[hide]false[/hide][sizالشجن في"شلال الشوق" للشاعر فهيم أبو ركن
بقلم: هادي زاهر
بين الشاعر فهيم أبو ركن وبين تطلعاته مسافة، تفصل بين ما يتوق إليه من سمو الضمير الإنساني وانتصار للحق، وبين الواقع على الأرض، هذا مما ينشئ ضربا من التوتر في خفايا نفسه، فيزداد هذا التوتر مع تصاعد الوعي وتراكم التجارب الحياتية للشاعر في شتى المجالات، وهي حالة عادة ما تتطلبها عملية الإبداع الأدبي. من هنا يبرز الشجن في قصائد الشاعر.
وقد لا يعترف واحدنا بهذه الحقيقةً، معتقداً بان مثل هذا الاعتراف من شأنه أن يضرب العزيمة ويهبط المعنويات، وقد يكون ذلك صحيحاً على الصعيد الدبلوماسي!! أو على صعيد المسلك العملي، ولكن القصيدة الأصيلة لا تكذب، إنها تتدفق ببراءة وعفوية، تتدفق بحرية مطلقة دون مواربة، وقد يكون ذلك من بين ما يميز القصيدة عن الألوان الأدبية الأخرى، وهذا ما يتجلى في ديوان الشاعر أبي ركن "شلال شوق"، الذي كنت أفضل تسميته بـ "شلال الشوق والشجن"!!.
هذا الديوان الذي كُتب من خلال رحلة عذاب ذهنية عميقة الغور، أشعلت الآلام في أعماق الشاعر، جراء الواقع المرير الذي تمر به الإنسانية، جراء النكسة الأخلاقية التي يمر بها أبن أدم ! الأمر الذي فجر شلالاً للعدل والمحبة في وجدان الشاعر، وأخذ يجري في ضميره، لذلك فهو لا يستسلم وإنما يمتطي إحساسه وينطلق، يركب شراعه ليواصل المسيرة، ولكن الرحلة وسط مثل هذا الشلال مؤلمة، والغريب هو أنك سرعان ما تجد نفسك تجلس إلى جانبه، تخوض في خضم هذا الشلال، مرافقا لشراعه في رحلة صاعدة بالشعور الإنساني إلى مراتب الخير والفضيلة!!. وبالرغم من الخفقان المتصاعد، كلما اقترب من الوصول إلى الهدف، يواصل إصراره على المضي قدماً، متغلغلا في أعماق النفس البشرية، مثلما نجد في قصيدته التي تحمل عنوان الديوان "شلال شوق" (ص 5)
يوم سافرت إلى الشمال ..\ إحساس شاحب غمر نفسي \ لماذا يسمون هذا الاتجاه شمالا؟ \ لماذا هذا الأفق النازف \ كلما أقترب منه يبتعد؟!
إنه إحساس الإنسان بعجزه أمام الأسئلة الميتافيزيقية التي لا يدركها العقل، إنه الإرادة لتجاوز المآسي، وهو يريد أن ينتصر الخير والفرح، ولكن الشجن هو المسيطر! فحتى حين يسافر قاصدا الفرح، يُستقبل بالحزن:
يوم سافرنا إلى بلاد الفرح \ استقبلتنا جبال الحزن \ بريبة تداعب ابتسام الوحل! \ التحفتِ السخريةُ نفسي الواجمة ! (ص10)
ويكبر في ثنايا نفس الشاعر الشجن والتوتر، الأمر الذي يجعله عاجزا عن التعبير عن كآبته ( ص 13)
لا يمكنني شرح الكآبة \ لو نظرت إلى وجهي، \ ينعكس في زجاج النافذة.. \ عبر المحطات والمرافئ \حين تحل الكرامة برداً،\على السموات ضئيلة الإيقاع، \ ينزف الدم.. \ من أفق زجاجي!
يبدو أن كثرة النزيف أفقد الإنسان إحساسه، لذلك أصبح الدم "ينزف من أفق زجاجي" فقد تجمدت المشاعر، وبِتنا نسمع عن المآسي بأخبارٍ تمر علينا مر الكرام، ويبدو إن الشاعر الذي تجْثم فوق قلبه المأساةُ ينتظر قدوم الفجر على قطار لا يعرف سكة الحديد، وهذه قمة التعبير عن الحزن الوجودي، وضياع الخير وتقهقره في هذه الأيام، أو تشتت هذا الشعب المنكوب، فانتظار الفجر يرمز إلى انتظار نور المعرفة والعدل السماوي، والقطار الذي لا يعرف سكة الحديد هو تعبير عن ضياع الإنسان في هذا العصر، المفعم بالحزن، لذلك يفوح أديمه بعطر الجرح الغاضب ويهاجر بمأساته إلى القمم حيث تسكن النسور ففي (ص 17) يقول:
تهجرني أسواري \ والمواسم الخضر في أركان القلب \ في أوطان المجد \ فوق صنوبر وسنديان \ كربلاء تفتش عن حرية \ في زوايا الأهازيج والبشائر \ جراحي تبلسمها عطور البسمات \ ومأساتي يهاجر بها الريح \ إلى مغاور القمم حيث النسور تبني أعشاشها .
وهكذا فأن شاعرنا يتأرجح بين الحزن والأمل، متحسرا على تدهور حالة المجتمع، فالأسوار رمز للتقاليد التراثية التي كانت تحمي المجتمع من التدهور نحو الانحطاط الخلقي، وربما وجدنا بها رموز تاريخية سياسية أيضا، ومع ذلك فالشاعر يحاول أن يزرع الأمل ويفرش الحزن طريقاً ليسير عليه نحو الأمل المنشود، ليتمرد على الواقع المؤلم بالإشارة إلى "المواسم الخضر" وذلك بثبات "فوق الصنوبر والسنديان" الذي يرمز إلى القوة، ولكن يعود إلى الحزن فـ "كربلاء تفتش عن الحرية".
ويوظف الشاعر الأماكن الجغرافية لوطنه والتي تحمل رموز تاريخية في صوره الشعرية الموحية، فيعود إلى الأمل عبر حطين الحزينة التي يتوق إلى استرجاع مجدها مروراً بالكرمل الذي يريد أن يواصل المسيرة عبره (ص 19):
يثمر في صمتك حنين حطين \ وأريج الحرف العابر \ يضوع على أوتار كرملية \ فوق هذا الأفق النازف \ أريد أن أعبره.
وهكذا فأن شاعرنا الذي يتألم باستمرار على الوضع الذي آل إليه الواقع، الذي يحدثنا عن تهشم العواطف، وبكاء القدس وعن الأفق النازف، لا يستسلم وإنما يريد أن يتخطى هذا الواقع، بالرغم من أشعة النور الغافية وجراحه الحمراء وتناثر الملح على كلومه، فيتدفق محبة وغيرة على الوطن ويطلب عدم الملامة حين يسأل عن الخير الكسيح، معبرا عنه في قصيدته "ملاك يغسل وجهه"(ص25-38 )، يمر على جبل حطين الراسخ في التاريخ، وشواطئ غزة المهجورة وأنهار الجليل المصبوغة كشرايينه، وعلى المدينة المقدسة التي تبكي فتُبكيك، وتجعل كبدك يتفتت ألمًا، وعن مساجد بيت لحم النابتة في صدره، وكنائس الناصرة المصلوبة على عنقه، مروراً على سرو نابلس وجنين، إلى صنوبر الكرمل، ثم إلى سور عكا العظيم، وبعد رحلة العذاب الطويلة يغفر الشاعر المعذب لمعذبه، ويتعالى عن الحقد والجراح، خاصة وأن لون الجراح كلها حمراء ليقول (ص34):
يا أحبائي في العذاب ...! \ الله كل الديانات. \ لا دين يفرقنا، \ تجمعنا الديانات. فنحن في الولادة واحد.. \ونحن واحد في الممات.
برع الشاعر في تصوير لحظات مختلفة يمر بها الإنسان في حياته متأرجحا بين الفرح والحزن، اليأس والأمل، التفاؤل والتشاؤم، فنرى أن ما يميز القصيدة هي إنها وليدة لحظة وجدانية آنية لها مميزاتها الخاصة، فمثلا بعد أن شعرنا بالشجن، نحن نرى الشاعر يمتلك نفسية مختلفة في تعبيره عن لحظة أخرى، والحقيقة أن الحياة ليست سوى مجموع لحظات متتالية ومترابطة، فتعالوا لنشعر معًا بالأنفة التي تشع من قصيدته "أصوات"(ص39)، ففي هذه القصيدة تتجلى نفسه ببراءة كبريائها، يتحدى فيهتف بجلاء لوطنه الذي يسكن قلبه وديعة! ويُعلم الغزاة بأنهم لن ينالوا من وطنه أبداً، يقول في المقطوعة الثالثة من القصيدة (ص41):
هذا قولي لم تعطره الدموع، \ هو نغم يولد ما بين الضلوع. \ فاسمع الألحان يا وطني الحبيب \ لن أمر بين الزهر فيك كالغريب!! \ سوف أقلع من ثراك ..شوكة مقيتة، \ كادت تمحو القلب وتميته.
"والكرمل الشامخ كالجبار بين الشهب" الكرمل الذي يطفح بالكبرياء، وتشهق مواويل العتابا، وتزفر الأغنيات على شرفاته، له منزلة خاصة في قلب الشاعر، كيف لا وهو مسقط رأسه، أنه يعبر عن محبته لهذا الجبل، يتحدث من خلال صقله للصورة التي تنساب بعذوبة ورقة إلى النفس، عن هذا الجبل، العروس، عروس البحر الأبيض المتوسط، الذي يحاول منذ القدم النيل، منه ولكن أمواجه تتكسر تحت أقدامه، وهي ستبقى تحاول وتحاول حتى الأزل ولكن عبثاً، إنها ستتكسر دوماً، وسوف نبقى نغنّي لكرملنا ومن لا يعجبه ( فليشرب من بحر غزة، كما قال المرحوم الذي سمَّموه)، يتحدث الشاعر عن تاريخ هذا الجبل، عن مدى ارتباطه الروحي به وعن روعة جماله الذي يستدعي الفراشات لزيارته مع بداية قصيدة كرملي (ص45):
أقول كرملي \ فتنهمر الفراشات ألوانًا \ أسمع كرملي فتغرد الأحلام
إلى أن يقول:
تنظر العصافير كرملي ... \ فتخضر الحروف والكلمات \ ولى زمن الخوف، \ فلا تخشى ظل الأعاصير، في خريف الشعوذات. \ ولى فعل السحر والزمن البعيد \ وانبثقت ناراً ونوراً من برد الجليد.
أن قلقه البالغ الزاخر بالمحبة على الجبل واضح، خاصة في هذه الظروف، حيث تطمع الصهيونية في مصادرة ما تبقى لنا من أرض وذلك من خلال قوله:
فان عاد \ زمن الغزاة \ نظل نحرسه \ وان ساد \عصر الطغاة \ نبقى نحضنه \وطن لنا وحيد \ وطن لنا وحيد.
في هذه القصيدة الجميلة لفت نظري عدة عناصر مهمة، فعندما ينطق الشاعر باسم كرمله، يحدث انهمار والانهمار هو غزارة التدفق، إما مطرا أو دموعا، فماذا الذي يتدفق؟؟ تأتي الفراشات لتذكرنا بأيام الطفولة، وهذا يدل على تدفق ذكريات الطفولة بغزارة، ولكن أهي ذكريات حزينة أم سعيدة؟!! والجواب يأتي فورا بتوظيف كلمة "ألوانا" التي تعبر عن السعادة والفرح، بعكس الحزن الذي نعبر عنه بالسواد، وهكذا نعرف أن الكرمل مرتبط بذكريات الشاعر السعيدة والغزيرة، وقد وظف تكرار الجملة الأخيرة للتأكيد على ارتباط الإنسان الكرملي بوطنه الذي لا يرضى سواه.
هكذا لكل كلمة في هذا الديوان وظيفة هامة في بناء القصيدة.
وها نحن نرى الشاعر كمواطن عربي شريف يتوجع على الواقع العربي العام حيث يقول في مطلع قصيدة" بيروت " التي تتجلى بها روعة الإيقاع (ص52):
أقبلت إليك على عجل \ بيروت الحب المنكوبة \ أشعاري صارت في صدري \ بالدم القاني مكتوبة \ أفراحي من دمع السحر \ في بيت الأرزة محجوبة \ من قلبي أمست مسلوبة \ في صدري باتت مصلوبة.
ثم يسترسل في هذه القصيدة ليصف وحشية الاحتلال الذي يستيقظ كوحش التنين، الذي ينتهج قانون الغابة، ويكشف عن أنيابه ويسيل في الحقد لعابه، ليذكرنا بجريمة "قانا".
أما قصيدة "ما ذنب عروبة أطفالي" الذي يندب فيها قدرنا تزخر بالهم القومي:
ما ذنب عروبة أطفالي .. \ كي ترضع موتًا في الحال ؟ \ ما ذنب البسمة كي تشنق .. \ بغداد...برغم الأهوال (ص58).
إلى أن يتهم في النهاية القيادة العربية المتقاعسة(61):
أأقول قيادتنا ماتت... \ في قلب ضمائرها الرحمة، \ لتعيش حياة الأدغال؟
ما ذنب عروبة أطفالي ؟ سؤال عن ألف سؤال.
وهذا ما يظهر في قصيدة "دمعك سنيوره" التي تعبر عن إحساسه الإنساني يوم بكى السنيوره في اجتماع وزراء الخارجية العرب، في هذه القصيدة تمتزج دموع الشاعر"أبي ركن" مع دموع السنبوره، هذه الدموع التي يفتخر بها ويدعو السنيوره أن لا يخجل بها (ص 63):
تعال فأحزانك فاقت آلامي وأحزاني \ ودموع السنيوره انهمرت \ فأذابت عمق الوجدان.
إلى أن يقول:
ما دمعك سنيوره ضعف \ بل مجد كلله عزم \ أقوى من عزم الفرسان \ ما دمعك سنيوره وهن \ فليعلم كل الجيران \ لا تخجل حزنك سنيوره \ أقوى من كل الأسلحة \ إنسان يؤمن بالرحمة \ إنسان جاء بإنسان.
وفي النهاية يدعو إلى انتصار السلام على الحرب:
فلتخرس أصوات القتل \ أبقيت الحب وأبقاني \ فلتكسر رايات الحرب \ وليصرخ عطر الريحان.
وقبل أن ننهي نشير إلى أن الشاعر أكَّد بأن الله سبحانه وتعالى منزه عن كل شيء، جامع للجميع دون تفرقة وعبر عن ذلك شكلا ومعنى في تركيب الصورة الشعرية وبنائها، ثم وظف رموزا دينية إسلامية ومسيحية ويهودية، لتخصيب نصوصه، وضعها بين قوسين، مثل: ( الشمس تجري لمستقر لها ) ص 7 و 10، ومثل ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ) ص 14، وكذلك كلمات متفرقة في القصائد مثل: ( المسيح، يصلبني، الطوفان، الصوم، معابد، كاترينا، هيكل سليمان ، كنائس الناصرة، المآذن، الأجراس، الحجاز، الأبابيل، زمزم ...) وغيرها الكثير. كما نلاحظ توظيف الأساطير في مكانها المناسب لتزيد دلالات القصائد عمقا، مما يستوجب دراسة مستفيضة لتحليلها ودراستها.
وبهذا نختم هذا الاستعراض السريع، بالرغم من احتواء الديوان على قصائد رائعة أخرى تعبر عن فلسفة الشاعر في الحياة.e="3"][/size]
بقلم: هادي زاهر
بين الشاعر فهيم أبو ركن وبين تطلعاته مسافة، تفصل بين ما يتوق إليه من سمو الضمير الإنساني وانتصار للحق، وبين الواقع على الأرض، هذا مما ينشئ ضربا من التوتر في خفايا نفسه، فيزداد هذا التوتر مع تصاعد الوعي وتراكم التجارب الحياتية للشاعر في شتى المجالات، وهي حالة عادة ما تتطلبها عملية الإبداع الأدبي. من هنا يبرز الشجن في قصائد الشاعر.
وقد لا يعترف واحدنا بهذه الحقيقةً، معتقداً بان مثل هذا الاعتراف من شأنه أن يضرب العزيمة ويهبط المعنويات، وقد يكون ذلك صحيحاً على الصعيد الدبلوماسي!! أو على صعيد المسلك العملي، ولكن القصيدة الأصيلة لا تكذب، إنها تتدفق ببراءة وعفوية، تتدفق بحرية مطلقة دون مواربة، وقد يكون ذلك من بين ما يميز القصيدة عن الألوان الأدبية الأخرى، وهذا ما يتجلى في ديوان الشاعر أبي ركن "شلال شوق"، الذي كنت أفضل تسميته بـ "شلال الشوق والشجن"!!.
هذا الديوان الذي كُتب من خلال رحلة عذاب ذهنية عميقة الغور، أشعلت الآلام في أعماق الشاعر، جراء الواقع المرير الذي تمر به الإنسانية، جراء النكسة الأخلاقية التي يمر بها أبن أدم ! الأمر الذي فجر شلالاً للعدل والمحبة في وجدان الشاعر، وأخذ يجري في ضميره، لذلك فهو لا يستسلم وإنما يمتطي إحساسه وينطلق، يركب شراعه ليواصل المسيرة، ولكن الرحلة وسط مثل هذا الشلال مؤلمة، والغريب هو أنك سرعان ما تجد نفسك تجلس إلى جانبه، تخوض في خضم هذا الشلال، مرافقا لشراعه في رحلة صاعدة بالشعور الإنساني إلى مراتب الخير والفضيلة!!. وبالرغم من الخفقان المتصاعد، كلما اقترب من الوصول إلى الهدف، يواصل إصراره على المضي قدماً، متغلغلا في أعماق النفس البشرية، مثلما نجد في قصيدته التي تحمل عنوان الديوان "شلال شوق" (ص 5)
يوم سافرت إلى الشمال ..\ إحساس شاحب غمر نفسي \ لماذا يسمون هذا الاتجاه شمالا؟ \ لماذا هذا الأفق النازف \ كلما أقترب منه يبتعد؟!
إنه إحساس الإنسان بعجزه أمام الأسئلة الميتافيزيقية التي لا يدركها العقل، إنه الإرادة لتجاوز المآسي، وهو يريد أن ينتصر الخير والفرح، ولكن الشجن هو المسيطر! فحتى حين يسافر قاصدا الفرح، يُستقبل بالحزن:
يوم سافرنا إلى بلاد الفرح \ استقبلتنا جبال الحزن \ بريبة تداعب ابتسام الوحل! \ التحفتِ السخريةُ نفسي الواجمة ! (ص10)
ويكبر في ثنايا نفس الشاعر الشجن والتوتر، الأمر الذي يجعله عاجزا عن التعبير عن كآبته ( ص 13)
لا يمكنني شرح الكآبة \ لو نظرت إلى وجهي، \ ينعكس في زجاج النافذة.. \ عبر المحطات والمرافئ \حين تحل الكرامة برداً،\على السموات ضئيلة الإيقاع، \ ينزف الدم.. \ من أفق زجاجي!
يبدو أن كثرة النزيف أفقد الإنسان إحساسه، لذلك أصبح الدم "ينزف من أفق زجاجي" فقد تجمدت المشاعر، وبِتنا نسمع عن المآسي بأخبارٍ تمر علينا مر الكرام، ويبدو إن الشاعر الذي تجْثم فوق قلبه المأساةُ ينتظر قدوم الفجر على قطار لا يعرف سكة الحديد، وهذه قمة التعبير عن الحزن الوجودي، وضياع الخير وتقهقره في هذه الأيام، أو تشتت هذا الشعب المنكوب، فانتظار الفجر يرمز إلى انتظار نور المعرفة والعدل السماوي، والقطار الذي لا يعرف سكة الحديد هو تعبير عن ضياع الإنسان في هذا العصر، المفعم بالحزن، لذلك يفوح أديمه بعطر الجرح الغاضب ويهاجر بمأساته إلى القمم حيث تسكن النسور ففي (ص 17) يقول:
تهجرني أسواري \ والمواسم الخضر في أركان القلب \ في أوطان المجد \ فوق صنوبر وسنديان \ كربلاء تفتش عن حرية \ في زوايا الأهازيج والبشائر \ جراحي تبلسمها عطور البسمات \ ومأساتي يهاجر بها الريح \ إلى مغاور القمم حيث النسور تبني أعشاشها .
وهكذا فأن شاعرنا يتأرجح بين الحزن والأمل، متحسرا على تدهور حالة المجتمع، فالأسوار رمز للتقاليد التراثية التي كانت تحمي المجتمع من التدهور نحو الانحطاط الخلقي، وربما وجدنا بها رموز تاريخية سياسية أيضا، ومع ذلك فالشاعر يحاول أن يزرع الأمل ويفرش الحزن طريقاً ليسير عليه نحو الأمل المنشود، ليتمرد على الواقع المؤلم بالإشارة إلى "المواسم الخضر" وذلك بثبات "فوق الصنوبر والسنديان" الذي يرمز إلى القوة، ولكن يعود إلى الحزن فـ "كربلاء تفتش عن الحرية".
ويوظف الشاعر الأماكن الجغرافية لوطنه والتي تحمل رموز تاريخية في صوره الشعرية الموحية، فيعود إلى الأمل عبر حطين الحزينة التي يتوق إلى استرجاع مجدها مروراً بالكرمل الذي يريد أن يواصل المسيرة عبره (ص 19):
يثمر في صمتك حنين حطين \ وأريج الحرف العابر \ يضوع على أوتار كرملية \ فوق هذا الأفق النازف \ أريد أن أعبره.
وهكذا فأن شاعرنا الذي يتألم باستمرار على الوضع الذي آل إليه الواقع، الذي يحدثنا عن تهشم العواطف، وبكاء القدس وعن الأفق النازف، لا يستسلم وإنما يريد أن يتخطى هذا الواقع، بالرغم من أشعة النور الغافية وجراحه الحمراء وتناثر الملح على كلومه، فيتدفق محبة وغيرة على الوطن ويطلب عدم الملامة حين يسأل عن الخير الكسيح، معبرا عنه في قصيدته "ملاك يغسل وجهه"(ص25-38 )، يمر على جبل حطين الراسخ في التاريخ، وشواطئ غزة المهجورة وأنهار الجليل المصبوغة كشرايينه، وعلى المدينة المقدسة التي تبكي فتُبكيك، وتجعل كبدك يتفتت ألمًا، وعن مساجد بيت لحم النابتة في صدره، وكنائس الناصرة المصلوبة على عنقه، مروراً على سرو نابلس وجنين، إلى صنوبر الكرمل، ثم إلى سور عكا العظيم، وبعد رحلة العذاب الطويلة يغفر الشاعر المعذب لمعذبه، ويتعالى عن الحقد والجراح، خاصة وأن لون الجراح كلها حمراء ليقول (ص34):
يا أحبائي في العذاب ...! \ الله كل الديانات. \ لا دين يفرقنا، \ تجمعنا الديانات. فنحن في الولادة واحد.. \ونحن واحد في الممات.
برع الشاعر في تصوير لحظات مختلفة يمر بها الإنسان في حياته متأرجحا بين الفرح والحزن، اليأس والأمل، التفاؤل والتشاؤم، فنرى أن ما يميز القصيدة هي إنها وليدة لحظة وجدانية آنية لها مميزاتها الخاصة، فمثلا بعد أن شعرنا بالشجن، نحن نرى الشاعر يمتلك نفسية مختلفة في تعبيره عن لحظة أخرى، والحقيقة أن الحياة ليست سوى مجموع لحظات متتالية ومترابطة، فتعالوا لنشعر معًا بالأنفة التي تشع من قصيدته "أصوات"(ص39)، ففي هذه القصيدة تتجلى نفسه ببراءة كبريائها، يتحدى فيهتف بجلاء لوطنه الذي يسكن قلبه وديعة! ويُعلم الغزاة بأنهم لن ينالوا من وطنه أبداً، يقول في المقطوعة الثالثة من القصيدة (ص41):
هذا قولي لم تعطره الدموع، \ هو نغم يولد ما بين الضلوع. \ فاسمع الألحان يا وطني الحبيب \ لن أمر بين الزهر فيك كالغريب!! \ سوف أقلع من ثراك ..شوكة مقيتة، \ كادت تمحو القلب وتميته.
"والكرمل الشامخ كالجبار بين الشهب" الكرمل الذي يطفح بالكبرياء، وتشهق مواويل العتابا، وتزفر الأغنيات على شرفاته، له منزلة خاصة في قلب الشاعر، كيف لا وهو مسقط رأسه، أنه يعبر عن محبته لهذا الجبل، يتحدث من خلال صقله للصورة التي تنساب بعذوبة ورقة إلى النفس، عن هذا الجبل، العروس، عروس البحر الأبيض المتوسط، الذي يحاول منذ القدم النيل، منه ولكن أمواجه تتكسر تحت أقدامه، وهي ستبقى تحاول وتحاول حتى الأزل ولكن عبثاً، إنها ستتكسر دوماً، وسوف نبقى نغنّي لكرملنا ومن لا يعجبه ( فليشرب من بحر غزة، كما قال المرحوم الذي سمَّموه)، يتحدث الشاعر عن تاريخ هذا الجبل، عن مدى ارتباطه الروحي به وعن روعة جماله الذي يستدعي الفراشات لزيارته مع بداية قصيدة كرملي (ص45):
أقول كرملي \ فتنهمر الفراشات ألوانًا \ أسمع كرملي فتغرد الأحلام
إلى أن يقول:
تنظر العصافير كرملي ... \ فتخضر الحروف والكلمات \ ولى زمن الخوف، \ فلا تخشى ظل الأعاصير، في خريف الشعوذات. \ ولى فعل السحر والزمن البعيد \ وانبثقت ناراً ونوراً من برد الجليد.
أن قلقه البالغ الزاخر بالمحبة على الجبل واضح، خاصة في هذه الظروف، حيث تطمع الصهيونية في مصادرة ما تبقى لنا من أرض وذلك من خلال قوله:
فان عاد \ زمن الغزاة \ نظل نحرسه \ وان ساد \عصر الطغاة \ نبقى نحضنه \وطن لنا وحيد \ وطن لنا وحيد.
في هذه القصيدة الجميلة لفت نظري عدة عناصر مهمة، فعندما ينطق الشاعر باسم كرمله، يحدث انهمار والانهمار هو غزارة التدفق، إما مطرا أو دموعا، فماذا الذي يتدفق؟؟ تأتي الفراشات لتذكرنا بأيام الطفولة، وهذا يدل على تدفق ذكريات الطفولة بغزارة، ولكن أهي ذكريات حزينة أم سعيدة؟!! والجواب يأتي فورا بتوظيف كلمة "ألوانا" التي تعبر عن السعادة والفرح، بعكس الحزن الذي نعبر عنه بالسواد، وهكذا نعرف أن الكرمل مرتبط بذكريات الشاعر السعيدة والغزيرة، وقد وظف تكرار الجملة الأخيرة للتأكيد على ارتباط الإنسان الكرملي بوطنه الذي لا يرضى سواه.
هكذا لكل كلمة في هذا الديوان وظيفة هامة في بناء القصيدة.
وها نحن نرى الشاعر كمواطن عربي شريف يتوجع على الواقع العربي العام حيث يقول في مطلع قصيدة" بيروت " التي تتجلى بها روعة الإيقاع (ص52):
أقبلت إليك على عجل \ بيروت الحب المنكوبة \ أشعاري صارت في صدري \ بالدم القاني مكتوبة \ أفراحي من دمع السحر \ في بيت الأرزة محجوبة \ من قلبي أمست مسلوبة \ في صدري باتت مصلوبة.
ثم يسترسل في هذه القصيدة ليصف وحشية الاحتلال الذي يستيقظ كوحش التنين، الذي ينتهج قانون الغابة، ويكشف عن أنيابه ويسيل في الحقد لعابه، ليذكرنا بجريمة "قانا".
أما قصيدة "ما ذنب عروبة أطفالي" الذي يندب فيها قدرنا تزخر بالهم القومي:
ما ذنب عروبة أطفالي .. \ كي ترضع موتًا في الحال ؟ \ ما ذنب البسمة كي تشنق .. \ بغداد...برغم الأهوال (ص58).
إلى أن يتهم في النهاية القيادة العربية المتقاعسة(61):
أأقول قيادتنا ماتت... \ في قلب ضمائرها الرحمة، \ لتعيش حياة الأدغال؟
ما ذنب عروبة أطفالي ؟ سؤال عن ألف سؤال.
وهذا ما يظهر في قصيدة "دمعك سنيوره" التي تعبر عن إحساسه الإنساني يوم بكى السنيوره في اجتماع وزراء الخارجية العرب، في هذه القصيدة تمتزج دموع الشاعر"أبي ركن" مع دموع السنبوره، هذه الدموع التي يفتخر بها ويدعو السنيوره أن لا يخجل بها (ص 63):
تعال فأحزانك فاقت آلامي وأحزاني \ ودموع السنيوره انهمرت \ فأذابت عمق الوجدان.
إلى أن يقول:
ما دمعك سنيوره ضعف \ بل مجد كلله عزم \ أقوى من عزم الفرسان \ ما دمعك سنيوره وهن \ فليعلم كل الجيران \ لا تخجل حزنك سنيوره \ أقوى من كل الأسلحة \ إنسان يؤمن بالرحمة \ إنسان جاء بإنسان.
وفي النهاية يدعو إلى انتصار السلام على الحرب:
فلتخرس أصوات القتل \ أبقيت الحب وأبقاني \ فلتكسر رايات الحرب \ وليصرخ عطر الريحان.
وقبل أن ننهي نشير إلى أن الشاعر أكَّد بأن الله سبحانه وتعالى منزه عن كل شيء، جامع للجميع دون تفرقة وعبر عن ذلك شكلا ومعنى في تركيب الصورة الشعرية وبنائها، ثم وظف رموزا دينية إسلامية ومسيحية ويهودية، لتخصيب نصوصه، وضعها بين قوسين، مثل: ( الشمس تجري لمستقر لها ) ص 7 و 10، ومثل ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ) ص 14، وكذلك كلمات متفرقة في القصائد مثل: ( المسيح، يصلبني، الطوفان، الصوم، معابد، كاترينا، هيكل سليمان ، كنائس الناصرة، المآذن، الأجراس، الحجاز، الأبابيل، زمزم ...) وغيرها الكثير. كما نلاحظ توظيف الأساطير في مكانها المناسب لتزيد دلالات القصائد عمقا، مما يستوجب دراسة مستفيضة لتحليلها ودراستها.
وبهذا نختم هذا الاستعراض السريع، بالرغم من احتواء الديوان على قصائد رائعة أخرى تعبر عن فلسفة الشاعر في الحياة.e="3"][/size]
تعليق