع، فقد كنت كالمومياء ملفوفا في الضمادات من قمة رأسي إلى أخمص القدمين.
    عضلاتي واهنة و ذهني مشتت و كأنني أعيش حالة هذيان، شفتاي متشققتان و ملتصقتان، تنزفان بمجرد ما تراودني رغبة في الكلام.
    عالمي "خير و سلام" كله أبيض في أبيض، و من أراهم من الناس يلبسون البياض، ملائكة أو شياطين لا أعلم؟!
    ما أذكره في تلك اللحظة أنني قضيت الليل كله في عراك معها، بعضها قضى بضربة حولته إلى غبار، و بعضها أحرقته بالنار حين حاول قضم جزء من جسدي، معركة استنفذت قواي كلها.
    من جديد أشعر بهم يتهامسون من حولي ، دوخة تلف كياني ، كأنني منتش ليس أكثر ، وقد يكون أحدهم دس لي مخدرا في الكؤوس التي يجتهدون في تشجيعي على تجرعها مرغما ، أحيانا تنبري إحداهن بابتسامة جذابة وعينين مغريتين لتطلب مني تناول المشروب بلا مقاومة.
    بهدوء يتهامسون ، و الهوينى يتحركون ، عيناي غائمتان ..أحاول استيعاب كل ما يجري في كل لحظة وحين ، والكشف عن مخططات الموميات والشياطين ، أدرك أنهم مصرون على التحكم في مصيري …
    تصور أن تكون تائها في الظلام وتتهاوى على جسدك ضربات مجهولة المصدر ، تسمع إغلاق باب حديدي من الصرير الذي يحدثه تشعر به ثقيلا كالقدر ، وبين الفينة والأخرى تلمع نجوم في الظلام جراء صفعات تنزل على خديك من حيث لا تدري ، ويضربون ويضربون بلا رحمة وبكل قوة يضربون ، كأنهم كائنات سوداء نزلت لتوها من غابة مظلمة مخيفة.
    في لحظة التقت شرارات النجوم لسبب ما والتهب الكون كله كأن النار التي تعالى لهيبها داخل أعماقك لم يكن من الممكن تخفيف حرارتها إلا بنار أشد وهجا وحرارة .
    كثر اللغط والهرج والمرج ، كنت أسمع الأصوات من كل حدب وصوب الخافت منها والمتعالي مثل صوت سيارة الإسعاف حادا كان منبعثا من الآفاق ، كان ثمة صوت سيارة إطفاء فيما أعتقد ، وفكرت أنه من الطبيعي أن يوجد حتى في عالم الزومبي والشياطين شخص يفكر في طلبها فتحضر هذه السيارات بكل صخبها المعتاد والمعلوم.
    أتذكر أنني كنت ممددا فوق الإسفلت وسط بركة دم وبنزين ، أصوات وأحذية عسكرية تتقاطع في كل الاتجاهات وشيئا فشيئا اتخذت الأشياء بعض الوضوح تزايد مع مرور الوقت وحلت بالمكان فيما بعد ظلمة تكاد تكون شهية ولذيذة..
    غاب النور الصافي الهادئ ، وابتلع الصمت الضوضاء التي سادت المكان وغاصت المدينة في الفراغ….
    تحولت إلى مومياء منتشية أو تكاد…
    لم يترك لي الأوغاد أي شيء…
    لم الكد ولم التعب
    ضريبة على الدخل والسكن
    تأمين عربة الخضر
    فواتير الماء والكهرباء
    مصاريف دراسة الأبناء
    حاجات الأم والإخوة
    رباه ما الذي تبقى ،
    ما الذي تبقى بعد ؟
    لقد أخذوا كل شيء، فلم الكد والشقاء، ما الفائدة في غياب النتيجة، لم التعب المضني عبر الأزقة والأسواق ،لم التفنن في التغني بجمال الطماطم والتفاح ، لم إغراء الزبائن لاقتنائها بلا أرباح ذات بال .
    كل صباح كان من المفروض التكيف مع الرصيد الذي رسمه القدر ، كان هذا هو التحدي الأزلي …
    أن تفكر وتتجنب الغرق في لجة الخصاص ، ويكون عليك الاختيار إما الصوم وإما مواجهة لعنة أفواه مفتوحة على الدوام.
    سيجارة تلو الأخرى تؤلمك معدتك الفارغة تراوغها بقضم ما يقع تحت اليد فوق العربة ، صارت الأسنان نخرة تعلوها صفرة ، وشفتاك علاها سواد غير قابل للزوال ولو بصابون تازة …
    كل يوم كنت ألتقيها في الساحة وهي تحرك ردفيها الثقيلين ، ترمقني بنظرات متوعدة ، تضرب بيدها اليمنى كفها الأيسر بعصا الشرطة …
    فكان ماكان ، تحركت نار الكرامة الجريحة حين نزل كفها على خدي الأيمن…
    .مجرد حدث معتاد عرضي وعابر…
    مومياء ولدت وسط الساحة وغلفت الأشياء والناس ظلمة ساكنة ولذيذة تلتها لحظات غزاها الوميض والنار .

    حسن لشهب


  • حنان عبد الله
    طالبة علم
    • 28-02-2014
    • 685

    #2
    وكأنني أقرأ قصة البوعزيزي صاحب عربة الخضروات
    أسلوب مشوق وجميل
    دام ابداعك

    تعليق

    • عائده محمد نادر
      عضو الملتقى
      • 18-10-2008
      • 12843

      #3
      حسن
      أنت أديب رائع
      لك بصمة
      لك رؤية مختلفة
      رأيت المشهد وكأني كنت معه
      الضمادات لجسد محترق كليا مؤكد ستجعله مومياء
      البنزين والنار سمة اليوم ودمغته فنحن نعيش بين الحديد والنار ولاشيء غيرهما
      احرقتني الصور وهي تتلاحق
      رائع رائع رائع
      محبتي والورد
      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

      تعليق

      • منيره الفهري
        مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
        • 21-12-2010
        • 9870

        #4
        أستاذي العزيز حسن لشهب
        بكل صدق استمتعت و جداااا بهذه القصة الراااائعة و أسلوبك الجميل المشوق فيها...
        ما أروع ما كتبت أخي الفاضل !!!!!

        تعليق

        • حسن لشهب
          أديب وكاتب
          • 10-08-2014
          • 654

          #5
          حضورك هو الأجمل
          شكرا لكلامك الطيب أختي الأديبة المتألقة حنان.
          كوني بخير .

          تعليق

          • فوزي سليم بيترو
            مستشار أدبي
            • 03-06-2009
            • 10949

            #6
            أتقنت الوصف والسرد واللعب على ثقوب الناي
            فأبدعت لحنا حزينا شدوه يحاكي الكروان .
            جمال القصة أنها فانتازيا تناولت الواقع الحياتي
            سلامي لك أستاذ حسن
            فوزي سليم

            تعليق

            • نورالدين لعوطار
              أديب وكاتب
              • 06-04-2016
              • 712

              #7
              أهلا وسهلا أستاذي حسن لشهب
              شكرا على الإهداء و شكرا على هذا الهطول المميز وهذا النشاط المتدفق وهذه الإبداعات الرائدة

              المومياء، لفظة تم اقتباسها من الإرث الفرعوني لإسقاطها على الحالة الراهنة، فقط تلك كانت لها رمزية الخلود والتمسك بالحياة، وفيها نوع من التكريم للجسد وجعله يقوام الفناء، وهنا تحمل دلالة مغايرة، ففيها نوع من إجبار الجسد على المقاومة لينال قسطا ضعفا من العذاب، عذاب إنسان أنهكته ضريبة الحياة الكريمة المنشودة، في مجتمعات تأخذ منك كلّ شيء و تعريك حتى من الأمان والذوق لتصبح مومياء متحركة خالية من الذوق وفارغة من الكرامة، قطع غيار بشرية مجبرة على أداء دور الحركة في آلة مجتمعية معطوبة لا تستطيع التقدم، فأضحى الجهد بلا ثمار و أضحت الحياة ثقيلة.
              صورة جذّابة تلك التي نقلتها عن تلك المجندة حين تحولت معالم الجمال و رموز الحياة من عينين و يد حريري و جسد ناعم إلى رموز للبطش والتعذيب، حين تحولت رموز الرخاء والبهجة إلى سياط موجعة ومؤلمة، تفاح، خضر، ولد، نور .. لارتفاع أسعارها، مجتمع يتفنن في نزع الجماليات عن مكوناته.
              رغم ما يحمله النص من المآسي ومنسوب الأمل فيه ضعيف، والضياع الذي وصل إليه الإنسان حتى أنه ما عاد البياض تعبيرا عن السلام والأمن وتماهى فيه ما هو ملائكي بما هو شيطاني، و أضحى الموت و العدم رمزا للسكينة والطمأنينة، رمزا لإسكات الصخب، نشيدا لمن يبحث عن الكرامة، حتى هذا السبيل هناك من يحول بينك وبينه لكأنه يريد لمعاناتك أن تطول، أن تكون فريسة للأشغال الشاقة و عصا الجلاد تؤدبك متى أحسست بالضجر من أخلاق العبيد أو رنت نفسك إلى أخلاق السادة.
              أرى هذه الحالة الجمعية التي دخلتها مجتمعاتنا، هذا التوصيف المتقن حالة المومياء، كتلك النقلة الطبيعية التي تحدث عند الفراشات، فكلما ضجرت من دوديتها تشرنقت و داخل شرنقتها تنفجر الحرية وتولد بأجنحة وجمال وأخاذ.

              دمت مبدعا.

              تعليق

              • حسن لشهب
                أديب وكاتب
                • 10-08-2014
                • 654

                #8
                الأستاذة والأديبة عائدة
                حضورك هو الأروع وتعليقاتك ومتابعاتك الدؤوبة والمستمرة للجميع تجعلك سيدة الموقع بامتياز دون الحديث عن إبداعاتك المميزة التي نقرأها بكل متعة واهتمام.
                كل التقدير لهذا المجهود الرائع الذي يعز نظيره.
                كوني بخير وصحة وعافية واعذري عسر العبارة إذا لم توفيك ما تستحقينه.
                شكرا.

                تعليق

                • حسن لشهب
                  أديب وكاتب
                  • 10-08-2014
                  • 654

                  #9
                  الأستاذة المحترمة منيرة قلب الملتقى النابض
                  لكلماتك أثر عميق في نفسي وهذا يعكس طيبة قلبك ومن دواعي سعادتنا بحضورك الرائع المفيد.
                  كوني بألف خير .

                  تعليق

                  • حسن لشهب
                    أديب وكاتب
                    • 10-08-2014
                    • 654

                    #10
                    الصديق المبدع فوزي سليم
                    تحيتي لحضورك وتفاعلك وهذا يدل على رقي ذائقتك الأدبية.
                    شكرا يا صاحب القلب الكبير.
                    كن بخير أيها الرجل الطيب.

                    تعليق

                    • حسن لشهب
                      أديب وكاتب
                      • 10-08-2014
                      • 654

                      #11
                      شكرا لكرمك أخي نور الدين
                      تحياتي

                      تعليق

                      • محمد فطومي
                        رئيس ملتقى فرعي
                        • 05-06-2010
                        • 2433

                        #12
                        تحية ومحبّة أخي حسنرويت لنا قصّة مومياء مرّت أمامنا يوما. أنا أعرف المكان الذي لُفّت فيه وأعرف السّاحة والأجسام الأخرى التي لم تتحوّل بعد إلى مومياءات.أجدت الوصف والقصّ والإيحاء. قرأت بمتعة خالصة أخيشكرا لك من القلب على الإهداء. هذا يساوي الكثير حقّا.
                        مدوّنة

                        فلكُ القصّة القصيرة

                        تعليق

                        يعمل...
                        X