"الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه" عبد القادر عودة.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حسين ليشوري
    طويلب علم، مستشار أدبي.
    • 06-12-2008
    • 8016

    "الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه" عبد القادر عودة.

    "الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه"
    عبد القادر عودة.
    [align=justify]الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على من جاء بالآيات البينات الواضحات، محمد بن عبد الله، خير خلق الله تعالى والنور الذي جاءنا من الله تعالى بالهدى والصراط المستقيم البين الواضح المعالم والإشارات فهو، صلى الله عليه وسلم، الرحمة المهداة والنعمة المسداة إلى العالمين وإلى الناس كافة فمنهم أمة الدعوة ومنهم أمة الاستجابة.

    ثم أما بعد، رأيت من فروض المساعدة على الخير ولوازم نشر الوعي نقلَ الكتيب الصغير الحجم الغزيز العلم الموسوم بـ"الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه" من وضع المستشار الكبير والفقيه الدستوري البارز الأستاذ عبد القادر عودة، رحمه الله تعالى وغفر له وعفا عنه، وسأشرع في نقل الكتيب تباعا في حلقات عسى القراء أن يجدوا فيه ما يساعدهم على فهم أوضاع المسلمين الحاضرة وكيف ينهضون من كبوتهم إن هم عملوا على تصحيح أخطائهم في فهم دينهم وتقدصيرهم في حقه، وهذا أوان الشروع في نقل الكتيب الموضوع.
    [/align]
    -=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-

    الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية iifso

    الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه
    عبد القادر عودة

    أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، - غفر الله له ولوالديه -.
    [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
    -=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-
    بسم الله الرحمن الرحيم

    الطبعة الأولى: 1970 م
    الطبعة الثانية: 1974 م
    الطبعة الثالثة: 1977 م
    الطبعة الرابعة: 1980 م
    الطبعة الخامسة: 1985 م

    [align=justify]مقدمة:
    الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي الذي اختاره الله لهداية خلقه فأرسله للناس كافة وداعيًا ومعلمًا، يدعوهم إلى الله، ويعلمهم كتابه ويردد عليهم قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1).

    وبعد، فإنه مما يحزن المسلم أنْ يرى المسلمين يسيرون من ضعف إلى ضعف، ويخرجون من جهل إلى جهل، وهم لا يدرون أنَّ العلة الحقيقية لما هُمْ فيه إنما هي الجهل بالشريعة الإسلامية، وإهمال تطبيقها على كمالها وسموها، ولا يعلمون أنَّ تشبُّثهم بالقوانين الوضعية الفاسدة هو الذي أفسدهم، وأورثهم الضعف والذلة.

    وإني لأعتقد أننا لن نترك أحكام الشريعة الإسلامية إلاَّ لجهلنا بها، وقعود علمائنا أو عجزهم عن تعريفنا بها، ولو أنَّ كل مسلم عرف واجبه نحو الشريعة لما تأخر عن القيام به، ولتسابقنا في العمل لخدمة الشريعة، وتطبيق أحكامها.

    ولقد رأيت أن خير ما يخدم به المسلم أخاه أن يبصره بأحكام الشريعة الإسلامية، وأن يبين له ما خفي عليه منها.

    وتلكم رسالة صغيرة جمعت فيها من أحكام الشريعة ما لا غنى عنه لمسلم مثقف، وبينت وجه الحق فيما يدعيه بعض الجهال على الشريعة من دعاوى غريبة، لا منطق لها ولا سند يسندها، وإني لأرجو أن تصحح هذه الرسالة بعض أوضاع الإسلام المقلوبة في أذهان إخواننا المتعلمين تعليما مدنيا، كما أرجو أن يكون فيها ما يحفز علماء الإسلام على أن يغيروا طريقهم، وأن ينهجوا نهجا جديدا في خدمة الإسلام، وهم ورثة الأنبياء، والمبلغون عن الرسل.

    والله أسأل أن يهدينا جميعا سواء السبيل.
    [/align]
    المؤلف

    (1) [سورة المائدة، الآيتان: 15، 16].
    sigpic
    (رسم نور الدين محساس)
    (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

    "القلم المعاند"
    (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
    "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
    و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

  • حسين ليشوري
    طويلب علم، مستشار أدبي.
    • 06-12-2008
    • 8016

    #2
    الفَصْلُ الأَوَّلُ: مَا يَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَهُ.

    [align=justify]الفَصْلُ الأَوَّلُ: مَا يَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَهُ:
    نحن معشر المسلمين يسرنا أن ننتسب للإسلام ونفخر به، ولكنا للأسف نجهل أهم أحكام الإسلام، ونهمل أعظم مقوماته.

    أَحْكَامُ الإِسْلاَمِ وَمُقَوِّمَاتُهُ:
    وأحكام الإسلام هي المبادئ والنظريات التي نزل بها القرآن، وأتانا بها الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومجموع هذه المبادئ والنظريات هو ما نسميه الشريعة الإسلامية، فالشريعة إذن هي مجموعة المبادئ والنظريات التي شرعها الإسلام، في التوحيد، والإيمان، والعبادات، والأحوال الشخصية، والجرائم، والمعاملات، والإدارة، والسياسة، وفي غير ذلك من الأغراض، والاتجاهات.

    وأعظم مقومات الإسلام هو العمل بأحكامه، إذ الإسلام لم يوجد إلا لتعرف أحكامه، وتقام شرائعه وشعائره، وعلى هذا فمن أهمل العمل بالشريعة الإسلامية أو عطلها فقد أهمل الإسلام وعطله.

    أَحْكَامُ الإِسْلاَمِ شُرِّعَتْ لِلْدِّينِ وَالدُّنْيَا:
    والأحكام التي جاء بها الإسلام على نوعين: أحكام يراد بها إقامة الدين، وهذه تشمل أحكام العقائد والعبادات، وأحكام يراد بها تنظيم الدولة والجماعة، وتنظيم علاقات الأفراد والجماعات بعضهم ببعض، وهذه تشمل أحكام المعاملات، والعقوبات، والأحوال الشخصية، والدستورية، والدولية، ... إلخ، فالإسلام يمزج بين الدين والدنيا، وبين المسجد والدولة، فهو دين ودولة وعبادة وقيادة، وكما أن الدين جزء من الإسلام فالحكومة جزؤه الثاني، بل هي الجزء الأهم، وصدق عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حيث قال: «إِنَّ اللهَ لَيَزَعُ بِالسُلْطَانِ مَا لاَ يَزَعُ بِالقُرْآنِ».

    وأحكام الإسلام على تنوعها وتعددها أنزلت بقصد إسعاد الناس في الدنيا والآخرة، ومن ثم كان لكل عمل دنيوي وجه أخروي، فالفعل التعبدي، أو المدني، أو الجنائي أو الدستوري، أو الدولي له أثره المترتب عليه في الدنيا من أداء الواجب، أو إفادة الحل والملك، أو إنشاء الحق أو زواله، أو توقيع العقوبة، أو ترتيب المسؤولية، ولكن هذا الفعل الذي يترتب عليه أثره في الدنيا له أثر آخر مترتب عليه في الآخرة، هو المثوبة أو العقوبة الأخروية.

    ويبنى على كون الشريعة مقصودا بها إسعاد الناس في الدنيا والآخرة أن تعتبر وحدة لا تقبل التجزئة، أو جملة لا تقبل
    الانفصام لأن أخذ بعضها دون بعض، لا يؤدي إلى تحقيق الغرض منها.

    ومن تتبع آيات الأحكام في القرآن يجد كل حكم منها يترتب على مخالفته جزاءان: جزاء دنيوي، وجزاء أخروي. فقطع الطريق جزاؤه القتل، والصلب، والنفي، عقوبة دنيوية، والعذاب العظيم عقوبة أخروية، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) وإشاعة الفاحشة، ورمي المحصنات له عقوبة في الدنيا، وعقوبة الآخرة حيث يقول - جَلَّ شَأْنُهُ -: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (2) وحيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (3).

    ـــــــــــــــــــــــ
    (1) [سورة المائدة، الآية: 33].
    (2) [سورة النور، الآية: 19].
    (3) [سورة النور، الآيات: 23 - 25].[/align]
    sigpic
    (رسم نور الدين محساس)
    (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

    "القلم المعاند"
    (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
    "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
    و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

    تعليق

    • حسين ليشوري
      طويلب علم، مستشار أدبي.
      • 06-12-2008
      • 8016

      #3
      [align=justify]والقتل العمد له عقوبتان: القصاص في الدنيا والعذاب في الآخرة. وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (1)، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (2).

      وهكذا لا نكاد نجد حكمًا لم ترتب عليه الشريعة الإسلامية عقوبة أخروية والجزاء الدنيوي، وإن وجدنا شيئًا من ذلك فإنه يدخل تحت عموم قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ، أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (3)، وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (4).

      [align=justify]ولم تشرع أحكام الشريعة الإسلامية للدنيا والآخرة عبثًا، وإنما اقتضى ذلك منطق الشريعة، فهي أصلها تعتبر أن الدنيا دار ابتلاء وفناء، وأن الآخرة دار بقاء وجزاء، وأن الإنسان مسؤول عن أعماله في الدنيا، مَجْزِيٌّ عنها في الآخرة. فإن فعل خيرًا فلنفسه، وإن أساء فعليها، والجزاء الدنيوي لا يمنع من الجزاء الأخروي، ولا يسقطه إلا إذا تاب الإنسان وأناب.

      وتمتاز الشريعة الإسلامية عن القانون الوضعي، بأنها مزجب بين الدين والدنيا، وشرعت للدنيا والآخرة وهذا هو السبب الوحيد الذي يحمل المسلمين على طاعتها في السر والعلن، والسراء والضراء لأنهم لا يؤمنون - طبقًا لأحكام الشريعة - بأن الطاعة نوع من العبادة يقربهم إلى الله، وأنهم يثابون على هذه الطاعة، ومن استطاع منهم أن يرتكب جريمة، ويتفادى العقاب فإنه لا يرتكبها مخافة العقاب الأخروي، وغضب الله عليه، وكل ذلك مما يدعو إلى قلة الجرائم وحفظ الأمن، وصيانة نظام الجماعة بعكس الحال في القوانين الوضعية فإنها ليس لها في نفوس من تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها، وهم لا يطيعونها إلا بقدر ما يخشون من الوقوع تحت طائلتها، ومن استطاع أن يرتكب جريمة ما - وهو آمن من سطوة القانون - فليس ثمة ما يمنعه من ارتكابها من خُلُقٍ أودين ولذلك تزداد الجرائم زيادة مطردة في البلاد التي تطبق القوانين، وتضعف الأخلاق، ويكثر المجرمون في الطبقات المستنيزة تبعًا لزيادة الفساد الخُلُقِي في هذه الطبقات، ولمقدرة أفرادها على التهرب من سلطان القانون.

      _________________
      (1) [البقرة: 178].
      (2) [النساء: 93].
      (3) [السجدة: 18 - 20].
      (4) [النساء: 13، 14].[/align]
      [/align]
      sigpic
      (رسم نور الدين محساس)
      (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

      "القلم المعاند"
      (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
      "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
      و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

      تعليق

      • حسين ليشوري
        طويلب علم، مستشار أدبي.
        • 06-12-2008
        • 8016

        #4
        تابع الفصل الأول: أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ لاَ تَتَجَزَّأُ.

        [align=justify]أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ لاَ تَتَجَزَّأُ:
        وأحكام الشريعة لا تتجزأ ولا تقبل الانفصال، وليس ذلك فقط لما ذكرناه من أن التجزئة تخالف الغرض من الشريعة، وإنما لأن نصوص الشريعة نفسها تمنع من العمل ببعضها، وإهمال البعض الآخر كما تمنع من الإيمان ببعضها والكفر ببعض، وتوجب العمل بكل أحكامها والإيمان إيمانًا تامًا بكل ما جاءت به، فمن لم يؤمن بهذا ويعمل به دخل تحت قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} (1).

        والنصوص الواردة بتحريم العمل ببعض الشريعة دون بعضها كثيرة منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2)

        _____________________
        .(1) [سورة البقرة، الآية: 85].
        (2) [سورة البقرة، الآيتان: 159، 160].[/align]
        sigpic
        (رسم نور الدين محساس)
        (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

        "القلم المعاند"
        (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
        "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
        و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

        تعليق

        • حسين ليشوري
          طويلب علم، مستشار أدبي.
          • 06-12-2008
          • 8016

          #5
          تابع الفصل الأول.

          [align=justify]والكتمان معناه العمل ببعض الأحكام دون بعضها الآخر والاعتراف ببعضها وإنكار البعض الآخر. ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (1).

          ومنها قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} (3).

          ___________________
          (1) [سورة البقرة، الآيتان: 174، 175].
          (2) [سورة المائدة، الآية: 44].
          (3) [سورة النساء، الآيتان: 150، 151].[/align]
          sigpic
          (رسم نور الدين محساس)
          (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

          "القلم المعاند"
          (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
          "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
          و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

          تعليق

          • حسين ليشوري
            طويلب علم، مستشار أدبي.
            • 06-12-2008
            • 8016

            #6
            [align=justify]ومنها قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} إلى قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1).

            الشَّرِيعَةُ الإِسْلاَمِيَّةُ شَرِيعَةٌ عَالَمِيَّةٌ:
            وتمتاز الشريعة الإسلامية بأنها شريعة عالمية، أنزلها الله - جَلَّ شَأْنُهُ - على رسوله محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِيُبَلِّغَهَا إلى الناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين على اختلاف مشاربهم، وتباين عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم. فهي شريعة كل أسرة، وشريعة كل قبيلة، وشريعة كل جماعة، وشريعة كل دولة بل هي الشريعة العالمية التي استطاع علماء القانون أن يَتَخَيَّلُوهَا.

            _________________
            (1) [سورة المائدة، الآيات: 48 - 50].[/align]
            sigpic
            (رسم نور الدين محساس)
            (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

            "القلم المعاند"
            (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
            "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
            و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

            تعليق

            • حسين ليشوري
              طويلب علم، مستشار أدبي.
              • 06-12-2008
              • 8016

              #7
              تابع الفصل الأول.

              [align=justify]ولكنهم لم يستطيعوا أن يوجدوها، واقرأ قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (2).

              الشَّرِيعَةُ الإِسْلاَمِيَّةُ شَرِيعَةٌ كَامِلَةٌ دَائِمَةٌ:
              وقد أنزلت الشريعة من عند الله شريعة كاملة شاملة، وتم نزولها في فترة قصيرة، بدأت ببعثة الرسول، وانتهت بوفاته، أو انتهت يوم نزل قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3). وهذا النص قاطع في كمال الشريعة ودوامها، بعد أن قطعت نصوص الشريعة بأن محمدًا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتم الأنبياء: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (4).

              ومن يراجع أحكام الشريعة يجد أنها جاءت كاملة لا نقص فيها شاملة لأمور الأفراد والجماعات والدول، فهي تنظم الأحوال الشخصية، والمعاملات، وكل ما يتعلق بالأفراد، وتنظيم شؤون الحكم والإدارة والسياسة، وغير ذلك مما يتعلق بالجماعة كما تنظم علاقة الدول بعضها ببعض في الحرب والسلم.

              ولم تأت الشريعة الإسلامية لوقت دون وقت، أو لعصر دون عصر، أو لزمن دون زمن، وإنما هي شريعة كل وقت، وشريعة كل عصر، وشريعة الزمن كله، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
              وقد صيغت نصوص الشريعة بحيث لا يؤثر على نصوصها مرور الزمن، ولا يبلى جدتها، ولا يقتضي تغيير قواعدها العامة، ونظرياتها الأساسية، فجاءت نصوصها من العموم والمرونة بحيث تحكم كل حالة جديدة، ولو لم يكن في الإمكان توقعها، ومن ثم كانت نصوص الشريعة غير قابلة للتغيير والتبديل، كما تتغير نصوص القوانين وتتبدل.

              مُقَارَنَةٌ بَيْنَ نَشْأَةِ الشَّرِيعَةِ وَنَشْأَةِ القَانُونِ:
              عرفنا فيما سبق كيف نشأت الشريعة الإسلامية، أما القانون الوضعي فينشأ في الجماعة التي ينظمها ويحكمها ضئيلاً محدود القواعد ثم يتطور بتطور الجماعة، فتزداد قواعده، وتتسامى نظرياته كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت، وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها، ويضع قواعد القانون الأشخاص المسيطرون على الجماعة وهم الذين يقومون بتهذيب هذه القواعد وتغييرها، فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون، وتصنعه على الوجه الذي يسد حاجتها، وهو تابع لها، وتقدمه مرتبط بتقدمها.

              وقد بدأ القانون يتكون كما يقول علماء القانون مع تَكَوُّنِ الأسرة في العصور الأولى، ثم تطور بِتَكَوُّنِ القبيلة، ثم تطور بِتَكَوُّنِ الدولة، ثم بدأ المرحلة الأخيرة من التطور في أعقاب القرن الثامن عشر، على هدى النظريات الفلسفية والاجتماعية، فتطور القانون الوضعي من ذلك الوقت حتى الآن تطورًا عظيمًا، وأصبح قائمًا على نظريات ومبادئ، لم يكن لها وجود في العصور السابقة.

              طَبِيعَةُ الشَّرِيعَةِ تَخْتَلِفُ عَنْ طَبِيعَةِ القَانُونِ:
              ونستطيع بعد أن استعرضنا نشأة الشريعة، ونشأة القانون أن نقول بحق: إن الشريعة لا تماثل القانون، وإن طبيعة الشريعة تختلف تمام الاختلاف عن طبيعة القانون لما جاءت على الشكل الذي جاءت به، وعلى الوصف الذي أسلفنا، ولوجب أن تأتي شريعة أولية، تأخذ طريق القانون في التطور مع الجماعة، وما كان يمكن أن تأتي بالنظريات الحديثة التي لم تعرفها القوانين إلا أخيرًا بل ما كان يمكن أن تصل إلى مثل هذه إلا بعد أن تعرفها القوانين وبعد مرور آلاف السنين.

              ____________________
              (1) [سورة الأعراف، الآية: 158].
              (2) [سورة التوبة، الآية: 33]، [سورة الفتح، الآية: 28]، [سورة الصف، الآية: 9].
              (3) [سورة المائدة، الآية: 3].
              (4) [سورة الأحزاب، الآية: 40].[/align]
              sigpic
              (رسم نور الدين محساس)
              (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

              "القلم المعاند"
              (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
              "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
              و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

              تعليق

              • حسين ليشوري
                طويلب علم، مستشار أدبي.
                • 06-12-2008
                • 8016

                #8
                تابع الفصل الأول.

                [align=justify]الاخْتِلاَفَاتِ الأَسَاسِيَّةِ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالقَانُونِ:
                تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية اختلافًا أساسيًا من ثلاثة وجوه:

                الوَجْهُ الأَوَّلُ:
                أن الشريعة من عند الله، أما القانون فمن صنع البشر، وكلا الشريعة والقانون يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع البشر، ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم، فالقانون من صنع البشر، ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير، أو ما نسميه التطور كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة، أوجدت حالات لم تكن منتظرة، فالقانون ناقص دائمًا، ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون، وإن استطاع الإلمام بما كان.

                أما الشريعة، فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان، وبما هو كائن، ومن ثم صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال.

                الوَجْهُ الثَّانِي:
                أن القانون عبارة عن قواعد مؤقتة، تضعها الجماعة، لتنظيم شؤونها وسد حاجتها، فهي قواعد متأخرة عن الجماعة، أو هي في مستوى الجماعة اليوم، ومتخلفة عنه غدًا، لأن القوانين لا تتغير بسرعة تطور الجماعة، وهي قواعد مؤقتة تتفق مع الجماعة المؤقتة، وتستوجب التغيير كلما تغيرت حال الجماعة.

                أما الشريعة فقواعدها وضعها الله على سبيل الدوام، لتنظيم شؤون الجماعة، فالشريعة تتفق مع القانون في أن كليهما وضع لتنظيم الجماعة، ولكن الشريعة تختلف عن القانون في أن قواعدها دائمة لا تقبل التعبير والتبديل، وهذه الميزة التي تمتازها الشريعة تقتضي منطقيًا:
                أولاً: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت في الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعددت الحاجات وتنوعت.

                ثانيًا: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت عصر ما عن مستوى الجماعة.

                والواقع أن ما يقتضيه المنطق متوفر بوجهيه في الشريعة، بل هو أهم ما يميز الشريعة، فقد جاءت نصوص الشريعة عامة ومرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، كما أنها وصلت من السمو درجة لا يتصور بعدها سمو.

                ولقد مر على الشريعة أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، تغيرت في خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الآراء والعلوم تطورًا كبيرًا، واستحدث من الصناعات والمخترعات ما لم يكن يخطر على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه أكثر من مرة، لتتلاءم مع الحالات الجديدة والظروف الجديدة بحيث انقطعت العلاقة بين قواعد القانون الوضعي التي تطبق اليوم، وبين قواعده التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وبالرغم من هذا كله، ومن أن الشريعة الإسلامية، لا تقبل التغيير والتبديل، ظلت مبادؤها ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم وسد حاجاتهم، وأقرب إلى طبائعهم وأحفظ لأمتهم وطمأنينتهم.

                هذه هي شهادة التاريخ الرائعة، يقف بها في جانب الشريعة الإسلامية، وليس ثمة ما هو أروع منها إلا شهادة النصوص ومنطقها وخذ مثلاً قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (1). وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (2). وقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3). وقول الرَّسُولِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ ضَرَر وَلاَ ضِرَارَ فِي الإِسْلاَمِ» فهذه نصوص من القرآن وَالسُنَّةِ، بلغت من العموم والمرونة الحد الأقصى، وهي تقرر «الشُّورَى» قاعدة للحكم على الوجه
                الذي ينتفي معه الضرر والإثم، ويحقق التعاون على البر التقوى، وبهذا بلغت الشريعة من السمو ما يعجز البشر عن الوصول لمستواه.

                الوَجْهُ الثَّالِثُ:
                إن الغرض من الشريعة هو تنظيم الجماعة وتوجيهها، وخلق الأفراد الصالحين، وإيجاد الدولة المثالية، والعالم المثالي، ومن أجل هذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها، ولا تزال كذلك حتى اليوم، وجاء فيها من المبادئ والنظريات ما لم يتهيأ العالم غير الإسلامي لمعرفته، والوصول إليه، إلا بعد قرون طويلة، وما لم يتهيأ هذا للعالم لمعرفته، أو يصل إليه حتى الآن ومن أجل هذا تولى الله - جَلَّ شَأْنُهُ - وضع الشريعة، وأنزلها نموذجًا من الكمال، ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل ويحملهم على التسامي والتكامل، حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل.

                أما القانون، فالأصل فيه أنه يوضع لتنظيم الجماعة، ولا يوضع لتوجيهها، ومن ثم كان القانون متأخرًا عن الجماعة، وتابعًا لتطورها، ولكن القانون قد تحول في القرن الحالي عن أصله فصار يوضع لتوجيه الجماعة وتنظيمها، حيث بدأت الدول التي تدعو لدعوات جديدة تستخدم القانون لتوجيه الشعوب وجهات معينة، كما تستخدمه لتنفيذ أغراض معينة، كما فعلت روسيا وتركيا وألمانيا وإيطاليا وغيرها. وهكذا انتهى القانون الوضعي إلى ما بدأت به الشريعة، وأخذ بما سبقته إليه من ثلاثة عشر قرنًا.

                المُمَيِّزَاتُ الجَوْهَرِيَّةُ التِي تُمَيِّزُ الشَّرِيعَةَ عَنْ القَانُونِ:
                ونستطيع أن نستخلص مما سبق أن الشريعة الإسلامية تمتاز على القوانين الوضعية بثلاث ميزات جوهرية هي:
                1 - الكمال: تمتاز الشريعة على القوانين الوضعية بالكمال أي بأنها استكملت كل ما تحتاجه الشريعة الكاملة من مبادئ ونظريات، وأنها غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الجماعة في الحاضر القريب، والمستقبل البعيد.
                2 - السمو: تمتاز الشريعة بأن قواعدها ومبادئها أسمى دائمًا من مستوى الجماعات. وأن فيها من المبادئ والنظريات ما يحفظ لها هذا المستوى السامي. مهما ارتفع مستوى الناس.
                3 - الدوام: تمتاز الشريعة عن القوانين الوضعية بالدوام فنصوصها لا تقبل التعديل أو التبديل مهما مرت الأعوام وطالت الأزمان وهي مع ذلك تظل حافظة لصلاحياتها في كل زمان ومكان.

                طَرِيقَةُ الشَّرِيعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ فِي التَّشْرِيعِ:
                الأصل في الشريعة أنها جاءت للناس لتحكمهم في كل حالاتهم وليحكموها في شؤون دنياهم وآخرتهم. ولكن الشريعة مع هذا
                لم تأت بنصوص تفصيلية تبين حكم كل الحالات الجزئية والفرعية كما تفعل القوانين الوضعية اليوم. وإنما اكتفت الشريعية في أغلب الأحوال بإيراد الأحكام الكلية في نصوص عامة مرنة فإذا تعرضت لحكم فرعي. فنصت عليه فإنما تنص عليه. لأنه يعتبر حكمًا كليًا بالنسبة لما يدخل تحته من فروع.

                والأحكام الكلية التي نصت عليها الشريعة تعتبر بحق القواعد العامة للتشريع الإسلامي، والهيكل الذي يمثل معالم التشريع الإسلامي، والضوابط التي تحكم التشريع الإسلامي، وقد تركت الشريعة لأولي الأمر أن يتموا بناء التشريع على أساس هذه القواعد. وأن يستكملوا هذا الهيكل. فيبينوا دقائقه وتفاصيله في حقوق المبادئ والضوابط التي جاءت بها الشريعة.

                والطريقة التي التزمتها الشريعة في التشريع هي الطريقة الوحيدة التي تتلاءم مع مميزات الشريعة. وما تتصف به من السمو والكمال والدوام، فالسمو والكمال يقتضيان النص على كل المبادئ والنظريات الإنسانية والاجتماعية التي تكفل حياة سعيدة للجماعة. وتحقق العدل والمساواة والتراحم بين أفرادها وتوجههم إلى الخير، وتدعوهم إلى التفوق، وصفة الدوام تقتضي أن لا ينص على حالات مؤقتة تتغير أحكامها بتغيير الظروف وتوالي الأيام.



                (1) [سورة آل عمران، الآية: 159].
                (2) [سورة الشورى، الآية: 38].
                (3) [سورة المائدة، الآية: 2].[/align]
                sigpic
                (رسم نور الدين محساس)
                (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

                "القلم المعاند"
                (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
                "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
                و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

                تعليق

                • ناريمان الشريف
                  مشرف قسم أدب الفنون
                  • 11-12-2008
                  • 3454

                  #9
                  قرأت بعناية ... ولما أكمل قراءتي
                  وأقتبس هذه الجملة من الكتيب الصغير الرائع الذي نقلته لنا :
                  ( ولقد رأيت أن خير ما يخدم به المسلم أخاه أن يبصرّه بأحكام الشريعة الإسلامية )
                  نعم إنها خير خدمة .. ولكاتبها الأجر ولناقلها أجرين بحول الله
                  فكثيرون من المسلمين يجهلون دينهم ولا يعرفونه

                  بارك الله فيك أخي الكريم
                  تحية ... ناريمان الشريف
                  التعديل الأخير تم بواسطة ناريمان الشريف; الساعة 10-01-2018, 13:37.
                  sigpic

                  الشـــهد في عنــب الخليــــل


                  الحجر المتدحرج لا تنمو عليه الطحالب !!

                  تعليق

                  • حسين ليشوري
                    طويلب علم، مستشار أدبي.
                    • 06-12-2008
                    • 8016

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة ناريمان الشريف مشاهدة المشاركة
                    قرأت بعناية ... ولما أكمل قراءتي
                    وأقتبس هذه الجملة من الكتيب الصغير الرائع الذي نقلته لنا:"
                    ولقد رأيت أن خير ما يخدم به المسلم أخاه أن يبصرّه بأحكام الشريعة الإسلامية"، نعم إنها خير خدمة .. ولكاتبها الأجر ولناقلها أجرين بحول الله فكثيرون من المسلمين يجهلون دينهم ولا يعرفونه.
                    بارك الله فيك أخي الكريم
                    تحية ... ناريمان الشريف
                    وبارك الله فيك أنت كذلك أختنا الفاضلة الأستاذة ناريمان الشريف.
                    هو باب من أبواب التعاون على البر والتقوى كثيرا من نغفل عنه.
                    أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا وييسر لنا العمل به على الوجه الذي يرضيه عنا، اللهم آمين.
                    تحيتي إليك وتقديري لك.

                    sigpic
                    (رسم نور الدين محساس)
                    (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

                    "القلم المعاند"
                    (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
                    "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
                    و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

                    تعليق

                    • نورالدين لعوطار
                      أديب وكاتب
                      • 06-04-2016
                      • 712

                      #11
                      جزاكم الله خيرا
                      وتقبل الله من المجتهد اجتهاده وإن شاء الله مضاعف الأجر

                      زادكم الله حكمة وعلما

                      تعليق

                      • حسين ليشوري
                        طويلب علم، مستشار أدبي.
                        • 06-12-2008
                        • 8016

                        #12
                        المشاركة الأصلية بواسطة نورالدين لعوطار مشاهدة المشاركة
                        جزاكم الله خيرا وتقبل الله من المجتهد اجتهاده وإن شاء الله مضاعف الأجر.
                        زادكم الله حكمة وعلما.
                        وجزاك الله عني خيرا وبارك فيك أخي الأستاذ نور الدين لعوطار.
                        نحاول نشر الوعي الإسلامي الصحيح إن شاء الله تعالى.
                        تحيتي إليك ومحبتي لك

                        sigpic
                        (رسم نور الدين محساس)
                        (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

                        "القلم المعاند"
                        (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
                        "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
                        و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

                        تعليق

                        • حسين ليشوري
                          طويلب علم، مستشار أدبي.
                          • 06-12-2008
                          • 8016

                          #13
                          تابع الفصل الأول.

                          [align=justify]حَقُّ أُولِي الأَمْرِ فِي التَّشْرِيعِ:
                          وإذا كانت الشريعة قد أعطت أولي الأمر حق التشريع فإنها لم تعطهم هذا الحق مطلقًا من كل قيد. فحق أولى الأمر في التشريع مقيد بأن يكون ما يضعونه من التشريعات متفقًا مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية وتقييد حقهم في التشريع على هذا الوجه يجعل حقهم مقصورًا على نوعين من التشريع.
                          [أ] تشريعات تنفيذية: يقصد منها ضمان تنفيذ نصوص الشريعة الإسلامية، والتشريع على هذا الوجه يعتبر بمثابة اللوائح والقرارات التي يصدرها الوزراء اليوم كل في حدود اختصاصه لضمان تنفيذ القوانين.
                          [ب] تشريعات تنظيمية: يقصد بها تنظيم الجماعة وحمايتها وسد حاجتها على أساس مبادئ الشريعة فلم تأت فيه بنصوص خاصة ويشترط في هذا النوع من التشريعات أن يكون قبل كل شيء متفقًا مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية.

                          حُكْمُ خُرُوجِ أُولِي الأَمْرِ عَنْ حُدُودِ حَقِّهِمْ:
                          من المتفق عليه أن عمل أولي الأمر صحيح طالما كان في حدود حقه. باطل فيما خرج على هذه الحدود. فإذا أتى أولو الأمر بما يتفق مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية فعملهم صحيح تجب له الطاعة، وإذا أتوا بما يخالف الشريعة فعملهم باطل وكل ما كان باطلاً لا يصح العمل به ولا يجب له الطاعة.

                          والأصل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) وقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2)، فالله جل شأنه يوجب علينا طاعة أوامره كما يوجب علينا طاعة الرسول، وأولي الأمر والطاعة لله تجب بأمر الله، والطاعة للرسول وأولي الأمر تجب بأمر الله لا بأمر الرسول: ولا بأمر أولي الأمر. فإذا خرج ولي الأمر على ما أنزل الله فأمره باطل ولا تجب طاعته.

                          ولقد أكد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه المعاني في قوله: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ». وفي قوله: «إِنَّمَا الطَّاعَة فِي المَعْرُوف». وفيما قاله في أولي الأمر: «مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ».

                          هَلْ اِسْتَعْمَلَ أُولُو الأَمْرِ حَقَّهُمْ فِي حُدُودِهِ؟
                          أخذ ولاة الأمور في أكثر البلدان الإسلامية يضعون من القرن الماضي لبلادهم مجموعات قانونية في مختلف التشريعات على غرار ما فعلت البلاد الأوروبية، ولكنهم عمدوا إلى القوانين الأوروبية فنقلوا عنها نقلاً مجموعات دستورية وجنائية ومدنية وتجارية وغير ذلك، ولم يرجعوا إلى الشريعة الإسلامية إلا في بعض المسائل القليلة، كالوقف والشفعة.

                          ومن الحق أن نقرر أن معظم نصوص هذه المجموعات يتفق مع نصوص الشريعة، ولا يخرج على مبادئها العامة. ولكن من الحق أن نقرر أيضًا أن بعض نصوص هذه المجموعات جاء على خلاف أحكام الشريعة، وقام على مبادئ تخالف مبادئها، ومن الأمثلة على ذلك بعض نصوص قوانين العقوبات، فإنها تبيح الزنا في بعض الأحوال، كما تبيح شرب الخمر، بينما الشريعة تحرم الزنا وشرب الخمر تحريمًا مطلقًا، بينما تبيحه القوانين الأوروبية، ولو أن الإباحة ليست مطلقة، ومقيدة بحد معين.

                          _______________
                          (1) [سورة النساء، الآية: 59].
                          (2) [سورة الشورى، الآية: 10].[/align]
                          sigpic
                          (رسم نور الدين محساس)
                          (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

                          "القلم المعاند"
                          (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
                          "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
                          و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

                          تعليق

                          • حسين ليشوري
                            طويلب علم، مستشار أدبي.
                            • 06-12-2008
                            • 8016

                            #14
                            تابع الفصل الأول.

                            [align=justify]عِلَّةُ نَقْلِ القَوَانِينِ الأُورُوبِيَّةِ لِلْبِلاَدِ الإِسْلاَمِيَّةِ:
                            قد يظن البعض أن ولاة الأمور في البلاد الإسلامية نقلوا لها القوانين الأوروبية لأنهم لم يجدوا في الشريعة غناء، وهذا ظن خاطئ أساسه الجهل الفاضح بالشريعة، فإن في الشريعة الإسلامية، وفي الفقه الإسلامي من المبادئ والنظريات والأحكام ما لو جمع في مجموعات لكان مثلاً أعلى في المجموعات التشريعية وأعتقد أنه لو وضعت هذه المجموعات الإسلامية لنقلت البلاد غير الإسلامية أحكامها قبل جيل واحد، وأهملت ما لديها من مجموعات تعتز بها.

                            والعلة الحقيقية في نقل القوانين الأوروبية للبلاد الإسلامية هي الاستعمار، والنفوذ الأوروبي، وقعود علماء المسلمين، فبعض البلاد الإسلامية أدخلت لها القوانين الأوروبية بقوة المستعمر وسلطانه، كالهند، وشمال أفريقيا، وبعض البلاد الإسلامية دخلتها القوانين الأوروبية لضعها، وقوة النفوذ الأجنبي فيها من ناحية ومحاولة حكامها تقليد البلاد الأوروبية من ناحية أخرى، ومن هذا القس مصر وتركيا.

                            ومن الثابت تاريخيًا أن القوانين الأوروبية نقلت إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل. وأنه كان يود أن يضع لمصر مجموعات تشريعية مأخوذة من الشريعة ومذاهب الفقه الإسلامي المختلفة وقد طلب من علماء الأزهر أن يضعوا هذه المجاميع، ولكنهم رفضوا إجابة طلبه، لأن التعصب المذهبي منعهم من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أجمل صورها، فضحوا بالشريعة جميعها، واحتفظ كل بمذهبه والتعصب له وأضاعوا على العالم الإسلامي فرصة طالما بكوا على ضياعها، وحق لهم أن يبكوا عليها حتى تعود.

                            وأحب أن أنبه إلى أن بعض البلاد الإسلامية التي أخذت مختارة إلى حد ما بالقوانين الأوروبية لم تكن تقصد إطلاقًا مخالفة الشريعة الإسلامية، وليس أدل على ذلك من أن قانون العقوبات المصري الصادر في سَنَةِ 1883 نص في المادة الأولى منه على أن «من خصائص الحكومة أن تعاقب على الجرائم التي تقع على أفراد الناس بسبب ما يترتب عليهامن تكدير الراحة العمومية وكذل الجرائم التي تحصل ضد الحكومة مباشرة. وبناء على ذلك فقد تعينت في هذا القانون درجات العقوبة التي لأولياء الأمر شرعًا تقريرها. وهذا بدون إخلال في أي حال من الأحوال بالحقوق المقررة لكل شخص بمقتضى الشريعة الغراء». وهذا النص مأخوذ من القانون التركي الصادر في: 5/ 6 / 1853.

                            وكذلك أستطيع أن أقول بحسب اعتقادي: إن أولى الأمر في معظم البلاد الإسلامية لم يخطر على بالهم أن يخالفوا الشريعة لا قديمًا ولا حديثًا، ولكن القوانين جاءت مخالفة للشريعة بالرغم من ذلك، وبالرغم من حرص بعضهم على منع التخالف ولعل السر في ذلك هو أن واضعي القوانين إما أوروبيون ليس لهم صلة بالشريعة أو مسلمون درسوا القوانين ولم يدرسوا الشريعة.
                            [/align]
                            sigpic
                            (رسم نور الدين محساس)
                            (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

                            "القلم المعاند"
                            (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
                            "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
                            و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

                            تعليق

                            • حسين ليشوري
                              طويلب علم، مستشار أدبي.
                              • 06-12-2008
                              • 8016

                              #15
                              تابع الفصل الأول.

                              [align=justify]أَثَرُ القَوَانِينِ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنَ الوِجْهَةِ العِلْمِيَّةِ:
                              ترتب على إدخال القوانين الأوروبية في البلاد الإسلامية أن أنشأت في تلك البلاد محاكم خاصة لتطبيق هذه القوانين. وعين لهذه الحاكم أوروبيون، أو قضاة وطنيون درسوا هذه القوانين، ولم يدرسوا الشريعة، وقد اعتبرت المحاكم الجديدة نفسها مختصة بكل شيء تقريبًا، فترتب على ذلك تعطيل الشريعة تعطيلاً عمليًا لأن المحاكم الجديدة لا تطبق إلا قوانينها.

                              كذلك أنشأت السلطة القائمة على التعليم مدارس خاصة لتدريس القوانين، وقد جرت هذه المدارس على الاهتمام بدراسة القوانين، وإهمال الشريعة إلا في مسائل قليلة كالوقف، فأدى ذلك إلى نتيجة مخزية. إذ أصبح رجال القانون تقريبًا - وهم من صفوةالمثقفين - يجهلون كل الجهل أحكام الشريعة الإسلامية واتجاهاتها العامة، أي أنهم يجهلون بكل أسف أحكام الإسلام وهو الدين الذي تتدين به الدول الإسلامية.

                              ولقد أدى الجهل بالشريعة إلى تفسير النصوص القليلة المأخوذة عن الشريعة تفسيرًا يتفق مع القوانين الوضعية ويختلف عن الشريعة في بعض الأحوال، من ذلك أن قانون العقوبات المصري ينص على أن أحكام قانون العقوبات لا تخل في أي حال من الأحوال بالحقوق المقررة لكل شخص في الشريعة الإسلامية، وبالرغم من قيام هذا النص الصريح فإن الشراح المصريين لم يدرسوا هذه الحقوق كما هي موجودة في الشريعة، واكتفوا بأن يدرسوا من الحقوق ما يقره القانون الفرنسي، وأن يدرسوه على طريقة الشراح الفرنسيين، وأن يعللوه بقواعد القانون، كلما علله الفرنسيون، ولقد اندفع الشراح المصريون في هذا الطريق تحت تأثير عاملين:
                              أولهما: أنهم لا يدرسون الشريعة ولا يعرفون شيئًا من أحكامها واتجاهاتها.
                              وثانيهما: أنهم يقيدون أنفسهم بآراء واتجاهات الشراح الأوروبيين عامة والفرنسيين خاصة، فلا يبيحون إلا ما أباحوا ولا يحرمون إلا ما حَرَّمُوا، والشراح الأوروبيون لا يعرفون بطبيعة الحال شيئًا عن الشريعية الإسلامية.

                              أَثَرُ القَوَانِينِ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنَ الوِجْهَةِ النَّظَرِيَّةِ:
                              إذا كانت القوانين الوضعية قد أدت عمليًا إلى تعطيل معظم أحكام الشريعة الإسلامية، فإن هذه القوانين لا أثر لها على الشريعة م الوجهة النظرية، فنصوص الشريعة لا تزال قائمة، وأحكامها واجبة التطبيق في كل الأحوال، وهذا هو حكم الشريعة وحكم القانون مجتمعين، لأن القاعدة الأساسية في الشريعة والقانون أن النصوص لا ينسخها إلا نصوص في مثل قوتها أو أقوى منها، أي نصوص صادرة عن نفس الشارع، أو من هيئة لها من سلطان التشريع ما للهيئة التي أصدرت النصوص المراد نسخها أو من هيئة يزيد سلطانها التشريعي على سلطان من أصدر النصوص المطلوب نسخها.

                              فالنصوص التي يمكن أن تنسخ الشريعة يجب أن تكون قرآنًا أو سُنَّةً، حتى يمكن أن تنسخ ما لدينا من قرآن وَسُنَّةٍ، وليس بعد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرآن حيث انقطع الوحي، ولا سنة حيث توفي الرسول، ولا يمكن أن يقال ما يصدر من هيئاتنا التشريعية البشرية في درجة القرآن والسنة، أو أن لها من سلطان التشريع ما لله والرسول، ولكن الذي يمكن أن يقال - وهو الواقع - أن أولي الأمر منا لا يملكون حق التشريع وإنما لهم حق التنفيذ والتنظيم على الوجه الذي بيناه فيما سبق، أما التشريع فمن حق الله والرسول، وقد انتهى عهده بوفاة الرسول، واستقر أمره بانقطاع الوحي.

                              حُكْمُ تَعَارُضِ القَوَانِينِ مَعَ الشَّرِيعَةِ:
                              إذا تعارضت أحكام القوانين الوضعية مع الشريعة كان من الواجب تطبيق حكم الشريعة دون حكم القانون وذلك لثلاثة أسباب.
                              أولها: أن نصوص الشريعة الإسلامية لا تزال قائمة ولا يمكن إلغاؤها بحال كما بينا، أما نصوص القوانين فقابلة للالغاء، ومعنى هذا أن نصوص الشريعة أقوى من نصوص القوانين.
                              وثانيها: أن الشريعة تقضي ببطلان كل ما يخالفها، وتمنع من طاعته، وقد شرحنا ذلك فيما سبق، فالقوانين المخالفة للشريعة تعتبر باطلة بطلانًا مطلقًا فيما جاء مخالفًا للشريعة.
                              وثالثهما: أن القوانين المخالفة للشريعة تخرج عن وطيفتها بمخالفتها للشريعة، وإذا خرج القانون عن وظيفته لم يكن لوجوده محل، وكان باطلاً بطلانًا مطلقًا، وهذا هو ما تقضي به قواعد القانون الوضعي نفسه.
                              [/align]
                              sigpic
                              (رسم نور الدين محساس)
                              (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

                              "القلم المعاند"
                              (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
                              "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
                              و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

                              تعليق

                              يعمل...
                              X