حيرة دنيا
كانت الشمس قد شعشعت،وكشفت تماما ستار الليلة الليلاء التي قضتها دنيا مع أمها التي لم يتوقف صراخها ولم يهدأ حتى ساعة الفجر.
وهبت نسمات صباحية لذيذة داعبت البيت الكبير الأنيق ومن فيه،وراحت أنفال أخت دنيا الصغرى ذات السبعة عشر ربيعا ،تلاعب شعرها الأصفر الطويل للحظات مستمتعة بتلك النسمات الشهية الشفافة كلون الأحلام البريئة.
ثم أسرعت إلى المطبخ تريد تحضير طعام الإفطار للعائلة،وماإن ولجته حتى ألفت أختها دنيا هناك جالسة إلى الطاولة تحتسي قهوتها في شرود،فبادرتها بالتحية:
_صباحك سعيد ياأجمل أخت في العالم
_أهلا حبيبتي كيف أصبحت؟
_بخير،لكني لم أنم جيدا بسبب أنات أمي
_أما أنا فلم أنم مطلقا،غيرت لها الحفاظات أربع مرات لكنها لم تسكن
وفي هذه اللحظات،كان عمار أخوهما الأكبر وزوجته سهام ماثلين أمامهما،
وماإن هم الأخ بإلقاء التحية حتى قاطعته زوجته قائلة:
_إلى متى سنتحمل هذا الوضع السخيف؟لم أنم جيدا الليلة بسبب والدتكما العجوز.لماذا لم تلبيا طلباتها؟
أجابت دنيا:
_لم أفهم ماذا تطلب،غيرت لها الحفاظات أربع مرات لكن دون جدوى.
وأطرقت..وعلت خديها حمرة خفيفة ،وازداد خفقان قلبها،ثم خيم على لسانها صمت ثقيل.
وفي تلك الأثناء وفد الأخ الآخر أحمد برفقة زوجته التي كررت هي الأخرى عبارات شبيهة لتلك التي أطلقتها سهام قبل قليل،والتي قابلها أحمد بالسكوت كأخيه ،ولم تجد أمامها الأختان هذه المرة بدا من أن تغادرا إلى غرفتهما المشتركة ،فبدأت دنيا في ترتيبها بينما جلست أنفال على كرسي صغير أسندته إلى أحد الجدران،وقد وضعت يديها على خديها واستعبرت.
مسحت دنيا عبرة أختها ثم ارتدت حجابا لها،وأخذت حقيبتها الصغيرة ،وخرجت من البيت تروم شراء حفاظات جديدة لوالدتها المريضة ،نصف المشلولة،فاقدة الذاكرة،فاقدة الزوج منذ سنوات،والتي لاسند لها في هذه الحياة سوى ابنتين كزهرتين ذابلتين بين أشواك مدمية ،ينزف من وخزاتها قلباهما من حين لآخر،وينزف معه الشباب المجروح هو الآخر قطرة قطرة،إلى ماهو أقرب من الاحتضار أو الشيخوخة المبكرة،وماهو أبعد حتما من الهناء والسلام.
خرجت بوجه شاحب،أضحى يمثل وجه امرأة في الأربعين،لافي السادسة والعشرين،ومهما يكن،فإن الأمل في هذه الحياة هو الذي يجعل المرء يسير قدما لايلوي على شيء ،ولايداعب جمرته ربما إلا في ساعات ماقبل النوم،على وسادة،قد تئن هي الأخرى،ولكن،في صمت مؤدب.
راحت دنيا تمشي على رصيف يذكر بالتهميش ،تترامى عليه بين بضع خطوات وأخرى فضلات من قمامة أناس لم يستوعبوا بعد معنى التحضر،في بلد ينادي بالتنمية والتطور في المشاريع والمنجزات ،(وهذا مطلوب حتما) لافي الفكر والتصرفات.
مشت في بطء إلى أن وصلت إلى الحانوت ،فاشترت ماأرادت ،وبعض لوازم أخرى ،ورجعت في دقائق معدودات ملتفتة ذات اليمين وذات الشمال محملقة في جثث سيدات في عز الشباب،والجمال،متذكرة حالها ،ووضع أمها المسكينة التي لم يرحمها ضغط الدم ،الذي ارتفع ذات يوم بسبب شجار مع كنتيها،فألقى بها إلى فراش المرض المحاصر.
"إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب"
تذكرت هذه الآية التي لطالما كانت وقود إرادتها المحرك منذ عامين،منذ أن سخرتها الحياة لخدمة والدتها العليلة،
والتي رفضت كنتاها المساعدة في رعايتها دون أن يحرك عمار وأحمد ساكنا.
*************
كانت الشمس لاتزال تدغدغ الوجود بأشعتها الصباحية المبهجة ،والنسمات الشهية قد غادرت شيئا فشيئا ،حين وصلت دنيا إلى المنزل،وقد فوجئت بعمار ينتظرها في المطبخ ،وكانت قد توقعت أنه غادر إلى عمله،ولهذا لم تطلب منه ولا من أحمد شراء الحفاظات،فقعدت على الكرسي المقابل لكرسيه ودهشة بريئة تغمر مقلتيها،فإذا به يقول :
-لقد تقدم لخطبتك جارنا رامي..تعرفينه..صحيح أن عمله في المخبزة لايدر عليه كثيرا من المال ولكنه من عائلة محترمة.
فأطرقت البنت خجلا،واضطربت بسماع أنين والدتها القادم من غرفة في أقصى البيت،وتلعثمت،ثم ما لبث أن تماسكت وردت على أخيها:
-وأمي ؟هل أتخلى عنها ؟آه اعذرني،سأقدم لها طعام الإفطار ثم نكمل الحديث
-انتظري،أنا مستعجل فوظيفتي تنتظرني،ليس لدي ماأضيفه،جارنا تعرفينه..وقد أعجبه برك بوالدتنا !!!!!زد على ذلك أنه يعرف أخلاقك ولهذا تقدم إليك كعريس،هو وحيد أبويه،وبيتهم كبير،أي أنك ستأخذين أمي معك،فكري في الموضوع
-وهل سيقبل بذلك؟
-بصراحة عرضت عليه الأمر ورفض،لكني سأرغمه
-!!! (أعرف أمه،لن توافق) قالت دنيا في نفسها
ونهض عمار بسرعة المستعجل،وانصرف،وكانت زوجته قد أنصتت في حذر إلى كلامه من زاوية في الدار،وماإن غادر حتى هبت كوحش ضار في وجه الفتاة مطلقة من فمها رصاصات ملعلعة:
-لاتحلمي بالزواج قبل أن تموت أمك المشلولة،سأفعل ما في وسعي لمنعك ،هل تظنين أن والدة العريس سترحب بها معك؟أنا أعرفها،لن تقبل.هل ستجبريننا على أن نكون ممرضتين لها نتحمل صراخها المدوي والنظر إلى وجهها البائس ليلا ونهارا؟هل أهمل رضيعي من أجل عجوز تتبول في الفراش ولاتدرك من الواقع شيئا ولاتعرف حتى أبناءها؟هل سأترك حملها ينوء بي ويذهب بلذة أيامي وراحتي وهناء ولدي؟لاتفكري في وضع أخويك تحت الأمر الواقع مستغلة خوفهما على عنوستك.لن تتزوجي .
وأقبلت زوجة أحمد وقد فهمت الأمر من كلام سهام ،وقبل أن تنبس ببنت شفة بادرتها أنفال التي جاءت هي الأخرى وقد فهمت الموضوع:
-أنتِ لاتقولي شيئا..نعلم مسبقا ماذا ستقولين
وأردفت تخاطب أختها:
-لاعليك يادنيا،سأتوقف عن الدراسة،تزوجي أنت واعتمدي علي.سأضع أمي بين أهدابي وأحمل همها على كتفيّ.
قالت ذلك وعيناها مغرورقتان ..
وسكت الجميع،وهرولت الأختان إلى غرفة والدتهما حاملتين طعام الإفطار وعلب الدواء،وقامت أنفال بإطعام أمها بيديها ،بينما كانت دنيا قاعدة على الأرض ترنو إلى أختها بنظرات دافئة وملتهبة في آن..تعلوهما شرارة غضب ومسحة حزن،وتحبسان بين تلك الرموش الغزيرة دمعة مقاومة تأبى التحرر خوفا على مشاعر الشقيقة العزيزة.
وتقضي البنت يومها ذاك مضطربة،يشدها حلم ويقعدها وجع..يدفعها إلى قبول العرض أمل في الحب والأمومة،ويمسكها عنه حب قوي لوالدة ربت وتعبت ،وحملت تسعة أشهر ،وسهرت ليالي تدلل وتمرض وترسل نفحات الحب والحنان.
وتروح دنيا إلى المطبخ تارة للقيام بأعماله ،وإلى والدتها حينا آخر للعناية بها،وإلى غرفتها تارة أخرى تلتمس لحظات للتفكير،وتتخبط في صراع مقلق،فتقرر القبول ثم تلغيه،وترتبك،وتسير من النافذة إلى سريرها ذهابا وإيابا،متذكرة تهديد سهام...
ويرهقها التوتر.
هل ياترى مازال في هذا العصر رجال يحبون إنجاب الذكور أكثر من الإناث؟هل كل الذكور سيصبحون في يوم من الأيام أبناء بررة؟أنقارن الرحمة التي قذفها الله في قلبي الشقيقتين بالعقوق الذي يقابل به عمار وأحمد أمهما السقيمة؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
وتسأل دنيا أختها:
-كيف تفكرين في ترك دراستك؟ وأنت على أبواب البكالوريا؟قد تجور الدنيا عليك يوما.قد يتخلى عنك أخواك وتصبحين متسولة،لاأتمنى ذلك طبعا.صحيح أن شهادتي الجامعية لم تجلب لي عملا،ولكن الدنيا حظوظ،وقد تضحك لك بملء فيها.هذا بغض النظر عما ستخسرينه من علم .
-ولكنك ستجورين على نفسك إذا رفضت كل عريس يتقدم لخطبتك.
-فكري في مستقبلك.لن أسمح بتدميره من أجلي
ويقبل المساء ...وتهب نسمات بليلة ماتلبث أن تجر معها غيوما تلبد صفحة السماء،وتذرف معها أمطارا يمتزج صخبها مع صوت ريح عابرة ،وتلامس جثثها حبات التراب فتوقظها من نومة طالت في هذا الصيف الحار،
ويعود عمار من عمله معرجا على المقهى الذي اعتاد المكث به دوما.
وما إن قعد على كرسيه المألوف حتى أقبل إليه أحد أصدقائه:
-السلام عليكم
-وعليكم السلام ،أهلا ياصاحبي
-أهلا بك،الحمد لله أني وجدتك عاجلا
-خيرا إن شاء الله
_خيرا خيرا..لقد تحريت المزيد عن ابن جيراننا رامي ،واكتشفت أمرا خطيرا
_ماذا؟هيا أخبرني
_إنه يتعاطى المخدرات منذ سنة تقريبا،ويعاقر أم الخبائث أيضا،هل تصدق ذلك؟
_وهل أنت متأكد؟
_جدا ومصادري موثوقة،ولا أريد ان أحدثك عمن أخبرني وهم أكثر من واحد.هكذا طلبوا مني ،لن أسبب لهم المشاكل
_يالطييف!! وكيف خطرت لك فكرة معرفة المزيد عنه،هو جارنا ونعرفه،ولم أفكر في ذلك أبدا
_ياصديقي نحن في زمن قلت فيه الثقة،ومراد أيضا يتحرى لك بطلب مني
ثم أقبل صديقهما مراد،وهؤلاء الثلاثة أقرب مايكونون إلى بعضهم البعض،وكان يحمل نفس النبأ.
رجع عمار إلى منزله فاستقبلته أنفال بوجه شاحب متأثر بشحوب الأخت المحببة،فألقى عليها تحية المساء،وطلب منها أن تبلغ أختها أنه لاداعي للتفكير لأن العريس مدمن خمر ومخدرات.
ومشت الفتاة إلى حيث كانت شقيقتها تعنى بالوالدة،ونبأتها بالخبر ،فشعرت دنيا بقشعريرة خفيفة...وراحة أيضا من هم التفكير.
فنظرت إليها أنفال نظرة حيرة وأسى قائلة:"هل ستستمر حيرتك في كل مرة؟"
مع تحياتي:أسماء
تعليق