[align=center]
الراية الحمراء
[/align]
الراية الحمراء
[/align]
تقافزت عيناه بشراً، وسبقته في احتضان حزمة المال، وهي تندفع أمامه من أصابع واثقة ، ثابتة، تمتد مشرئبَّة، تهزُّ كيانه، وتعصف مقهقهةً، كرجع ضحكات هولاكو عند كل نصرٍ جارفٍ.
واحتواها بانكسارٍ في طيّاتِ معطفه العتيق، وكأنه يطوي معها ملامح ابنته الحلوة الوادعة كقطّة أليفةٍ تنام بجوار الموقد.
لقد تمّتْ الصفقةُ بكلّ شوائبها ، تقبَّل مرغماً اجتياح هذي العاصفة التي تلاعبت بجدار بيته البسيط، فكشفت عنه الستائر، وجعلت ظهره عارياً.. تحت الشمس ،تحت المطر.
لم يعدْ للدمع معنى فمنذ الأزل.. الجميلات وحدهن كنَّ قرابين النيل.. والمعابد.. كي ترضى الآلهة وتجود بالخير والعطاء..
فقد باعها إذن.. لذلك المقتدر الذي يبتلع مراوغةً كلّ الضيعة تباعاً المتبلّد كتمساحٍ باردٍ يلتحم بالأرض.
باعها مرغماً لافتداء أخيها الذي ينفلت من حياتهم ، بشحوبه واحتضاره البطيء، يناشد بما تبقّى له من دقّات قلبه الواهن ألاّ يدعوه يرحل..!.. أن يستبقوه بينهم.
الأم التي كاد الهذيان يُذهب عقلها ، استحلفته بأن يبيع الدنيا كلها و يفتديه ، أن يأخذ نور عينيها ويفتديه..
أخذته مشاوير الهموم إلى دروب ضاقت ...وضاقت ، فانسدّتْ معها مسامات جسده وروحه، ومن خلال غلالات دموعه، اضطربتْ صورة دكانه وهو يعتذر إليها بوداعٍ جنائزيّ شيَّع فيها أيامه التي قضاها تحت سقفها في توحّد المقلة بالنظر..
لم يجدْ غيرها ينقذه من هذا الضّيق، فهي كل ما يملك، هي كل شيء، استحلفها بأن تغفر له!!.. فربّتَتْ على كتفه ودعتْ له بالفرج كأمّ صالحةٍ.. تعانق السماء.
قدماه ساقتاه إلى هذا المقتدر الذي أبدى الأسف وهو يعضُّ على شفتيه بدهاء، يعتصر كلمات المواساة والتعاطف مع هذا الكائن المسحوق ، الذي لم تحرك أناته شعرةً من جسده، لقد اعتاد تأدية هذي الفصول المسرحية ببراعة فائقةٍ ، ووعده خيراً.
في اليوم التالي... بينما كانت عينا التاجر تتفحصّان جدران الدّكان التي كانت ترتعد لوجود هذا الغريب حين استشعرت سوطه الكامن في طيات ملابسه.
أتتْ قطته الشقراء الأليفة بسنواتها البرعميَّة التي ما تفتحت أزاهيرها بعد ، وقد تهادتْ جدائلها الذهبيّة على كتفيها، وتماوجتْ حمرة شقائق النعمان في خدّيها، وتناغمتْ مع مشيتها ريح الصبا،
فهفهف العبق الطفولي الزكي ، وتحركتْ نسيماتٌ حلوةٌ، أنعشت الجوّ وأطفأت بعضاً من لهيبه، في هذا اليوم التمّوزي القائظ.
انحنتْ لتلتقط الوجبة المعتادة التي أعدتها الأم لزوجها في طقوس يومية..
تقافزتْ الكمأة في صدرها..
سال لعاب الرجل ،واشتمَّ في أنفه كلّ الروائح التي لا يقدر على مقاومتها.. وأغمض عينيه، يطبقهما على صورةٍ استبقاها في عصب بؤبؤه كي لا ترحل عنه..
أرادها لنفسه إذن، والفرصة سانحة.. وكلّ الطرق إليها ممهّدة.
وأضمر في نفسه دون عناء بعض خطوات يلوح بها هذا الأب المكلوم، ويؤرجحه على يديه حدّ الاضطراب، كي تنصهر آخر قطرة من دمه. ومن ثم يقف فارس الرجولة مقدماً خدماته.
وكان له كلّ ما أراد، ترك الأب يتخبَّط بأسئلته واستفساراته وتخمينه عن سبب تأخّر الرجل بالردّ كلّ هذي الأيام التي مرت: كأشواك الصبار تحرق كل خلاياه مردّداً : ترى هل قبل عرض الدكان أم لا؟
تراه هل سيقبل بالثمن المطلوب أم لا؟.. هل!؟ هل..؟!
وهو ينظر مشفقاً إلى ولده الهزيل، الذي تغطّيه ملاءات رقيقة، انتقل إليها الوجع في لوحة غير مفصولة.
طرقات على الباب.. ابتهج إليها كل من في الدار، وأتى القادم بهبات النيل يعرضها على الأبوين بكثير من التودّد ، والوعود..
وسط صمتٍ ، وذهولٍ ، ثم صدمةٍ ، ثم تبريرٍ، ثم مكابرةٍ ، ثم قبول..
انفردتْ الأم بابنتها التي كانت تلعب مع أقرانها في فسحة الدار، تخيط عرائسها الحلوة، تتغلغل في تفصيل ملامحها، وتصنع لها أريكتها، ومفرشها وأدوات مطبخها.
لم تفقه الطفلة ما سمعتْ ، ألغاز كثيرة قيلت أمامها.
ماالتقطته أذناها: شفاء أخيها العالق في أضلعها، وافتداء دكان أبيها مصدر رزقهم، وبيتها الأنيق الذي ستتبختر فيه ،كعروسها الجميلة التي صنعتها أناملها وأعدّتْ منذ دقائق مملكتها.
ولكنها عند الزفاف كانت أبهى العرائس التي صُنعتْ وما صُنعتْ. تحركت مشاعر كلّ نسوة الضيعة، فمنهن من قارنت جمالها بحسرة لتواضع جمال بناتها القابعات المنسيَّات في حضنها، ومنهن من أشفقت على هذه الحورية أن يبتلعها الموج الغادر.
ومنهن من لامت نفسها تقريعاً، إذ كيف لم تسارع إليها وتضمّها لعائلتها كنّة لها.
ولكن الدموع المشتركة هي التي وحّدت الجميع عند الوداع لابنة الضيعة التي ما قدمت إلا عبيرها.. وابتساماتها.. وخفرها.. وصمتها الوداع الموجع الذي ساقها إلى قدرها.
وفي الغرفة التي جمعتهما بداره الواسعة، الممتدّة ، المتطاولة على كل الجهات.. رفع الغطاء عن رأسها، متفرّساً بهذا الوجه الملائكي الذي أبدعه الخالق، منتشياً بنصر صياد ماهر يفتح الصندوق عن كنزٍ اقتنصه، واليوم صار بين يديه بلا شريك.
أسدلتْ جفنيها خجلاً واضطراباً .
تعجّل الصياد بالغنيمة، قرّبها إليه يسحق كلّ الخطا، لم يجد تبريراً لاستبطاء اللحظات..
للوصول إليها رويداً.. رويداً ، فهي بين يديه ،ملكه، وطوع أمره. والقلعة المحصّنة تؤرتج بابها على أسيرته، التي تتلوّى أمامه ألماً عندما اعتصر جسدها الغضّ بين يديه الجامحتين، تحاول أن تقاوم شعور الاختناق الذي انتابها ..راحت تتملَّص وخفقان قلبها يتعالى.
تمعَّنت في وجهه.. هالها احمرار عينيه وهو يتمتم بألفاظ نهمة ، مجنونة، لم تعد تسمعها .
اصطرختْ شفتاها الورديّتان المرتطمتان بشفتيه الغليظتين، وأسنانه المتآكلة..
وتسللتْ إلى روحها رائحة أنفاسه الممزوجة برجع طعم التبغ والخمرة المتفاعلين بلعابه .
تهالكتْ على أقرب أريكة.
امتدت يده لتقطف ياسمينها بخشونة ذكّرتها بالحطب الغليظ المعدِّ للاشتعال في فناء المنزل..
انتفضت لاشعورياً لارتباط لون الياسمين بالعفّة والطّهر، ولأنها تعلّمتْ منذ أن أبصرتْ ألوان الحياة، أنّ فيها منطقة ألغام محظورة، عليها الاستماتة دونها، وليس من السهولة اختراقها في طرفة عين.
جذبها بقوة وقد نفرت عروق أوداجه شهوةً .
تعثَّرتْ بمائدة الطعام ، وتناثرت شظايا إبريق الماء البللوري على الأرض وهي تهمّ بالهروب إلى غرفة الجلوس.
استفزّته مهاة الغابة التي يتبعها قنّاص طلقات بندقيته لا تخيب.
ركل الباب بقدمه طالباً منها فتحه بعد أن أوصدته وهي ترتجف. تمنّتْ عليه أن تنام حيث مكانها وأن يرجئ إلى يوم آخر.. ماعزم عليه ، هزّ رأسه على مضض، وأمضى ليله متقلباً متفجّر الجسد. حتى غلبه النعاس.
حاولت أن تقبل في اليومين التاليين.. فشلت في إقناع ذاتها ، استمهلته برجاء لمَّا همّ بها من جديد وهي ترتعد.
استفاق الوحش الكامن خلف جلده ، حزم شعرها بين يديه يجرها إلى السرير .
انحنت على قدميه تقبّلهما قائلة : سأكون لك.. أعدك.. تحمّلني لبعض أيام أخر وآتيك طوعاً.
قال لها: بل الآن.. الآن.
أمه خلف الباب تستزيده.. جبروتاً وتعنّتاً:
تبّاً لهذه الزيجة ، لقد تناولت رجولتك الألسن يا ولدي.
حملها، قذفها بلا رحمة على السرير..
اصطكتْ أسنانها وتخشّبت أطرافها وارتجفت.. قاومت وتحشرجتْ أنفاسها، تقطّعت الحروف الخارجة غصباً مع دموعها وأنفها الذي سالت منه قناة رفيعة حمراء.
أستحلفك بالله برحمة أبيك أن تتركني الآن.. لا أستطيع.. لا أستطيع..
صفعها على خدّها، لم تشعر بارتطام رأسها على حافة السرير وهي المغيّبة حتى التلاشي فما لجرحٍ في ميت إيلام.
بصق في وجهها ،وصفق الباب خلفه متوعداً، مغادراً إلى أهلها.. تلاحق أُذنيه لعنات أمه عليها لأنها وجه الشؤم.
شهقت أمها وضربت على صدرها، تمّ الاستنفار إليها بسرعة البرق بصحبة عمتها التي استعانت بها، تستغيثها في هذا الظرف الصعب. شقَّت طريقها إلى وحيدتها ،يعفّر قدميها التراب.. تناولتها قرعاً وتأنيباً وضرباً
فرضتْ عليها الحصار، والرضوخ، وتقديم جسدها قرباناً أمام جوبّيترها بسخاء وبلا تردّد.
انكسر صوت أمها قبل أن تغادرها قائلة: حبيبتي لا تفضحينا.
العمّة استوقفته وقد تجمّدت الدموع في مآقيها حزناً متوارثاً وهي تهمس: يا بني حلمك عليها إنها صغيرة.. تحمّلها.. خذها بالحسنى، كل العرائس يعتريهن شعور بالخجل في هذه السويعات، شيئاً فشيئاً يا ولدي وينقضي الأمر كما تحبّ وترغب.
أجابت الحماة: لا ليست كل العرائس، كان عليكم ترويض جموح هذا الجموس الحرون قبل أن تأتي إلينا، يا لحظك التعيس يا ولدي.. زوّجتك لأفرح بك.
وصفقتْ الباب خلفهما دون تردّد ، ودون أن يتذوقا طعم قهوتها. والتفتت إلى ابنها قائلة: قلبي يقول أن في الأمر شيئاً آخر يا ولدي لعلها لاتستهويك.. لاتريدك.. لعلّ قلبها لا يهواك لسبب ما..؟؟!
ازدادت تعابير وجهه تقلّصاً وتجهّماً، وكأن وهج جمرات التنور الذي عادت إليه أمه قد انتقل إلى عروقه، فازداد اشتعالاً ولهيباً وإصراراً على النيل منها.
وإن صحّ هذا الكلام، ليقطف أزهارها ويرمها لمن بعده حطباً يابساً بلا روح.
عاد الذئب إلى فريسته الخائرة القوى أطبق الباب وأرتجه، وسدّ النوافذ وأرخى الستائر..
تابعته عيناها بذعرٍ بادٍ تسائلانه عما يريد فعله، وبأي طريقة يريد أن يبدأ بتمزيق أعطافها.
عيناها وحدهما كانتا تحاورانه لأنّ جسدها منهك، لايقوى على النهوض. كان يحمل في يده شيئاً لم تفسر لحظتها كنهه.
اقترب من سريرها، صلبها على مهد السكنى والرحمة والرأفة .
باعد يديها عن جسدها لأعلى رأسها يربطهما، وهيّأ بحباله ما تبقّى من بقاياها..
لكي يفوز بجولته على حلبة تشاركه فيها امرأة مخنوقة العبرات والكلمات والخلايا.
شدّ وثاقها، حباله كأنها ثعابين تلتهمها تضيّق الخناق عليها تعتصر عضلاتها رويداً.. رويداً.. واقتحم الذئب فريسته، يحمل معه رائحة جسده الفائر الذي أزكم أنفها بتقزّز سيستقر طويلاً في مخيّلتها.
مزهواً بنصره، مؤكداً رجولته على جسد موثوق لا حول له ولا قوة. تركها منزوية في طرف السرير، محطّمة، مهشّمة الحشايا، يوجعها جسدها المثخن ،المليء بكدمات يد أمها، وخنجر فارسها /باغتصاب مشروع/ .
ضحك بطرف فمه، رمقها بعينيه الضيقتين الحادّتين، أشعل سيجارة راح ينفثها قبالة النافذة.
أمه في فناء الدار كانت تنتظر شارة الفحولة .
أشعرها بإيماءةٍ مزهوةٍ منه بأنها على أتمّها.
الزغرودة العالية لعلعت كالرّصاص في أزقّة الضيعة.
تعلن رفع الراية الحمراء........
واحتواها بانكسارٍ في طيّاتِ معطفه العتيق، وكأنه يطوي معها ملامح ابنته الحلوة الوادعة كقطّة أليفةٍ تنام بجوار الموقد.
لقد تمّتْ الصفقةُ بكلّ شوائبها ، تقبَّل مرغماً اجتياح هذي العاصفة التي تلاعبت بجدار بيته البسيط، فكشفت عنه الستائر، وجعلت ظهره عارياً.. تحت الشمس ،تحت المطر.
لم يعدْ للدمع معنى فمنذ الأزل.. الجميلات وحدهن كنَّ قرابين النيل.. والمعابد.. كي ترضى الآلهة وتجود بالخير والعطاء..
فقد باعها إذن.. لذلك المقتدر الذي يبتلع مراوغةً كلّ الضيعة تباعاً المتبلّد كتمساحٍ باردٍ يلتحم بالأرض.
باعها مرغماً لافتداء أخيها الذي ينفلت من حياتهم ، بشحوبه واحتضاره البطيء، يناشد بما تبقّى له من دقّات قلبه الواهن ألاّ يدعوه يرحل..!.. أن يستبقوه بينهم.
الأم التي كاد الهذيان يُذهب عقلها ، استحلفته بأن يبيع الدنيا كلها و يفتديه ، أن يأخذ نور عينيها ويفتديه..
أخذته مشاوير الهموم إلى دروب ضاقت ...وضاقت ، فانسدّتْ معها مسامات جسده وروحه، ومن خلال غلالات دموعه، اضطربتْ صورة دكانه وهو يعتذر إليها بوداعٍ جنائزيّ شيَّع فيها أيامه التي قضاها تحت سقفها في توحّد المقلة بالنظر..
لم يجدْ غيرها ينقذه من هذا الضّيق، فهي كل ما يملك، هي كل شيء، استحلفها بأن تغفر له!!.. فربّتَتْ على كتفه ودعتْ له بالفرج كأمّ صالحةٍ.. تعانق السماء.
قدماه ساقتاه إلى هذا المقتدر الذي أبدى الأسف وهو يعضُّ على شفتيه بدهاء، يعتصر كلمات المواساة والتعاطف مع هذا الكائن المسحوق ، الذي لم تحرك أناته شعرةً من جسده، لقد اعتاد تأدية هذي الفصول المسرحية ببراعة فائقةٍ ، ووعده خيراً.
في اليوم التالي... بينما كانت عينا التاجر تتفحصّان جدران الدّكان التي كانت ترتعد لوجود هذا الغريب حين استشعرت سوطه الكامن في طيات ملابسه.
أتتْ قطته الشقراء الأليفة بسنواتها البرعميَّة التي ما تفتحت أزاهيرها بعد ، وقد تهادتْ جدائلها الذهبيّة على كتفيها، وتماوجتْ حمرة شقائق النعمان في خدّيها، وتناغمتْ مع مشيتها ريح الصبا،
فهفهف العبق الطفولي الزكي ، وتحركتْ نسيماتٌ حلوةٌ، أنعشت الجوّ وأطفأت بعضاً من لهيبه، في هذا اليوم التمّوزي القائظ.
انحنتْ لتلتقط الوجبة المعتادة التي أعدتها الأم لزوجها في طقوس يومية..
تقافزتْ الكمأة في صدرها..
سال لعاب الرجل ،واشتمَّ في أنفه كلّ الروائح التي لا يقدر على مقاومتها.. وأغمض عينيه، يطبقهما على صورةٍ استبقاها في عصب بؤبؤه كي لا ترحل عنه..
أرادها لنفسه إذن، والفرصة سانحة.. وكلّ الطرق إليها ممهّدة.
وأضمر في نفسه دون عناء بعض خطوات يلوح بها هذا الأب المكلوم، ويؤرجحه على يديه حدّ الاضطراب، كي تنصهر آخر قطرة من دمه. ومن ثم يقف فارس الرجولة مقدماً خدماته.
وكان له كلّ ما أراد، ترك الأب يتخبَّط بأسئلته واستفساراته وتخمينه عن سبب تأخّر الرجل بالردّ كلّ هذي الأيام التي مرت: كأشواك الصبار تحرق كل خلاياه مردّداً : ترى هل قبل عرض الدكان أم لا؟
تراه هل سيقبل بالثمن المطلوب أم لا؟.. هل!؟ هل..؟!
وهو ينظر مشفقاً إلى ولده الهزيل، الذي تغطّيه ملاءات رقيقة، انتقل إليها الوجع في لوحة غير مفصولة.
طرقات على الباب.. ابتهج إليها كل من في الدار، وأتى القادم بهبات النيل يعرضها على الأبوين بكثير من التودّد ، والوعود..
وسط صمتٍ ، وذهولٍ ، ثم صدمةٍ ، ثم تبريرٍ، ثم مكابرةٍ ، ثم قبول..
انفردتْ الأم بابنتها التي كانت تلعب مع أقرانها في فسحة الدار، تخيط عرائسها الحلوة، تتغلغل في تفصيل ملامحها، وتصنع لها أريكتها، ومفرشها وأدوات مطبخها.
لم تفقه الطفلة ما سمعتْ ، ألغاز كثيرة قيلت أمامها.
ماالتقطته أذناها: شفاء أخيها العالق في أضلعها، وافتداء دكان أبيها مصدر رزقهم، وبيتها الأنيق الذي ستتبختر فيه ،كعروسها الجميلة التي صنعتها أناملها وأعدّتْ منذ دقائق مملكتها.
ولكنها عند الزفاف كانت أبهى العرائس التي صُنعتْ وما صُنعتْ. تحركت مشاعر كلّ نسوة الضيعة، فمنهن من قارنت جمالها بحسرة لتواضع جمال بناتها القابعات المنسيَّات في حضنها، ومنهن من أشفقت على هذه الحورية أن يبتلعها الموج الغادر.
ومنهن من لامت نفسها تقريعاً، إذ كيف لم تسارع إليها وتضمّها لعائلتها كنّة لها.
ولكن الدموع المشتركة هي التي وحّدت الجميع عند الوداع لابنة الضيعة التي ما قدمت إلا عبيرها.. وابتساماتها.. وخفرها.. وصمتها الوداع الموجع الذي ساقها إلى قدرها.
وفي الغرفة التي جمعتهما بداره الواسعة، الممتدّة ، المتطاولة على كل الجهات.. رفع الغطاء عن رأسها، متفرّساً بهذا الوجه الملائكي الذي أبدعه الخالق، منتشياً بنصر صياد ماهر يفتح الصندوق عن كنزٍ اقتنصه، واليوم صار بين يديه بلا شريك.
أسدلتْ جفنيها خجلاً واضطراباً .
تعجّل الصياد بالغنيمة، قرّبها إليه يسحق كلّ الخطا، لم يجد تبريراً لاستبطاء اللحظات..
للوصول إليها رويداً.. رويداً ، فهي بين يديه ،ملكه، وطوع أمره. والقلعة المحصّنة تؤرتج بابها على أسيرته، التي تتلوّى أمامه ألماً عندما اعتصر جسدها الغضّ بين يديه الجامحتين، تحاول أن تقاوم شعور الاختناق الذي انتابها ..راحت تتملَّص وخفقان قلبها يتعالى.
تمعَّنت في وجهه.. هالها احمرار عينيه وهو يتمتم بألفاظ نهمة ، مجنونة، لم تعد تسمعها .
اصطرختْ شفتاها الورديّتان المرتطمتان بشفتيه الغليظتين، وأسنانه المتآكلة..
وتسللتْ إلى روحها رائحة أنفاسه الممزوجة برجع طعم التبغ والخمرة المتفاعلين بلعابه .
تهالكتْ على أقرب أريكة.
امتدت يده لتقطف ياسمينها بخشونة ذكّرتها بالحطب الغليظ المعدِّ للاشتعال في فناء المنزل..
انتفضت لاشعورياً لارتباط لون الياسمين بالعفّة والطّهر، ولأنها تعلّمتْ منذ أن أبصرتْ ألوان الحياة، أنّ فيها منطقة ألغام محظورة، عليها الاستماتة دونها، وليس من السهولة اختراقها في طرفة عين.
جذبها بقوة وقد نفرت عروق أوداجه شهوةً .
تعثَّرتْ بمائدة الطعام ، وتناثرت شظايا إبريق الماء البللوري على الأرض وهي تهمّ بالهروب إلى غرفة الجلوس.
استفزّته مهاة الغابة التي يتبعها قنّاص طلقات بندقيته لا تخيب.
ركل الباب بقدمه طالباً منها فتحه بعد أن أوصدته وهي ترتجف. تمنّتْ عليه أن تنام حيث مكانها وأن يرجئ إلى يوم آخر.. ماعزم عليه ، هزّ رأسه على مضض، وأمضى ليله متقلباً متفجّر الجسد. حتى غلبه النعاس.
حاولت أن تقبل في اليومين التاليين.. فشلت في إقناع ذاتها ، استمهلته برجاء لمَّا همّ بها من جديد وهي ترتعد.
استفاق الوحش الكامن خلف جلده ، حزم شعرها بين يديه يجرها إلى السرير .
انحنت على قدميه تقبّلهما قائلة : سأكون لك.. أعدك.. تحمّلني لبعض أيام أخر وآتيك طوعاً.
قال لها: بل الآن.. الآن.
أمه خلف الباب تستزيده.. جبروتاً وتعنّتاً:
تبّاً لهذه الزيجة ، لقد تناولت رجولتك الألسن يا ولدي.
حملها، قذفها بلا رحمة على السرير..
اصطكتْ أسنانها وتخشّبت أطرافها وارتجفت.. قاومت وتحشرجتْ أنفاسها، تقطّعت الحروف الخارجة غصباً مع دموعها وأنفها الذي سالت منه قناة رفيعة حمراء.
أستحلفك بالله برحمة أبيك أن تتركني الآن.. لا أستطيع.. لا أستطيع..
صفعها على خدّها، لم تشعر بارتطام رأسها على حافة السرير وهي المغيّبة حتى التلاشي فما لجرحٍ في ميت إيلام.
بصق في وجهها ،وصفق الباب خلفه متوعداً، مغادراً إلى أهلها.. تلاحق أُذنيه لعنات أمه عليها لأنها وجه الشؤم.
شهقت أمها وضربت على صدرها، تمّ الاستنفار إليها بسرعة البرق بصحبة عمتها التي استعانت بها، تستغيثها في هذا الظرف الصعب. شقَّت طريقها إلى وحيدتها ،يعفّر قدميها التراب.. تناولتها قرعاً وتأنيباً وضرباً
فرضتْ عليها الحصار، والرضوخ، وتقديم جسدها قرباناً أمام جوبّيترها بسخاء وبلا تردّد.
انكسر صوت أمها قبل أن تغادرها قائلة: حبيبتي لا تفضحينا.
العمّة استوقفته وقد تجمّدت الدموع في مآقيها حزناً متوارثاً وهي تهمس: يا بني حلمك عليها إنها صغيرة.. تحمّلها.. خذها بالحسنى، كل العرائس يعتريهن شعور بالخجل في هذه السويعات، شيئاً فشيئاً يا ولدي وينقضي الأمر كما تحبّ وترغب.
أجابت الحماة: لا ليست كل العرائس، كان عليكم ترويض جموح هذا الجموس الحرون قبل أن تأتي إلينا، يا لحظك التعيس يا ولدي.. زوّجتك لأفرح بك.
وصفقتْ الباب خلفهما دون تردّد ، ودون أن يتذوقا طعم قهوتها. والتفتت إلى ابنها قائلة: قلبي يقول أن في الأمر شيئاً آخر يا ولدي لعلها لاتستهويك.. لاتريدك.. لعلّ قلبها لا يهواك لسبب ما..؟؟!
ازدادت تعابير وجهه تقلّصاً وتجهّماً، وكأن وهج جمرات التنور الذي عادت إليه أمه قد انتقل إلى عروقه، فازداد اشتعالاً ولهيباً وإصراراً على النيل منها.
وإن صحّ هذا الكلام، ليقطف أزهارها ويرمها لمن بعده حطباً يابساً بلا روح.
عاد الذئب إلى فريسته الخائرة القوى أطبق الباب وأرتجه، وسدّ النوافذ وأرخى الستائر..
تابعته عيناها بذعرٍ بادٍ تسائلانه عما يريد فعله، وبأي طريقة يريد أن يبدأ بتمزيق أعطافها.
عيناها وحدهما كانتا تحاورانه لأنّ جسدها منهك، لايقوى على النهوض. كان يحمل في يده شيئاً لم تفسر لحظتها كنهه.
اقترب من سريرها، صلبها على مهد السكنى والرحمة والرأفة .
باعد يديها عن جسدها لأعلى رأسها يربطهما، وهيّأ بحباله ما تبقّى من بقاياها..
لكي يفوز بجولته على حلبة تشاركه فيها امرأة مخنوقة العبرات والكلمات والخلايا.
شدّ وثاقها، حباله كأنها ثعابين تلتهمها تضيّق الخناق عليها تعتصر عضلاتها رويداً.. رويداً.. واقتحم الذئب فريسته، يحمل معه رائحة جسده الفائر الذي أزكم أنفها بتقزّز سيستقر طويلاً في مخيّلتها.
مزهواً بنصره، مؤكداً رجولته على جسد موثوق لا حول له ولا قوة. تركها منزوية في طرف السرير، محطّمة، مهشّمة الحشايا، يوجعها جسدها المثخن ،المليء بكدمات يد أمها، وخنجر فارسها /باغتصاب مشروع/ .
ضحك بطرف فمه، رمقها بعينيه الضيقتين الحادّتين، أشعل سيجارة راح ينفثها قبالة النافذة.
أمه في فناء الدار كانت تنتظر شارة الفحولة .
أشعرها بإيماءةٍ مزهوةٍ منه بأنها على أتمّها.
الزغرودة العالية لعلعت كالرّصاص في أزقّة الضيعة.
تعلن رفع الراية الحمراء........
تعليق