( وماذا بعد ؟ )
قصة لمحمد شعبان
-------------------
السيدة أم مجدي جارتنا أحن قلب يمكن أن تعرفه في حياتك، ابنها الباشمهندس مجدي هاجر لأستراليا منذ سنتين، أما حنّا ابنها الأكبر فقسيس بالكنيسة التي تقع على البحر على طريق الكورنيش، كنت دائما أحب أن أستمع لصوت الجرس وأنا أصطاد، وكان حنا من ذوقه يمر يسلم عليّ قبل دخوله للعظة ويمر عليّ أثناء خروجه ويقول لي وهو يضحك:ـ أنا أنتظر السمك يا بو حميد أريد بوري هذه المرة، ناس في غاية الاحترام لا تملك أمام ذوقهم وأدبهم إلا أن تحترمهم وتقدرهم..
كانت أم مجدي تسكن في الشقة المجاورة لشقتنا، وعندما تراني من شرفتها أصلي في غرفتي المقابلة لغرفة نومها مباشرة كانت تقول لي :ـ ربنا يفتح عليك يا أحمد ويكملك بعقلك، وَلَكَمْ قلت في نفسي ليتها لا تراني، وليتها إذا رأتني لا تقول لي ما تقول، وأستصغر نفسي جدا، وأنا يا ( بو صلاح ) لم أترك ذنبا إلا وفعلته كل ما يمكن أن تتخيله فعلته، لكنني لم أيأس أبدا من رحمة ربنا، ولست أدري هل الطمع في رحمة ربنا مدخل من مداخل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء أم لا؟ لست أدري ..
كنت دائما أعتقد أن الصلاة إلى الصلاة تكفر الذنوب كلها، ولن تتخيل يا ( ابو صلاح ) من الذي كشف لي خطأ اعتقادي هذا. البنت ( حسنات ) بنت عبد القادر المجنون الذي يعمل في ورشة الميكانيكا التي على ناصية حارتنا من دخلة شارع المغارة، أما الورشة التي تقع على ناصية حارتنا من دخلة شارع الدسناوي فهذه ورشة أبو المعاطي النصاب، المهم عبد القادر يصفونه بالمجنون لأنه عندما يتعصب يمكن أن يكسر زجاج سيارة أي زبون، ومع ذلك فعم دميان زوج أم مجدي وصاحب الورشة لم يفكر أبدا في طرده، بل ظل عبد القادر المجنون يعمل في الورشة حتى بعد وفاة عم دميان، ويوميا يرسل الإيراد لأم مجدي، عم دميان أيضا كان حكاية لوحده، سأحكي لك عنه لاحقا، لكن قبل أن أنسى حكاية حسنات أقول لك:ـ لقد كنت ذات ليلة مع حسنات من قبل المغرب وبعد أن انتهيت منها، قلت لها:ـ أنا سأقوم لأدرك صلاة المغرب قبل أذان العشاء
قالت لي :ـ صلاة إيه يا منيل بعد المصيبة اللي عملناها مع بعض دي. فلما قلت لها :ـ ربنا يغفر الذنوب بين الصلاتين يا مجنونة يا بنت المجنون..
هي التي قالت لي :ـ بيغفر الحاجات البسيطة يا اهبل، أما اللي عملناه ده اسمه كبيرة .. وفعلا لما سألت شيخ الجامع صدمني بهذه المعلومة، لكن البنت حسنات كانت لهطة قشدة يا ( بو صلاح ) ولم أكن أستطيع أن أفوت يوم السبت عندما تحضر لتنظيف شقتنا، وكانت تدخل توقظني من النوم، لم تكن تفلت مني أبدا، وكنت بعد لقائها أسهر طول الليل أستغفر، وأقول :ـ يا رب أنا عبدك الضعيف، ونفسي أقوى مني، سامحني يا رب..
كانت أم مجدي تذهب للكنيسة كل أحد وتترك حسنات تنظف الشقة إلى أن تعود، كانت البنت حسنات فقط تبدأ الشغل وناري تتقد، وأنا أشاهدها وهي ترقص على أنغام المهرجانات، وملابسها وجسمها لا يحاتجان لوصف، لهطة قشدة بجد!، أجد نفسي أنتفض وأجري أطرق باب أم مجدي وعندما تفتح حسنات وأبدأ مباشرتها تدفعني وتقول لي :ـ احنا لسه كنا مع بعض امبارح يا منيل .. البنت كان كل مناها أن أتزوجها، وأنا كنت أقول لها:ـ أتزوج من يا بنت المجنون؟! هل جننت أنت أيضا مثل أبيك أم ماذا؟!، وكانت تلك أتعس لحظات حياتها عندما أقابل طلبها بهذا الرفض الحاد، فكانت تعطيني ظهرها وتبكي وهي على الوسادة، وما كنت أكتفي بذلك بل كنت أقول لها :ـ أتريدين أن أتزوجك وأنت معك الإعدادية وأنا شهادة عليا يا مومس؟، والناس ماذا تقول؟!، وكانت تقول لي:ـ شهادة عليا مين يا بو شهادة انتا خدتها بطلوع الروح وأخرتها آهي متعلقه ع الحيطة زي قلتها، وكنت أقول لها:ـ والله معك حق، ليتني دخلت الثانوي التجاري أو الصناعي، أو ليتني اكتفيت بالإعدادية، أو الابتدائية، ولعل شهادة محو الأمية كانت تكفي، وربما كان من الأفضل ألا أحصل على أي شهادة، ولا أورَّث نَعْرَةَ الشهادة العليا وكبرأصحاب الشهادة العليا التي باتت لا تسمن ولا تغني من جوع في هذا البلد .. ومع ذلك البنت كانت تعبدني عبادة يا ( بو صلاح ) وتتمنى الموت ولا تتمنى البعد عني ...
الوحيد الذي ينغص عليّ عيشتي الآن هو أنت يا ( صلاح يا مازني)، بل أنت وكل ذوي اللحى من أمثالك؛ كلما جاءت سيرة الصلاة تعقِّد لي الأمور، وتقول لي :ـ وهل تعتقد أن ربنا سيقبل صلاتك التي كنت تصليها أيام الشقاوة؟. عندها يبدأ الحوار والجدال والشد والجذب، وكثيرا ما ينتهي الأمر بشجار، وتتعصَّب جدا عندما أقول لك :ـ هذه نقرة وتلك نقرة، ويا سيدي ما لك أنت وما لي؟، دع من يذنب يذنب وإن له مع الله لشغلا، ألم تسمع الشيخ النقشبندي وهو يقول في الابتهال
" يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة .. فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يدعوك إلا محسن .. فمن الذي يرجو ويدعو الآثـــم "
ومع ذلك ـ يا أخي ـ لا أجد لذة في الحديث والكلام مع أحد غيرك يا (صلاح يا مازني) منذ أن دخلت السجن. بدون شعور أجدني أجلس إليك وأفتح قلبي وسجل ذكرياتي فتنساب مني الحكايا دون توقف . وربما لأن ساعة السجن بسنة كما يقولون فلا أجد بدا من تضييع ساعاته في الكلام والكلام والكلام، لكن تصدق يا ( ابو صلاح ) أنه لاكتناف حديثي الصدق معك في كل حرف؛ أجد بعد الكلام راحة منقطعة النظير، والله لو كنت أعلم هذه الفائدة للكلام من قبل لكنت انفردت بنفسي في غرفتي الساعات والساعات لأكلم نفسي وأظل أتكلم وأتكلم وحسب، لكن للأسف هناك أمور كثيرة لا يدركها المرء إلا بعد فوات الأوان. أعتقد أيضا يا ( بو صلاح ) أنه ينبغي أن تتحدث لشخص تحبه، وترتاح له وتثق فيه، وهذا ما لم أكن أجده في البيت البتة، فأي راحة تلك التي تجدها في بيت كله مشاكل من أول النهار لآخره، أختي هي وأولادها يوما بعد يوم غضبانة من زوجها العاطل، وأمي مريضة، وحركتها ضعيفة جدا، وأبي راتبه من مصنع المكرونة الذي يعمل به لا يكفي العيش الحاف، وطول النهار والليل في شجار ونقار، لكن تخيل يا ( ابو صلاح ) أنا لا أحزن على نفسي أكثر من حزني عليك أنت وأمثالك محكوم عليك بثلاث سنوات لشيكات بدون رصيد، ولولا الحاجة ما فعلت، تخيل أنه سيضيع من عمرك هنا ثلاث سنوات بعيدا عن زوجتك وأولادك الثلاثة بسبب الأقساط والديون، يا أخي ماذا أقول فقط، حسبنا الله ونعم الوكيل في الظالم الذي رماك هذه الرمية، وتصدق أن صاحب الأقساط لن يستفيد شيئا البتة من رميتك، في حين لو كنتما تفاهمتما بشأن جدولة الديون أو التغاضي عن جزء منها لكان أفيد لكل الأطراف حتى الحكومة لم تكن لتتحمل عبء استضافتك الباهظة في السجن، يا الله ما باليد حيلة .
تخيل يا بو صلاح أن الوحيد الذي لم أتوقع أن يزورني هنا هو ( حنا ) ابن السيدة أم مجدي، تخيل أنه يزور قاتل أمه، ثم لا يزيد في الكلام معي عن قوله:ـ أنا مسامحك يا أحمدـ صدقني أنا مسامحك يا حبيبي، ومجدي أيضا مسامحك، وكان يتمنى أن يكلمك بالتليفون لكنهم يأخذون مني المحمول عند بوابة السجن. ثم يضمني لحضنه ويقول:ـ والمسيح الحي أنا لو كان بيدي ألَّا يُنَفَّذ بك حكم الإعدام لفعلت، لكن اصبر وربنا معك .. :ـ كم أنت كريم ومحترم يا حنا!.
عادت أم مجدي ذات مرة من الكنيسة، وكنت أنا وحسنات قد نمنا ورحنا في سبات عميق على سرير أم مجدي وعم دميان، وتخيل،من الذي أيقظنا؟. صح. طبعا أم مجدي. هل تتخيل رد فعل لها على ما رأته على سريرها غير أن تصرخ، وتلمّ علينا الخَلق؟!. لا. أبدا. هي لم تفعل أيا من ذلك، أخذت تلف وتدور حول نفسها وتفرك تقلب كفيها وكأنما لدغها عقرب وهي تقول :ـ يا يسوع يا يسوع. ثم تشير لنا وقد أعطتنا ظهرها وتقول :ـ قومو، قومو، امشو من هنا. شاهدتها وأنا أرتدي ملابسي وهي تجلس إلى مذبح صغير به شمع وصليب وصورة للعذراء وأخرى للمسيح، وتقول بصوت مسموع:ـ خلصهم يا يسوع، طهريهم يا عذرا. ليس غريبا على أم مجدي أنها لم تمنع حسنات من الحضور لشقتها بعد هذه الحادثة، لكنها لم تعد تسمح لها بتنظيف الشقة إلا في حضورها، وعندما سألتُ البنت حسنات:ـ ماذا فعلت معك السيدة أم مجدي؟ هل حدثتك عن أي شيء؟
قالت :ـ أبدا كل ما قالته لي:ـ أنا أشعلت لك شمعة في الكنيسة يا حسنات وربنا يهديك ويسامحك يا بنيتي
كم كنت كريمة جدا معنا يا أم مجدي!، وورث عنك ولداك هذا الكرم، وليتني استوعبت الدرس. نفس العبارة التي ذكرها لي شيخ الجامع :ـ " إن كثرة المعاصي تميت القلب"، ذكرتِها لي يا أم مجدي على السلم كنت تحملين أكياس خضار ثقيلة، فحملتُها عنكِ، فقلت لي وأنا أسبقك بدرجتين :ـ خلي بالك من قلبك لاحسن الخطايا تسوِّده لك يا بني .. ليتني استوعبت الدرس يا أم مجدي، وأنا الذي تماديت في غيِّي ممنيا نفسي بأن رحمة الله واسعة، ومن أجل شريط (ترامادول) منعت عني أمي ثمنه، تسللت وأنا في حالة اضطراب وانفلات عصبي إلى شقتك وأنت نائمة، وعندما لم أقع على مكان المال حاولت سرقة قرطك من أذنيك، فاستيقظتِ، ووجدْتِني على هذه الحال، ويا لحلمك وخلقك الكريمين اللذين فاجأتني بهما أيما مفاجأة، قمتِ، وجلستِ لتخلعي القرط بنفسك وتعطيني إياه، وقلت:ـ ولا تزعل نفسك يا حبيبي، بس وبعدين؟!. وأنا لا أدري حتى الآن ماذا بعد؟!، لماذا لم أنصرف عنك يا أم مجدي؟. لماذا لم أشكرك حتى على معروفك معي؟. أكنت تستحقين أن أهجم عليك بهذه الوحشية، وأستجمع كل قواي وعنفواني على جسدك المهيض الهضيم، وأكتم أنفاسك بالوسادة وأنا أعلم أنك تعانين من الربو الحاد ولا تتحملين ولو ذرة تراب واحدة على أنفك. إنني أتمنى أن تسامحيني يا أم مجدي وكلي ثقة أنك سامحتني .
قصة لمحمد شعبان
-------------------
السيدة أم مجدي جارتنا أحن قلب يمكن أن تعرفه في حياتك، ابنها الباشمهندس مجدي هاجر لأستراليا منذ سنتين، أما حنّا ابنها الأكبر فقسيس بالكنيسة التي تقع على البحر على طريق الكورنيش، كنت دائما أحب أن أستمع لصوت الجرس وأنا أصطاد، وكان حنا من ذوقه يمر يسلم عليّ قبل دخوله للعظة ويمر عليّ أثناء خروجه ويقول لي وهو يضحك:ـ أنا أنتظر السمك يا بو حميد أريد بوري هذه المرة، ناس في غاية الاحترام لا تملك أمام ذوقهم وأدبهم إلا أن تحترمهم وتقدرهم..
كانت أم مجدي تسكن في الشقة المجاورة لشقتنا، وعندما تراني من شرفتها أصلي في غرفتي المقابلة لغرفة نومها مباشرة كانت تقول لي :ـ ربنا يفتح عليك يا أحمد ويكملك بعقلك، وَلَكَمْ قلت في نفسي ليتها لا تراني، وليتها إذا رأتني لا تقول لي ما تقول، وأستصغر نفسي جدا، وأنا يا ( بو صلاح ) لم أترك ذنبا إلا وفعلته كل ما يمكن أن تتخيله فعلته، لكنني لم أيأس أبدا من رحمة ربنا، ولست أدري هل الطمع في رحمة ربنا مدخل من مداخل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء أم لا؟ لست أدري ..
كنت دائما أعتقد أن الصلاة إلى الصلاة تكفر الذنوب كلها، ولن تتخيل يا ( ابو صلاح ) من الذي كشف لي خطأ اعتقادي هذا. البنت ( حسنات ) بنت عبد القادر المجنون الذي يعمل في ورشة الميكانيكا التي على ناصية حارتنا من دخلة شارع المغارة، أما الورشة التي تقع على ناصية حارتنا من دخلة شارع الدسناوي فهذه ورشة أبو المعاطي النصاب، المهم عبد القادر يصفونه بالمجنون لأنه عندما يتعصب يمكن أن يكسر زجاج سيارة أي زبون، ومع ذلك فعم دميان زوج أم مجدي وصاحب الورشة لم يفكر أبدا في طرده، بل ظل عبد القادر المجنون يعمل في الورشة حتى بعد وفاة عم دميان، ويوميا يرسل الإيراد لأم مجدي، عم دميان أيضا كان حكاية لوحده، سأحكي لك عنه لاحقا، لكن قبل أن أنسى حكاية حسنات أقول لك:ـ لقد كنت ذات ليلة مع حسنات من قبل المغرب وبعد أن انتهيت منها، قلت لها:ـ أنا سأقوم لأدرك صلاة المغرب قبل أذان العشاء
قالت لي :ـ صلاة إيه يا منيل بعد المصيبة اللي عملناها مع بعض دي. فلما قلت لها :ـ ربنا يغفر الذنوب بين الصلاتين يا مجنونة يا بنت المجنون..
هي التي قالت لي :ـ بيغفر الحاجات البسيطة يا اهبل، أما اللي عملناه ده اسمه كبيرة .. وفعلا لما سألت شيخ الجامع صدمني بهذه المعلومة، لكن البنت حسنات كانت لهطة قشدة يا ( بو صلاح ) ولم أكن أستطيع أن أفوت يوم السبت عندما تحضر لتنظيف شقتنا، وكانت تدخل توقظني من النوم، لم تكن تفلت مني أبدا، وكنت بعد لقائها أسهر طول الليل أستغفر، وأقول :ـ يا رب أنا عبدك الضعيف، ونفسي أقوى مني، سامحني يا رب..
كانت أم مجدي تذهب للكنيسة كل أحد وتترك حسنات تنظف الشقة إلى أن تعود، كانت البنت حسنات فقط تبدأ الشغل وناري تتقد، وأنا أشاهدها وهي ترقص على أنغام المهرجانات، وملابسها وجسمها لا يحاتجان لوصف، لهطة قشدة بجد!، أجد نفسي أنتفض وأجري أطرق باب أم مجدي وعندما تفتح حسنات وأبدأ مباشرتها تدفعني وتقول لي :ـ احنا لسه كنا مع بعض امبارح يا منيل .. البنت كان كل مناها أن أتزوجها، وأنا كنت أقول لها:ـ أتزوج من يا بنت المجنون؟! هل جننت أنت أيضا مثل أبيك أم ماذا؟!، وكانت تلك أتعس لحظات حياتها عندما أقابل طلبها بهذا الرفض الحاد، فكانت تعطيني ظهرها وتبكي وهي على الوسادة، وما كنت أكتفي بذلك بل كنت أقول لها :ـ أتريدين أن أتزوجك وأنت معك الإعدادية وأنا شهادة عليا يا مومس؟، والناس ماذا تقول؟!، وكانت تقول لي:ـ شهادة عليا مين يا بو شهادة انتا خدتها بطلوع الروح وأخرتها آهي متعلقه ع الحيطة زي قلتها، وكنت أقول لها:ـ والله معك حق، ليتني دخلت الثانوي التجاري أو الصناعي، أو ليتني اكتفيت بالإعدادية، أو الابتدائية، ولعل شهادة محو الأمية كانت تكفي، وربما كان من الأفضل ألا أحصل على أي شهادة، ولا أورَّث نَعْرَةَ الشهادة العليا وكبرأصحاب الشهادة العليا التي باتت لا تسمن ولا تغني من جوع في هذا البلد .. ومع ذلك البنت كانت تعبدني عبادة يا ( بو صلاح ) وتتمنى الموت ولا تتمنى البعد عني ...
الوحيد الذي ينغص عليّ عيشتي الآن هو أنت يا ( صلاح يا مازني)، بل أنت وكل ذوي اللحى من أمثالك؛ كلما جاءت سيرة الصلاة تعقِّد لي الأمور، وتقول لي :ـ وهل تعتقد أن ربنا سيقبل صلاتك التي كنت تصليها أيام الشقاوة؟. عندها يبدأ الحوار والجدال والشد والجذب، وكثيرا ما ينتهي الأمر بشجار، وتتعصَّب جدا عندما أقول لك :ـ هذه نقرة وتلك نقرة، ويا سيدي ما لك أنت وما لي؟، دع من يذنب يذنب وإن له مع الله لشغلا، ألم تسمع الشيخ النقشبندي وهو يقول في الابتهال
" يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة .. فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يدعوك إلا محسن .. فمن الذي يرجو ويدعو الآثـــم "
ومع ذلك ـ يا أخي ـ لا أجد لذة في الحديث والكلام مع أحد غيرك يا (صلاح يا مازني) منذ أن دخلت السجن. بدون شعور أجدني أجلس إليك وأفتح قلبي وسجل ذكرياتي فتنساب مني الحكايا دون توقف . وربما لأن ساعة السجن بسنة كما يقولون فلا أجد بدا من تضييع ساعاته في الكلام والكلام والكلام، لكن تصدق يا ( ابو صلاح ) أنه لاكتناف حديثي الصدق معك في كل حرف؛ أجد بعد الكلام راحة منقطعة النظير، والله لو كنت أعلم هذه الفائدة للكلام من قبل لكنت انفردت بنفسي في غرفتي الساعات والساعات لأكلم نفسي وأظل أتكلم وأتكلم وحسب، لكن للأسف هناك أمور كثيرة لا يدركها المرء إلا بعد فوات الأوان. أعتقد أيضا يا ( بو صلاح ) أنه ينبغي أن تتحدث لشخص تحبه، وترتاح له وتثق فيه، وهذا ما لم أكن أجده في البيت البتة، فأي راحة تلك التي تجدها في بيت كله مشاكل من أول النهار لآخره، أختي هي وأولادها يوما بعد يوم غضبانة من زوجها العاطل، وأمي مريضة، وحركتها ضعيفة جدا، وأبي راتبه من مصنع المكرونة الذي يعمل به لا يكفي العيش الحاف، وطول النهار والليل في شجار ونقار، لكن تخيل يا ( ابو صلاح ) أنا لا أحزن على نفسي أكثر من حزني عليك أنت وأمثالك محكوم عليك بثلاث سنوات لشيكات بدون رصيد، ولولا الحاجة ما فعلت، تخيل أنه سيضيع من عمرك هنا ثلاث سنوات بعيدا عن زوجتك وأولادك الثلاثة بسبب الأقساط والديون، يا أخي ماذا أقول فقط، حسبنا الله ونعم الوكيل في الظالم الذي رماك هذه الرمية، وتصدق أن صاحب الأقساط لن يستفيد شيئا البتة من رميتك، في حين لو كنتما تفاهمتما بشأن جدولة الديون أو التغاضي عن جزء منها لكان أفيد لكل الأطراف حتى الحكومة لم تكن لتتحمل عبء استضافتك الباهظة في السجن، يا الله ما باليد حيلة .
تخيل يا بو صلاح أن الوحيد الذي لم أتوقع أن يزورني هنا هو ( حنا ) ابن السيدة أم مجدي، تخيل أنه يزور قاتل أمه، ثم لا يزيد في الكلام معي عن قوله:ـ أنا مسامحك يا أحمدـ صدقني أنا مسامحك يا حبيبي، ومجدي أيضا مسامحك، وكان يتمنى أن يكلمك بالتليفون لكنهم يأخذون مني المحمول عند بوابة السجن. ثم يضمني لحضنه ويقول:ـ والمسيح الحي أنا لو كان بيدي ألَّا يُنَفَّذ بك حكم الإعدام لفعلت، لكن اصبر وربنا معك .. :ـ كم أنت كريم ومحترم يا حنا!.
عادت أم مجدي ذات مرة من الكنيسة، وكنت أنا وحسنات قد نمنا ورحنا في سبات عميق على سرير أم مجدي وعم دميان، وتخيل،من الذي أيقظنا؟. صح. طبعا أم مجدي. هل تتخيل رد فعل لها على ما رأته على سريرها غير أن تصرخ، وتلمّ علينا الخَلق؟!. لا. أبدا. هي لم تفعل أيا من ذلك، أخذت تلف وتدور حول نفسها وتفرك تقلب كفيها وكأنما لدغها عقرب وهي تقول :ـ يا يسوع يا يسوع. ثم تشير لنا وقد أعطتنا ظهرها وتقول :ـ قومو، قومو، امشو من هنا. شاهدتها وأنا أرتدي ملابسي وهي تجلس إلى مذبح صغير به شمع وصليب وصورة للعذراء وأخرى للمسيح، وتقول بصوت مسموع:ـ خلصهم يا يسوع، طهريهم يا عذرا. ليس غريبا على أم مجدي أنها لم تمنع حسنات من الحضور لشقتها بعد هذه الحادثة، لكنها لم تعد تسمح لها بتنظيف الشقة إلا في حضورها، وعندما سألتُ البنت حسنات:ـ ماذا فعلت معك السيدة أم مجدي؟ هل حدثتك عن أي شيء؟
قالت :ـ أبدا كل ما قالته لي:ـ أنا أشعلت لك شمعة في الكنيسة يا حسنات وربنا يهديك ويسامحك يا بنيتي
كم كنت كريمة جدا معنا يا أم مجدي!، وورث عنك ولداك هذا الكرم، وليتني استوعبت الدرس. نفس العبارة التي ذكرها لي شيخ الجامع :ـ " إن كثرة المعاصي تميت القلب"، ذكرتِها لي يا أم مجدي على السلم كنت تحملين أكياس خضار ثقيلة، فحملتُها عنكِ، فقلت لي وأنا أسبقك بدرجتين :ـ خلي بالك من قلبك لاحسن الخطايا تسوِّده لك يا بني .. ليتني استوعبت الدرس يا أم مجدي، وأنا الذي تماديت في غيِّي ممنيا نفسي بأن رحمة الله واسعة، ومن أجل شريط (ترامادول) منعت عني أمي ثمنه، تسللت وأنا في حالة اضطراب وانفلات عصبي إلى شقتك وأنت نائمة، وعندما لم أقع على مكان المال حاولت سرقة قرطك من أذنيك، فاستيقظتِ، ووجدْتِني على هذه الحال، ويا لحلمك وخلقك الكريمين اللذين فاجأتني بهما أيما مفاجأة، قمتِ، وجلستِ لتخلعي القرط بنفسك وتعطيني إياه، وقلت:ـ ولا تزعل نفسك يا حبيبي، بس وبعدين؟!. وأنا لا أدري حتى الآن ماذا بعد؟!، لماذا لم أنصرف عنك يا أم مجدي؟. لماذا لم أشكرك حتى على معروفك معي؟. أكنت تستحقين أن أهجم عليك بهذه الوحشية، وأستجمع كل قواي وعنفواني على جسدك المهيض الهضيم، وأكتم أنفاسك بالوسادة وأنا أعلم أنك تعانين من الربو الحاد ولا تتحملين ولو ذرة تراب واحدة على أنفك. إنني أتمنى أن تسامحيني يا أم مجدي وكلي ثقة أنك سامحتني .
تعليق