قصة حقيقية من واقع السجون الفلسطينية
عام ألفين وثلاثة عشر كنت طفلة لا زلت بالصف الحادي عشر ، الأولى على صفي ... محبوبة مدللّـه كوني البنت الوحيدة في العائلة ... في ذلك الوقت كانت انتفاضة الأقصى قوية وفي أوجها ...
والشباب المقاومون .. كثيراً ما كانوا يبتعدون عن عيون جنود الاحتلال ويهجرون بيوتهم إلى البيوت المجاورة القديمة خوفاً من الاعتقال .. وبالصدفة وأثناء عودتي من المدرسة في أحد البيوت المجاورة لبيتنا .. تعرّفت على أحدهم .. وساعدته
كنت أسرق الطعام من البيت وأعطيه إياه لكي يأكل ... لأنه لم يكن هناك أحد من الشباب المطلوبين قادراً على التواصل مع أهله .. وكانوا يخشون من الحديث عبر الهواتف لأنها مراقبة ..
وكل يوم كنت آخذ حصتي من الأكل بحجة أنني أريد أن آكل في غرفتي ولم يكن أحد يمانع في ذلك
فأنا الملكة المدلّلة التي لا يُرفض لها طلب .. وما أن تصفو الأجواء وتحين الفرصة المناسبة أحمل إليه الطعام وأقدّمه إليه.. وأجلس بقربه أتأمله وهو يلتهم الطعام وينظر إلي بين اللقمة واللقمة وكأنه يقدم لي الشكر بصمت وأعود أحمل معي الصحن الفارغ إلى البيت وأبقى أنا على جوعي
وإذا ما سألتني أمي .: هل أكلتِ ؟ هل كان طيّباً طبخي هذا اليوم ؟
أكذب عليها .. وأقول : مممممم كان طيباً جداً
وكنت عندما أضع كمية كبيرة في صحني .. تستغرب و تسألني :هل ستأكلين كل هذه الكمية ؟! وأقول لها : نعم نعم سآكله كله
فتبتسم وتقول لي إذهبي يا بطة
تكرر المشهد وصار يتعدى أكثر من وجبة .. ويبدو أن جنود الاحتلال اشتموا رائحة الشباب المطلوبين .. بطريقة ما .. فاقتحموا المكان وأنا هناك واعتقلوني مع المطلوبين .. وزج الجميع في السجن
لم يكن وقع الخبر سهلاً على الأهل ولا حتى على أهل الحي .. تفاجأ الجميع واستنكر لأنني دلوعة العائلة .. إذ لم يخطر ببال أحدهم أنني يمكن أن أكون في يوم من الأيام فدائية تقاوم المحتل .. وأنا صاحبة القد الجميل والشعر الأسود الطويل والبشرة الناعمة ,,, والقامة الممشوقة .. وذات المريول المدرسي القصير
كيف يمكن أن يحدث هذا ؟ لا أحد يصدق ولا أحد يعرف كيف حدث هذا .. حتى أنا لم يخطر ببالي للحظة أنني يمكن أن أكون في السجن
بداخل الأسر وخلف القضبان قصة ثانية لكنها الأجمل .. قضيت سبعة وستين يوماً في سجن المسكوبية تحت التعذيب للاعتراف بعلاقتي مع أولئك الشباب ومع هذه الخلية ... وتحت وطأة التعذيب والتهديد اعترفت أنني فقط كنت أعطيهم طعامي .. ولم يصدقوني بالطبع .. وقضيت كل هذه المدة وأنا أبكي ...
آه لو تعلمون علام كان بكائي ..؟
كنت ابكي لأن في السجن لا يوجد فرشاية شعر لأسرّح به شعري الطويل الجميل الذي كنت أتباهى فيه في القرية وأتمايل يمنة ويسرة وهو على كتفي .. ولا يوجد شامبو لأحممّ به شعري ولأنه لا يوجد فرشاية أسنان أنظف بها أسناني البيضاء اللامعة .. كان هذا أكبر همي بل كل همي ... كم أنا تافهة .. لم أفكر في أمي التي تركتها تبكي .. ولا بمدرستي ولا بالسنة دراسية التي ضاعت من عمري ولا بأي شيء يستحق التفكير والقلق .. لم أفكر سوى بشعري وأناقتي
بعد ثلاثة شهور حضرت أمي إلى المحكمة ورأتني .. لم تعرفني .. ـتأملتني ودارت بنظرها على جسمي وشعري وهي تبكي .. ثم راحت عني تبحث في الوجوه الأخرى عن ابنتها .. وقبل أن تذهب همست لي : هل تعرفين فلانة ؟؟ تسألني عني .. يا للفظاعة !!
صرخت أنا أنا هي .. أنا البطة
كانوا يسمونني البطة .. وكنت أتباهى كثيراً بنفسي .. فبعد ثلاثة شهور تغيّر فيّ أشياء كثيرة .. نقص وزني وقص شعري وتجعد وتلبّد وتشابك ببعضه .. لأنهم عندما أحضروا لي فرشاية شعر من إحدى الصبايا المعتقلات المجاورة .. وحاولت أن أنشط شعري الفرشاة لم تدخل في ثنايا شعري لأنه تلبك مع كثرة الأوساخ فقصوه من جذوره ..
هذا الموضوع لم يكن سهلاً أبداً فكم أزعجني وأسهرني ليال طويلة بالسجن وأنا أبكي على شعراتي ... فصرت أخبئ المرايا حتى لا أرى نفسي كم صرت بشعة ... وأيام وليال وأنا حزينة .. حيث كنت أصغر الإناث سناً في السجن .. لكن هذه الأيام قوات الاحتلال باتت تعتقل الأطفال من هم في الصفوف الإبتدائية من طلبة وطالبات المدارس ..
ومرت الأيام والليالي الطوال .. أخربش بأظافري وأنقش على حيطان السجن أحزاني ..
وفي ذات يوم حضرت السجانة المسؤولة عن حراستي ليلاً وأخبرتني بأن غداً صباحاً جِلسة محاكمتي ..
حزنت لهذا الخبر لأن فيه المجهول بعدد السنوات التي سأقضيها داخل الأسر .. وعملت ألف حساب لمشوار المحكمة والصحوة مبكرة والتفتيش العاري والكلبشات والقيود في اليدين والرجلين ... وكل هذا قبل الدخول إلى ( البوسطة ) وهي السيارة العسكرية التي ستقلني إلى المحكمة ,, والمشوار الطويل في جو بارد قارس البرودة .. ولقسوة ما سيأتي في اليوم التالي لم يغمض لي جفن ..
وأنا أدعو : يا رب فرج همي وفك كربي وهوّن على أمي مشوارَها الثقيل إلى قاعة المحكمة ,,, لأن أهالي المعتقلين الزوار يعرفون مواعيد المحاكم من المحامي التابع لنادي الأسير .. فيسافرون مسافات شاسعة ويقطعون الحواجز العسكرية بصعوبة حتى يصلوا إلى قاعة المحكمة فهم الآخرون يعانون في الوصول إلى المحكمة معاناة تشبه معاناة الأسير
وجاء الفجر .. ولساني ما زال يلهج بالدعاء وعيوني ذبلت بلا نوم .. والبرد أكل أطرافي .. حيث الغطاء اليتيم الوحيد في الزنزانة بارد ورطب تفوح منه العفونة ..
طرقت السجانة باب الزنزانة بعنف وهي تنادي : هيا استعدي .. فتحت عيوني وأزحت الغطاء عني ووقفت وأنا أرتجف برداً .. وبأقصى سرعة توجهت إلى باب الزنزانة بقصد الخروج ..
كانت الأجواء في الخارج تبدو عادية .. ولكنني لما خرجت انهمر المطر بشدة وكنت قد نسيت أن أرتدي لباساً ثقيلاً أو سترة تحميني من المطر .. فأدخلتني السجانة إلى غرفة بقصد التفتيش العاري وتم تفتيشي بعد أن قيدوا يدي ورجلي .. فخرجت برفقتها وصعدت إلى السيارة وأنا مبتلة تماماً يرافقها الشتائم والسب والركل .. رفعت يدي أنظر إلى القيد الذي شد على وثاقي وإذ بأصابع يدي مالت إلى الزرقة وكأن الدم توقف فيها عن الجريان .. ولم أعد أشعر بأقدامي المقيدة .. مكثت في البوسطة فترة لكي يجمعون من كل الأقسام كل من سيتوجهن إلى المحكمة من الأسيرات
وانطلقت البوسطة تسير مرة بهدوء قاتل وأخرى بسرعة جنونية لزيادة التوتر
وبعد طول مسافة وصلنا إلى المحكمة ,, وبقينا داخل البوسطة فترة أخرى تحت حراسة مشددة .. وأفواه البنادق مرة موجهة على رقابنا ومرة على صدورنا ..
دخلت محكمة ( عوفر ) وكان علي الانتظار مرة أخرى حتى يأتي علي الدور .. ففي العادة تعقد المحكمة أكثر من جلسة لأكثر من أسير في اليوم الواحد .. أدخلوني زنزانة أشبه بثلاجة وازدادت رجفاتي برداً
وتصاعد خوفي.. فهذه هي المرة الأولى التي أذهب بها إلى المحكمة ولا أعرف ما المصير ولا كم سيكون الحكم وماذا سيحدث وهل سأرى أمي أم لا .. كل هذا كان كفيلاً بأن أقطع ألف ساعة من الوقت داخل زنزانة الانتظار من غير أن أشعر بطول الوقت ..
وأنا أسمع صراخ الشباب المقيدين مثلي وبانتظار دورهم ينادون علي .. ( يختي .. يختي لا تخافي انت بس قولي يا رب انت من وين وشو اسمك بنت مين ) أحسست لحظتها بالأمان .. مع أنني لم أجبهم على أي سؤال .. فالكلمات أصلاً مقتولة في جوفي .. فقد رأسي هو الذي يفكر
بعدها بدأوا ينادون على الأسماء .. وأنا أشنف أذني الباردتين نحو الصوت .. نادوا على ثمانية أسماء قبلي لا أعرف منهم أحداً .. وفي العادة ينادون على كل اثنين معاً
فتحوا لي باب الزنزانة وخرجتُ وأنا مكلبشة ( مقيدة ) الرجلين حيث أنهم فكوا قيود اليدين قبل الدخول إلى زنزانة الانتظار نادوا على اسمي واسم شاب آخر طوله طولي مرتين .. خرج من الزنزانة قمر ساطع
وجه مريح .. يبتسم رغم كل هذا الضيق .. فاستغربت هذا البرود ولم أكن أعلم أنه أسير فلسطيني مثلي إلا عندما لمحت قيوده .. مشيت بالقرب منه وهو يمشي بقيوده مرفوع الهامة واثق بنفسه لا يهتز له رمش .. وخلال وقوفنا بين زنازين الانتظار الانفرادية.. رفعت رأسي أنظر إليه وأنا أرتجف برداً .. خلع معطفه ووضعه على كتفي قائلاً : البسيه بسرعة قبل أن يقيدونا .. وبعد قليل قيدوا كل اثنين بكلبشة واحدة فشبكوني أنا والشاب الطويل بنفس الكلبشة في اليدين ونودي على اسمينا .. فأسرعت خطواتي إلى الأمام بينما هو يمشي الهوينا .. أنا أسرع خوفاً من صراخهم نحو مصدر الصوت وهو يمشي ببطء حتى لا يضغط القيد على يدي .. وكلما تأخرنا نادوا علينا وقالوا : بسرعة ...
لم يكن هناك أي وقت لقول أي شيء .. فقد ماتت الكلمات .. فقط هي العيون التي ترسل الرسائل التي لا يفهمها السجان ولا المسؤول .................- فقط - كنت أشعر بالأمان
رجل طويل يمشي عالهدا .. وأنا خجلانة من ثيابي المبتلة وشعري المنكوش وكلما صرخوا قال لي .. لا تخافي .. وصلنا قاعة المحكمة وأدخلونا بنفس القفص وعند ذات القاضي
رغم أن قضيتي تختلف تماماً عن قضيته .. والتهم الموجهة إلي تختلف عن التهم الموجهة إليه ...
رحلة طويلة وشاقة مشيتها مقيدة ما بين زنزانة الانتظار وقفص المحكمة ..
بداخل المحكمة كل واحد منا التهى بعائلته التي جاءت من آخر الدنيا لحضور الجلسة
كل واحد يُسل نظراته المتلهفة لرؤية أم وأب وإخوة وزوجة وولد
وصدر الحكم ...
ثم رجعنا للزنازين بنفس الطريقة ...
وعادة لا تتحرك ( البوسطات ) إلا عندما تنتهي جميع المحاكم .. وتمشي في الطريق خلف بعضها البعض إلى معبر الرملة .. وهناك ينام الشباب حتى اليوم التالي .. ثم تأتي بوسطة كل سجن تنقل الشباب إلى ذلك السجن .. أما الفتيات فيرجعن إلى سجونهن بذات الليلة
عدت إلى سجني كما كنت .. لا أحمل معي جديداً :
سوى ذلك الشاب الضيف الجديد الذي دخل على حياتي وسعادة تغمر قلبي لأن القاضي نطق بتأجيل الحكم
.. مضت شهور أربعة لم أعرف عنه أي شيء وصورته أجمل حلم تغفو على رؤياه أجفاني ..
وأنا أسائل نفسي .. : من هو ذلك الشاب الذي أخذ بمجامع قلبي وسرقه وأنا أشم رائحته التي تفوح من معطفه الذي أحتضنه وأنام فيه كل ليلة .. وأسأل : هل سأراه مرة أخرى ؟
قلت لنفسي : انتظري .. فسوف ترينه
فهناك جلسة أخرى للمحكمة لا بد من حضورها... ومضت شهور أخرى حتى حان موعد جلسة المحكمة الثانية ..
فبقدر ما كان سفري للمحكمة الأولى ثقيلة .. هذه المرة رحبتُ بها من قلبي وفي العادة لا يصدر الحكم من أول جلسة إلا بعد عدة جلسات .. وفي هذه المرة قررت : علي أن أعرف اسمه .. ومن يكون .. سأقول أشياء كثيرة ...
وجاءت الجلسة الثانية وفيها حُكم عليه بالمؤبد وحكمتُ أنا أربع سنوات ..
ولما نطق القاضي بالحكم علي هذه المرة غرقت بدموعي .. فصرتُ أبكي وأبكي على نفسي .. كيف سأقضي أربع سنوات من عمري داخل الأسر .. .. ولما نطق القاضي بالحكم المؤبد عليه .. والله لم يرمش له جفن ولا أبدى أي حزن بل ضحك .. أما أنا فبكيت عليه أكثر لأن شيئاً ما جمعنا ..والتقينا بعد الحكم الذي صدر بحقينا وما زلت أبكي.. وانتهت مراسيم الحكم ... وخرجنا جميعاً من قاعة المحكمة كل يحمل همّه وهمّ السنوات التي سيقضيها داخل الأسر ... ناديت عليه .. فطلّ علي من شباك زنزانته فركضت نحو شباك الزنزانة قبل أن يجرجروني إلى زنزانتي عندها صار الشباب يكبّرون ويقولون .. لا تخافي غداً ستخرجين من السجن .. ماذا نقول نحن ؟؟
أما هو فهمس لي : لم تبكين ياهبلة ؟ فضحكت ثم قال : هذا كلام فاضي ,, أي حكم هذا .. والله سوف يأتي اليوم الذي تكسر فيه أبواب السجون ونخرج
وفي الممر كان كل الاسرى اثنين اثنين يسيرون مقيدين مكلبشين ... استجمعت كل ما لدي من قوة واومأت إليه برأسي : اقترب .. فانحنى نحوي .. قلت : شكراً .. لن أنساك أبداً .. وانحدرت من عيوني دمعة لا أدري ما معناها .. فمسح بيده المقيدة الدمعة التي انحدرت على خدي وقال لي : دائماً قولي يارب .. وأوعديني انك ما تبكي بعد اليوم .. اوعديني أن تبعثي لي سلاماً مع الشباب والصبايا الذين ينزلون إلى المحكمة
ولم أحدثه بشيء مما كنت قد حضرته وجهزت له .. كل ما عرفته هو اسمه
وذهب كل منا إلى سجنه تفصلنا مسافات طوال وجبال شاهقات وطرق التفافية يعبرها المستوطنون فقط وجنود حاقدون يحرسون الأسرى خوفاً من الهروب ...
قضيت في عزلي أربع سنوات عجاف .. لا كلام ولا سلام ولا أية رسالة .. فاعتقدت أنه مع المؤبد نسيني وتهت وحرت في أمري ماذا سأفعل ؟!
خرجت من سجني إلى عالم آخر بشخصية أخرى تختلف تماماً عن تلك الشخصية التي دخلت بها السجن
وبدأت أحاول أن أمارس حياتي بشكل طبيعي وكأنه خيال مرّ من قربي في ساعة عسرة مدّ يده إلي وغاب ..لكنه زرع في قلبي قلب
وأكملت تعليمي المدرسي وحصلت على الثانوية العامة ..
سنوات مرت انقطعت أخباره عني تماماً ...وأنا في خضم الحيرة .. جاءني خاطب يطلب الزواج .. فدارت برأسي أسئلة كثيرة لا أعرف كيف أجيب عليها
هل أنتظر ,, ؟ إنه محكوم مؤبد مدى الحياة .. لا ربما بصفقة للأسرى يخرج وينتهي الحكم .. ولكن كيف لي أن أعرف أنني ما زلت في قلبه ونحن لم نتحدث سوى بضع كلمات ؟
وكان القرار من الأهل بأن عليّ أن أوافق .. فالمجتمع الفلسطيني على الرغم من أنه شعب قضية إلا أن الفتاة التي تدخل السجن يكون حولها ألف علامة استفهام .. وكنت قد تجاوزت عمراً أشرفت فيها على العنوسة .. فرضيت تحت الضغط .. واعتبر الناس ذلك العريس ممن ضحى بنفسه ليكون عريساً لفتاة قضت أربع سنوات في سجن الغاصب أسيرة
وما كان أمامي إلا الموافقة .. تزوجت زواجاً تقليدياً عادياً .. وعشت في كنف زوج بدت أخلاقه تسوء مع الأيام .. ولاقيت الواه من أهله الذين أصلاً كانوا رافضين فكرة زواج ابنهم مني
ورزقني الله طفلاً .. تعذبت وعشت حياة قاسية .. لا تختلف كثيراً عن حياتي داخل السجن
فعدتُ إلى بيت أهلي أبكي بحرقة من مرارة العيش مع هذا الرجل أرفض الرجوع إليه مهما كلفني الأمر
وطلبت الطلاق .. وبعد عدة سنوات حصلت عليه .. فصرت الأسيرة المطلقة !!
... صممت بكل ما جمعت من قوة وصبر داخل الأسر أن أكمل تعليمي الجامعي ... وكان لي ما أردت .. ها هي سنوات أربع أخرى تمر من عمري .. وبعد أن أكملت تعليمي كان علي أن أبحث عن عمل يتناسب وشخصيتي القوية فتقدمت بطلب للعمل له علاقة بالأسرى فكان عملي مسؤولة عن ملف الأسرى ولا أخفي أنني اخترت هذا العمل لكي أعرف أخبار الأسرى
فاجتهدت في عملي واقتربت أكثر وأكثر من أهالي الأسرى .. حتى تعرّفت على والدة ذلك الشاب .. فأحببتها أكثر من غيرها من أمهات الأسرى ,, ومنها عرفت كل ما أريد عن ابنها
وذات يوم كنت أشارك بدورة تدريبية وخلال ذلك رن هاتفي وكان الرقم غريباً فلم أرد عليه .. لكنه عاود الاتصال مرة أخرى .. فقلت لا بد أن المتصل مصمم ولديه شيء مهم .. ففتحت السماعة وإذ بالمتصل يقول : لساتك بتبكي يا هبلة ؟!
وتوقف الصوت ... ألو ألو ... صرخت بأعلى صوتي من غير شعور : هو هو اتصل وانتباتني حالة من البكاء والضحك وكأنني دخلت حالة هستيرية ...
لحظة قلت لنفسي اهدئي ... سيعاود الاتصال
وفي اليوم الثاني وبنفس الموعد جاء الاتصال
فقلت : ألو وتوقفتُ أنا عن الرد .. فدموعي منعتني من الكلام
فكانت تنحدر بصمت ..
تلبّكت ... وما ركّـزت بحرف خلال الدورة التي استمرت أسبوعاً ... وانتهت الدورة على خير وسلام ..
وتكررت الاتصالات ..فكان كل اسبوع كان يتصل بي مرة .. واطول مكالمة حصلت لم تتجاوز الخمس دقائق ...
طبعا انا ما نسيت زواجي وطلاقي وقررت ُاتعامل معه كاخ وصديق على الرغم من النيران التي تجتاح قلبي حباً له ... بعد سنة كاملة من التواصل... عرفت أنه ما نسيني للحظة .. ولم أغب عن باله ثانية .. وأنه يحبني مؤبد ..
ومنذ تلك اللحظة .. تأبد في جذوري وكبر حبه في صدري واستوطن ..
أعيش الآن حيرة على الرغم من أنني على رأس أملي بأنه سيعود يوماً ,, وسيزول القيد ونتزوج ونبني بيتاً ووووووو
إلا أنني لا زلت أفكر .. كيف يمكن أن يكون لي وأنا المطلقة الأسيرة بحبه وهو الأسير المحكوم مدى الحياة ..؟!
وإن خرج من سجنه ، ستكون تجاعيد وجهي أكبر من سنوات سجنه وأكون كبرت وانزاحت خطوط الجمال من على وجهي ..
هل سيقبل بي بعد طول عمر .. ؟ هل سيقبل أهله أن يزوجوه بعجوز ؟
آه ....
الآه تأكني ولا زلت أحبه
عام ألفين وثلاثة عشر كنت طفلة لا زلت بالصف الحادي عشر ، الأولى على صفي ... محبوبة مدللّـه كوني البنت الوحيدة في العائلة ... في ذلك الوقت كانت انتفاضة الأقصى قوية وفي أوجها ...
والشباب المقاومون .. كثيراً ما كانوا يبتعدون عن عيون جنود الاحتلال ويهجرون بيوتهم إلى البيوت المجاورة القديمة خوفاً من الاعتقال .. وبالصدفة وأثناء عودتي من المدرسة في أحد البيوت المجاورة لبيتنا .. تعرّفت على أحدهم .. وساعدته
كنت أسرق الطعام من البيت وأعطيه إياه لكي يأكل ... لأنه لم يكن هناك أحد من الشباب المطلوبين قادراً على التواصل مع أهله .. وكانوا يخشون من الحديث عبر الهواتف لأنها مراقبة ..
وكل يوم كنت آخذ حصتي من الأكل بحجة أنني أريد أن آكل في غرفتي ولم يكن أحد يمانع في ذلك
فأنا الملكة المدلّلة التي لا يُرفض لها طلب .. وما أن تصفو الأجواء وتحين الفرصة المناسبة أحمل إليه الطعام وأقدّمه إليه.. وأجلس بقربه أتأمله وهو يلتهم الطعام وينظر إلي بين اللقمة واللقمة وكأنه يقدم لي الشكر بصمت وأعود أحمل معي الصحن الفارغ إلى البيت وأبقى أنا على جوعي
وإذا ما سألتني أمي .: هل أكلتِ ؟ هل كان طيّباً طبخي هذا اليوم ؟
أكذب عليها .. وأقول : مممممم كان طيباً جداً
وكنت عندما أضع كمية كبيرة في صحني .. تستغرب و تسألني :هل ستأكلين كل هذه الكمية ؟! وأقول لها : نعم نعم سآكله كله
فتبتسم وتقول لي إذهبي يا بطة
تكرر المشهد وصار يتعدى أكثر من وجبة .. ويبدو أن جنود الاحتلال اشتموا رائحة الشباب المطلوبين .. بطريقة ما .. فاقتحموا المكان وأنا هناك واعتقلوني مع المطلوبين .. وزج الجميع في السجن
لم يكن وقع الخبر سهلاً على الأهل ولا حتى على أهل الحي .. تفاجأ الجميع واستنكر لأنني دلوعة العائلة .. إذ لم يخطر ببال أحدهم أنني يمكن أن أكون في يوم من الأيام فدائية تقاوم المحتل .. وأنا صاحبة القد الجميل والشعر الأسود الطويل والبشرة الناعمة ,,, والقامة الممشوقة .. وذات المريول المدرسي القصير
كيف يمكن أن يحدث هذا ؟ لا أحد يصدق ولا أحد يعرف كيف حدث هذا .. حتى أنا لم يخطر ببالي للحظة أنني يمكن أن أكون في السجن
بداخل الأسر وخلف القضبان قصة ثانية لكنها الأجمل .. قضيت سبعة وستين يوماً في سجن المسكوبية تحت التعذيب للاعتراف بعلاقتي مع أولئك الشباب ومع هذه الخلية ... وتحت وطأة التعذيب والتهديد اعترفت أنني فقط كنت أعطيهم طعامي .. ولم يصدقوني بالطبع .. وقضيت كل هذه المدة وأنا أبكي ...
آه لو تعلمون علام كان بكائي ..؟
كنت ابكي لأن في السجن لا يوجد فرشاية شعر لأسرّح به شعري الطويل الجميل الذي كنت أتباهى فيه في القرية وأتمايل يمنة ويسرة وهو على كتفي .. ولا يوجد شامبو لأحممّ به شعري ولأنه لا يوجد فرشاية أسنان أنظف بها أسناني البيضاء اللامعة .. كان هذا أكبر همي بل كل همي ... كم أنا تافهة .. لم أفكر في أمي التي تركتها تبكي .. ولا بمدرستي ولا بالسنة دراسية التي ضاعت من عمري ولا بأي شيء يستحق التفكير والقلق .. لم أفكر سوى بشعري وأناقتي
بعد ثلاثة شهور حضرت أمي إلى المحكمة ورأتني .. لم تعرفني .. ـتأملتني ودارت بنظرها على جسمي وشعري وهي تبكي .. ثم راحت عني تبحث في الوجوه الأخرى عن ابنتها .. وقبل أن تذهب همست لي : هل تعرفين فلانة ؟؟ تسألني عني .. يا للفظاعة !!
صرخت أنا أنا هي .. أنا البطة
كانوا يسمونني البطة .. وكنت أتباهى كثيراً بنفسي .. فبعد ثلاثة شهور تغيّر فيّ أشياء كثيرة .. نقص وزني وقص شعري وتجعد وتلبّد وتشابك ببعضه .. لأنهم عندما أحضروا لي فرشاية شعر من إحدى الصبايا المعتقلات المجاورة .. وحاولت أن أنشط شعري الفرشاة لم تدخل في ثنايا شعري لأنه تلبك مع كثرة الأوساخ فقصوه من جذوره ..
هذا الموضوع لم يكن سهلاً أبداً فكم أزعجني وأسهرني ليال طويلة بالسجن وأنا أبكي على شعراتي ... فصرت أخبئ المرايا حتى لا أرى نفسي كم صرت بشعة ... وأيام وليال وأنا حزينة .. حيث كنت أصغر الإناث سناً في السجن .. لكن هذه الأيام قوات الاحتلال باتت تعتقل الأطفال من هم في الصفوف الإبتدائية من طلبة وطالبات المدارس ..
ومرت الأيام والليالي الطوال .. أخربش بأظافري وأنقش على حيطان السجن أحزاني ..
وفي ذات يوم حضرت السجانة المسؤولة عن حراستي ليلاً وأخبرتني بأن غداً صباحاً جِلسة محاكمتي ..
حزنت لهذا الخبر لأن فيه المجهول بعدد السنوات التي سأقضيها داخل الأسر .. وعملت ألف حساب لمشوار المحكمة والصحوة مبكرة والتفتيش العاري والكلبشات والقيود في اليدين والرجلين ... وكل هذا قبل الدخول إلى ( البوسطة ) وهي السيارة العسكرية التي ستقلني إلى المحكمة ,, والمشوار الطويل في جو بارد قارس البرودة .. ولقسوة ما سيأتي في اليوم التالي لم يغمض لي جفن ..
وأنا أدعو : يا رب فرج همي وفك كربي وهوّن على أمي مشوارَها الثقيل إلى قاعة المحكمة ,,, لأن أهالي المعتقلين الزوار يعرفون مواعيد المحاكم من المحامي التابع لنادي الأسير .. فيسافرون مسافات شاسعة ويقطعون الحواجز العسكرية بصعوبة حتى يصلوا إلى قاعة المحكمة فهم الآخرون يعانون في الوصول إلى المحكمة معاناة تشبه معاناة الأسير
وجاء الفجر .. ولساني ما زال يلهج بالدعاء وعيوني ذبلت بلا نوم .. والبرد أكل أطرافي .. حيث الغطاء اليتيم الوحيد في الزنزانة بارد ورطب تفوح منه العفونة ..
طرقت السجانة باب الزنزانة بعنف وهي تنادي : هيا استعدي .. فتحت عيوني وأزحت الغطاء عني ووقفت وأنا أرتجف برداً .. وبأقصى سرعة توجهت إلى باب الزنزانة بقصد الخروج ..
كانت الأجواء في الخارج تبدو عادية .. ولكنني لما خرجت انهمر المطر بشدة وكنت قد نسيت أن أرتدي لباساً ثقيلاً أو سترة تحميني من المطر .. فأدخلتني السجانة إلى غرفة بقصد التفتيش العاري وتم تفتيشي بعد أن قيدوا يدي ورجلي .. فخرجت برفقتها وصعدت إلى السيارة وأنا مبتلة تماماً يرافقها الشتائم والسب والركل .. رفعت يدي أنظر إلى القيد الذي شد على وثاقي وإذ بأصابع يدي مالت إلى الزرقة وكأن الدم توقف فيها عن الجريان .. ولم أعد أشعر بأقدامي المقيدة .. مكثت في البوسطة فترة لكي يجمعون من كل الأقسام كل من سيتوجهن إلى المحكمة من الأسيرات
وانطلقت البوسطة تسير مرة بهدوء قاتل وأخرى بسرعة جنونية لزيادة التوتر
وبعد طول مسافة وصلنا إلى المحكمة ,, وبقينا داخل البوسطة فترة أخرى تحت حراسة مشددة .. وأفواه البنادق مرة موجهة على رقابنا ومرة على صدورنا ..
دخلت محكمة ( عوفر ) وكان علي الانتظار مرة أخرى حتى يأتي علي الدور .. ففي العادة تعقد المحكمة أكثر من جلسة لأكثر من أسير في اليوم الواحد .. أدخلوني زنزانة أشبه بثلاجة وازدادت رجفاتي برداً
وتصاعد خوفي.. فهذه هي المرة الأولى التي أذهب بها إلى المحكمة ولا أعرف ما المصير ولا كم سيكون الحكم وماذا سيحدث وهل سأرى أمي أم لا .. كل هذا كان كفيلاً بأن أقطع ألف ساعة من الوقت داخل زنزانة الانتظار من غير أن أشعر بطول الوقت ..
وأنا أسمع صراخ الشباب المقيدين مثلي وبانتظار دورهم ينادون علي .. ( يختي .. يختي لا تخافي انت بس قولي يا رب انت من وين وشو اسمك بنت مين ) أحسست لحظتها بالأمان .. مع أنني لم أجبهم على أي سؤال .. فالكلمات أصلاً مقتولة في جوفي .. فقد رأسي هو الذي يفكر
بعدها بدأوا ينادون على الأسماء .. وأنا أشنف أذني الباردتين نحو الصوت .. نادوا على ثمانية أسماء قبلي لا أعرف منهم أحداً .. وفي العادة ينادون على كل اثنين معاً
فتحوا لي باب الزنزانة وخرجتُ وأنا مكلبشة ( مقيدة ) الرجلين حيث أنهم فكوا قيود اليدين قبل الدخول إلى زنزانة الانتظار نادوا على اسمي واسم شاب آخر طوله طولي مرتين .. خرج من الزنزانة قمر ساطع
وجه مريح .. يبتسم رغم كل هذا الضيق .. فاستغربت هذا البرود ولم أكن أعلم أنه أسير فلسطيني مثلي إلا عندما لمحت قيوده .. مشيت بالقرب منه وهو يمشي بقيوده مرفوع الهامة واثق بنفسه لا يهتز له رمش .. وخلال وقوفنا بين زنازين الانتظار الانفرادية.. رفعت رأسي أنظر إليه وأنا أرتجف برداً .. خلع معطفه ووضعه على كتفي قائلاً : البسيه بسرعة قبل أن يقيدونا .. وبعد قليل قيدوا كل اثنين بكلبشة واحدة فشبكوني أنا والشاب الطويل بنفس الكلبشة في اليدين ونودي على اسمينا .. فأسرعت خطواتي إلى الأمام بينما هو يمشي الهوينا .. أنا أسرع خوفاً من صراخهم نحو مصدر الصوت وهو يمشي ببطء حتى لا يضغط القيد على يدي .. وكلما تأخرنا نادوا علينا وقالوا : بسرعة ...
لم يكن هناك أي وقت لقول أي شيء .. فقد ماتت الكلمات .. فقط هي العيون التي ترسل الرسائل التي لا يفهمها السجان ولا المسؤول .................- فقط - كنت أشعر بالأمان
رجل طويل يمشي عالهدا .. وأنا خجلانة من ثيابي المبتلة وشعري المنكوش وكلما صرخوا قال لي .. لا تخافي .. وصلنا قاعة المحكمة وأدخلونا بنفس القفص وعند ذات القاضي
رغم أن قضيتي تختلف تماماً عن قضيته .. والتهم الموجهة إلي تختلف عن التهم الموجهة إليه ...
رحلة طويلة وشاقة مشيتها مقيدة ما بين زنزانة الانتظار وقفص المحكمة ..
بداخل المحكمة كل واحد منا التهى بعائلته التي جاءت من آخر الدنيا لحضور الجلسة
كل واحد يُسل نظراته المتلهفة لرؤية أم وأب وإخوة وزوجة وولد
وصدر الحكم ...
ثم رجعنا للزنازين بنفس الطريقة ...
وعادة لا تتحرك ( البوسطات ) إلا عندما تنتهي جميع المحاكم .. وتمشي في الطريق خلف بعضها البعض إلى معبر الرملة .. وهناك ينام الشباب حتى اليوم التالي .. ثم تأتي بوسطة كل سجن تنقل الشباب إلى ذلك السجن .. أما الفتيات فيرجعن إلى سجونهن بذات الليلة
عدت إلى سجني كما كنت .. لا أحمل معي جديداً :
سوى ذلك الشاب الضيف الجديد الذي دخل على حياتي وسعادة تغمر قلبي لأن القاضي نطق بتأجيل الحكم
.. مضت شهور أربعة لم أعرف عنه أي شيء وصورته أجمل حلم تغفو على رؤياه أجفاني ..
وأنا أسائل نفسي .. : من هو ذلك الشاب الذي أخذ بمجامع قلبي وسرقه وأنا أشم رائحته التي تفوح من معطفه الذي أحتضنه وأنام فيه كل ليلة .. وأسأل : هل سأراه مرة أخرى ؟
قلت لنفسي : انتظري .. فسوف ترينه
فهناك جلسة أخرى للمحكمة لا بد من حضورها... ومضت شهور أخرى حتى حان موعد جلسة المحكمة الثانية ..
فبقدر ما كان سفري للمحكمة الأولى ثقيلة .. هذه المرة رحبتُ بها من قلبي وفي العادة لا يصدر الحكم من أول جلسة إلا بعد عدة جلسات .. وفي هذه المرة قررت : علي أن أعرف اسمه .. ومن يكون .. سأقول أشياء كثيرة ...
وجاءت الجلسة الثانية وفيها حُكم عليه بالمؤبد وحكمتُ أنا أربع سنوات ..
ولما نطق القاضي بالحكم علي هذه المرة غرقت بدموعي .. فصرتُ أبكي وأبكي على نفسي .. كيف سأقضي أربع سنوات من عمري داخل الأسر .. .. ولما نطق القاضي بالحكم المؤبد عليه .. والله لم يرمش له جفن ولا أبدى أي حزن بل ضحك .. أما أنا فبكيت عليه أكثر لأن شيئاً ما جمعنا ..والتقينا بعد الحكم الذي صدر بحقينا وما زلت أبكي.. وانتهت مراسيم الحكم ... وخرجنا جميعاً من قاعة المحكمة كل يحمل همّه وهمّ السنوات التي سيقضيها داخل الأسر ... ناديت عليه .. فطلّ علي من شباك زنزانته فركضت نحو شباك الزنزانة قبل أن يجرجروني إلى زنزانتي عندها صار الشباب يكبّرون ويقولون .. لا تخافي غداً ستخرجين من السجن .. ماذا نقول نحن ؟؟
أما هو فهمس لي : لم تبكين ياهبلة ؟ فضحكت ثم قال : هذا كلام فاضي ,, أي حكم هذا .. والله سوف يأتي اليوم الذي تكسر فيه أبواب السجون ونخرج
وفي الممر كان كل الاسرى اثنين اثنين يسيرون مقيدين مكلبشين ... استجمعت كل ما لدي من قوة واومأت إليه برأسي : اقترب .. فانحنى نحوي .. قلت : شكراً .. لن أنساك أبداً .. وانحدرت من عيوني دمعة لا أدري ما معناها .. فمسح بيده المقيدة الدمعة التي انحدرت على خدي وقال لي : دائماً قولي يارب .. وأوعديني انك ما تبكي بعد اليوم .. اوعديني أن تبعثي لي سلاماً مع الشباب والصبايا الذين ينزلون إلى المحكمة
ولم أحدثه بشيء مما كنت قد حضرته وجهزت له .. كل ما عرفته هو اسمه
وذهب كل منا إلى سجنه تفصلنا مسافات طوال وجبال شاهقات وطرق التفافية يعبرها المستوطنون فقط وجنود حاقدون يحرسون الأسرى خوفاً من الهروب ...
قضيت في عزلي أربع سنوات عجاف .. لا كلام ولا سلام ولا أية رسالة .. فاعتقدت أنه مع المؤبد نسيني وتهت وحرت في أمري ماذا سأفعل ؟!
خرجت من سجني إلى عالم آخر بشخصية أخرى تختلف تماماً عن تلك الشخصية التي دخلت بها السجن
وبدأت أحاول أن أمارس حياتي بشكل طبيعي وكأنه خيال مرّ من قربي في ساعة عسرة مدّ يده إلي وغاب ..لكنه زرع في قلبي قلب
وأكملت تعليمي المدرسي وحصلت على الثانوية العامة ..
سنوات مرت انقطعت أخباره عني تماماً ...وأنا في خضم الحيرة .. جاءني خاطب يطلب الزواج .. فدارت برأسي أسئلة كثيرة لا أعرف كيف أجيب عليها
هل أنتظر ,, ؟ إنه محكوم مؤبد مدى الحياة .. لا ربما بصفقة للأسرى يخرج وينتهي الحكم .. ولكن كيف لي أن أعرف أنني ما زلت في قلبه ونحن لم نتحدث سوى بضع كلمات ؟
وكان القرار من الأهل بأن عليّ أن أوافق .. فالمجتمع الفلسطيني على الرغم من أنه شعب قضية إلا أن الفتاة التي تدخل السجن يكون حولها ألف علامة استفهام .. وكنت قد تجاوزت عمراً أشرفت فيها على العنوسة .. فرضيت تحت الضغط .. واعتبر الناس ذلك العريس ممن ضحى بنفسه ليكون عريساً لفتاة قضت أربع سنوات في سجن الغاصب أسيرة
وما كان أمامي إلا الموافقة .. تزوجت زواجاً تقليدياً عادياً .. وعشت في كنف زوج بدت أخلاقه تسوء مع الأيام .. ولاقيت الواه من أهله الذين أصلاً كانوا رافضين فكرة زواج ابنهم مني
ورزقني الله طفلاً .. تعذبت وعشت حياة قاسية .. لا تختلف كثيراً عن حياتي داخل السجن
فعدتُ إلى بيت أهلي أبكي بحرقة من مرارة العيش مع هذا الرجل أرفض الرجوع إليه مهما كلفني الأمر
وطلبت الطلاق .. وبعد عدة سنوات حصلت عليه .. فصرت الأسيرة المطلقة !!
... صممت بكل ما جمعت من قوة وصبر داخل الأسر أن أكمل تعليمي الجامعي ... وكان لي ما أردت .. ها هي سنوات أربع أخرى تمر من عمري .. وبعد أن أكملت تعليمي كان علي أن أبحث عن عمل يتناسب وشخصيتي القوية فتقدمت بطلب للعمل له علاقة بالأسرى فكان عملي مسؤولة عن ملف الأسرى ولا أخفي أنني اخترت هذا العمل لكي أعرف أخبار الأسرى
فاجتهدت في عملي واقتربت أكثر وأكثر من أهالي الأسرى .. حتى تعرّفت على والدة ذلك الشاب .. فأحببتها أكثر من غيرها من أمهات الأسرى ,, ومنها عرفت كل ما أريد عن ابنها
وذات يوم كنت أشارك بدورة تدريبية وخلال ذلك رن هاتفي وكان الرقم غريباً فلم أرد عليه .. لكنه عاود الاتصال مرة أخرى .. فقلت لا بد أن المتصل مصمم ولديه شيء مهم .. ففتحت السماعة وإذ بالمتصل يقول : لساتك بتبكي يا هبلة ؟!
وتوقف الصوت ... ألو ألو ... صرخت بأعلى صوتي من غير شعور : هو هو اتصل وانتباتني حالة من البكاء والضحك وكأنني دخلت حالة هستيرية ...
لحظة قلت لنفسي اهدئي ... سيعاود الاتصال
وفي اليوم الثاني وبنفس الموعد جاء الاتصال
فقلت : ألو وتوقفتُ أنا عن الرد .. فدموعي منعتني من الكلام
فكانت تنحدر بصمت ..
تلبّكت ... وما ركّـزت بحرف خلال الدورة التي استمرت أسبوعاً ... وانتهت الدورة على خير وسلام ..
وتكررت الاتصالات ..فكان كل اسبوع كان يتصل بي مرة .. واطول مكالمة حصلت لم تتجاوز الخمس دقائق ...
طبعا انا ما نسيت زواجي وطلاقي وقررت ُاتعامل معه كاخ وصديق على الرغم من النيران التي تجتاح قلبي حباً له ... بعد سنة كاملة من التواصل... عرفت أنه ما نسيني للحظة .. ولم أغب عن باله ثانية .. وأنه يحبني مؤبد ..
ومنذ تلك اللحظة .. تأبد في جذوري وكبر حبه في صدري واستوطن ..
أعيش الآن حيرة على الرغم من أنني على رأس أملي بأنه سيعود يوماً ,, وسيزول القيد ونتزوج ونبني بيتاً ووووووو
إلا أنني لا زلت أفكر .. كيف يمكن أن يكون لي وأنا المطلقة الأسيرة بحبه وهو الأسير المحكوم مدى الحياة ..؟!
وإن خرج من سجنه ، ستكون تجاعيد وجهي أكبر من سنوات سجنه وأكون كبرت وانزاحت خطوط الجمال من على وجهي ..
هل سيقبل بي بعد طول عمر .. ؟ هل سيقبل أهله أن يزوجوه بعجوز ؟
آه ....
الآه تأكني ولا زلت أحبه
تعليق