[align=center]هل تغفر الرّوح ؟![/align]
[align=right]
شدّت اللّحاف على أكتافها، لمّا تسلّلتْ إليها برودة الجدران؛ لعلّها تلمّستْ بعض الدفء الهارب فيها من صوته الشجيّ العابق بالرجولة ، عبر أسلاك الهاتف الذي أخفته قربها على الوسادة ، كعذراء تعيش قصّة حبّها الأول .
سألها : هل ما زلت ترتجفين برداً ؟
أدارت وجهها بحركة دلالٍ لا شعوريّة ، إلى الجانب الآخر من السرير:
لا...أنت معي ..كيف سأشعر ؟
وماذا ترتدين الآن ؟
احمرّ وجهها ؛ كأنه يراها ، وراحت تداعب خصلات شعرها ، متجاوزة الوقوف عند حدّ السؤال.
أنتظرك غداً على الهاتف ، في ذات الموعد..لا تتأخّر ..تصبح على حبّي الكبير.
: نامي بخير حبيبتي ( وزفر بحرقةٍ قبل أن يطبق سمّاعته )
التفتت بفرح ، بدمٍ يتقافز سعادةً ، والسماعة لا تزال في يدها ، تعيش لحظات عشقٍ ، أورقت رقصاتٍ ذات إيقاعٍ حالمٍ ، بين خلايا نامت طويلاً ، في سُباتٍ شتويّ ممتدّ ٍ ، لزمن ليس كالزمن ، لقسوته وعهر ثوانيه .
ثمّ شهقت ، لطمتْ خدّها، توقّفت أنفاسها ، شيء ما ، طلقةٌ ما أتتها مباغتة ، أنهتها ، غيّبتها ، ثمّ أعادتها.
خُيّل إليها إطباق سمّاعة أخرى بعد إنهاء المكالمة.
: ياويلي ..ياويلي ..أيكون ابني على الجانب الآخر، طرفٌ ثالث ، شاهد وسمع فصول مسرحيّةٍ ، كان هو الوحيد جمهورها..ياإلهي كان نائماً ، تأكدت من ذلك.
قالتها ، وقفزت على أطراف أصابعها تنضو لحافها عنها ، وهي ترتجف .
وجدت بابه مغلقاً بالمفتاح ، وصوت نشيجٍ مكتومٍ ، يصدر عنه ، إنها أنّاته ، حنجرته التي خالطت دمها ، بواكير رجولته التي تداخلت مع طفولة يزحزحها رويدأً ...رويداً عنه .
حاولت أن تنقر الباب ، خانتها أصابعها..وصلت باب غرفتها ، ثمّ عادت إليه . لقد تعوّدت أن تمسح شعره ، وتقبّل جبينه قبل أن تؤوب إلى فراشها ، تغطّيه ، وتستشفّ من عبيره غابات عشقٍ أبديّ ، تُزرع في نبضها .
لم تقوَ على الإصرار في الوقوف عند بابه ، لأوّل مرّة تحسّ بالعجز، تمنّت عليه في هذه اللحظة ، التي كانت بها في أوج ضعفها ، لو يتبادلا الأدوار، فتكون هي الابنة ، وهو الأب الذي يتفهّمها ، يعنّفها ، يقسو ، ويحطّم كلّ أواني الدار ؛ ولكن ليستمع إليها أخيراً.
لم تنم..قلّبت الأمور، سارتْ بها بكلّ أطياف الكون ، بجهاته الأربع.
تأكلها شفتاها اللتان لم يلامسا جبينه ، وهو من بعض تكوينها ، وأنفها هذا الذي تدغدغه بأنفه تحبّباً ، أحسّت به يأتي إليها بروائح موت ، أصاب قلبيهما معاً وإلى الأبد.
عند الصباح كانت تمنّي النفس ، بأن تستفيق على صحوٍ ، يقول أن الذي مرّ ليلة أمس ، كان كابوساً بشعاً ، وأنها لفرط خوفها ، تهيّأت لها أحداث فيلمٍ مرعبٍ ، لم يكن له وجودإلاّ في قوّة الإخراج.
صارت ترقب باب غرفته . هاهو يدير المفتاح ، ويخرج منه.هاهو الشحرور يستفيق عند الصباح، بكلّ هذا الجمال، والوداعة والإلفة .
حاولت أن تتماسك ، ألاّ تتهوّر بالنظر إلى عينيه ؛ لتترك الدقائق تسير على رسلها.
تشاغلت عنه ، والقلب يرقبه بإعداد الإفطار، تخيّلت يديه يحجبان من الخلف عينيها كما كان يفعل، انتظرته ، كثيراً انتظرته .
دقائق كالسنين انتظرته ، لكنّه لم يبادرها كعادته بتحيّة الصباح.
صفّفت الأطباق على طاولة الطعام ، أتتْ إليه بكأس الحليب .
الصمت المطبق ، ثمّ ارتطام درفة الباب بقوّةٍ وراءه وهو يخرج من البيت، أوضحت أنّ الأمر صار حقيقةً.
لحقتْ به عبر النافذة ، لمحته وهو يتباعد عن عينيها رويداً...رويداً نحو شارعٍ فرعيّ ٍ آخر، أيقنت أنّ الموت فعلاً أطبق عليها من كلّ جانبٍ ينهش في ثناياها، وأنّ عطباً أصاب السفينة فأغرقها
احتبست الدماء في عروقها، جمّدتْ صور جدران بيتها في ناظريها، الابتسامة الباهتة التي تعلو وجه زوجها المتوضّع في برواز فخمٍ ،يكمل أثاث المنزل أناقةً ،جعلها تصرخ فيه وتقول: أنت المسؤول ، قم وابحث معي عن ابنك الذي هام على وجهه . وهاجمتها نوبةٌ عنيفةٌ من البكاء، من الانهيار، من لسعاتٍ كهربيّةٍ تبطئ ضخّ قلبها ، ثمّ ترفعه.
نظرت إلى المرآة ، ساءلت نفسها عن تيك التي تراها ؟
شعرها المشوّش ، عيناها المتورّمتان ، وجهها الما عاد له لون..، ساعات فاصلة ، كانت فيها بين الموت والحياة.
كلّ شيء فيها كان يرتعد.
هبط ماتبقّى من أوردتها ، وهو يعود من جديد إلى البيت، دخل غرفته ،أقفل بابها ، عذّبها بصمته القاتل،عندما تجاهل تحيّتها ولهفتها بأن تكسر جدران الصمت بينهما.
انسحبت إلى عالمٍ يفتّتها بذكرياته القاتلة ، فرحها القديم ، أمنياتها، عشقها لزوجٍ كان يحمل كلّ أمانيها.
هذا الفارس الذي كسر زغاريد أنوثةٍ تفتّحتْ على يديه ، لم تعدْ تلتقط أنفاسه إلاّ عبر الهاتف ، حيث يأتيها بصوتٍ يغيب ، ثمّ يعود في أبعد مسافاتٍ تفصله عنها، وقد عشق غربته بحثاً عن قصورٍ يباهي بها أقرانه ، لم تدرِ متى كانت زيارته الأخيرة الخاطفة ، التي زرعت أسلاكاً أقوى بينهما ، كم شدّته إلى أضلاعها كي لا يرحل من جديد..؟؟
أن تستبقيه رجل حياتها الأوحد ، ما ذنبها إذا كان أصمّ ،أعمى ؟
حاولت أن تدفن هذا القلب ، قصّت الورود عنه ، لم تعد تسقيها ، أرادتْ إذبالها، لم تعرف كيف تسرّبت إليها بعض أغراس جديدة..تفتّق الربيع فيها، وتبختر في حناياها ،هازئاً من كلّ احتياطاتها وتدابيرها ، شيئاً فشيئاً كبر هذا العالم البديل في خيالها ، استعاضت عن سني قحطها به ، عبر فيها إلى دروبٍ لم تسلكها ، ولم تستحمّ بينابيعها ، وصفاء قمرها.
لم تكن تقصد الخيانة ، بقدر ما كانت تقصد دواء لروحها التي تماوتتْ قسراً.
وكزها شرودها لما عاود ، يفتح باب غرفته ، يطلّ منها حاملاً حقيبة سفرٍ، يهزأ من سطوتها المزعومة ، وهي تشدّ عنه الحقيبة قائلة: هيه أنت ..اسمع..تكلّم ..إلى أين..هيه..إلى أين ؟
بحركةٍ قاسية أبعد يدها كي لا تصيب أوردته التي كانت تنزّ قهراً ووجعاً. تحجّرتْ مآقيه، كأنها قُدّتْ من حجرٍ .
يا إلهي ...كيف تحوّل شحرورها إلى هذه القسوة..كيف طاوعه قلبه في لحظة ألمٍ أن يتنكّر لها .. كيف لم يتلهّف لأناملها التي كان يلثمها ، دون مللٍ..؟
أدار ظهره لها قاصداً باب الدار ، شدّته من قميصه قبل أن يخرج مستجمعةً بعض قوّة ما قبل الانطفاء:
اسمع ..قبل أن تغادر اسمعني انظر لي .. إني أحبّك ياولدي ، لم أكره بيتي ، لم أكُ في يومٍ بغيّاً ، أنا الأمّ العذراء ياولدي .. أنت تعرفني .
أكملت وهي تمسح دمعها بطرف كمّها: أنت لم تشعر بما أعاني ، كنت لك الأب والأمّ ، كنت جنّتك التي عوّضّتْ كلّ شيء وأكثر...أمّا أنا.. لم أجد من يمسح دمعي، من يدثّرني بعطفه وحنانه ، من يضمّني عند الخوف ، يسارع لنجدتي إن دعوته، كان أبوك غائباً ، وكأن ريحاً قد اقتلعت جذوره من هنا ، لم يملأ بطنه بالدولارات بعد، ولن يمتلئ أبداً.
كم قلت له اكتفينا ، عدْ إلينا ،لا نريد أكثر من ذلك ، أنت الأغلى عندنا من كلّ مال الكون ، وكأنّي أعانق السراب ، وكأني أحاور الصخر.
كم كنت شاهداً على دموعي ياولدي..كم مسحتها بيديك..كم انفردت بغرفتك التي تتركها الآن للأشباح ..وأنت عاجزٌ عن الحل فيما يتنازعني مدّاً وجذراً.
تهالك على أقرب أريكة ، انفجرت بواكير رجولته الجريحة ، انطلقت حممها:
لا تقولي يا ولدي ..انكسر ما بيننا ، لا تقنعيني أن أتجرّع سُمّ الحجرات هانئاً ، لن أغفر لك ما حييتُ.
والآن..اذهبي ..اخرجي من قلبي.. وروحي .
وهمّ بالوقوف من جديدٍ محاولاً الإمساك بحقيبته ، دفعته بيديها بغضبٍ يتبعه انكسار ، ثمّ ضعفٍ ، ثمّ انهيار . تتهاوى حروفها:
إذن اذهب ..اذهب ياسندي.. يا قطعة من فؤادي... كما تحبّ..اتركني أغرق بألمي ، أصارع الحياة وحدي..يارجلي القويّ: أسألت نفسك لمَ كلّ هذا ؟
وأيّ إعصارٍ زلزل كياني حتى طرحني، أكنت ترقب بعينيك كم وردة أشبكتها بشعري المنسدل على كتفي ، ثمّ انتزعتها وهي ذابلة آخر المساء ، وأنا أفتّتها بين أصابعي، لمَ تتجاهل عذاباتي وأنا أدافع عن مركبة بيتي ، وأحميها من الغريب والقريب ، حتى تثلّمت سيوفي ، تعبت ياولدي ، تعبت من أجلك ، تعبت وأنا أرمّم كلّ يومٍ أحجار بيتي الذي ينهار ، وصاحب الأسوار ليس هنا ، يرزم أمواله التي تتنامى ، ولا أدري إن كانت تنام على يديه ألف جميلة غيري .
أبوك صار عندي صدى صوتٍ لا وجود له ، أنت تعلم وتكابر ..اذهب ...اذهب
دفعته من جديد أمامها ، ودون أن يلتفت ، فتح الباب بنزقٍ وأغلقه وراءه بعنفٍ أصاب منها ، لم تستطع أن تلامس منه بعد خروجه إلاّ طيفه على الباب ، راحت تخبط بقبضتها على درفته بصوتٍ يقطعه البكاء قائلة:
وأنا أيضاً لا أريد أن أراك بعد اليوم ، لن أشتاقك ، حسبتك تسمع ، تغفر ، تلتمس لي الأعذار، تقول لي: أنا أعرفك..أنت أمّي الطاهرة التي أحبّها .. ستكذّب أذنيك حتى ولو سمعتا ، لأنّي عند كلّ عشيّة أنام قرب غرفتك ، أحنو عليك ، أشمّ طيبك ، وأهدهد أنفاسك ، اذهب. سحبت يدها عن الباب تنزلها مع جسدها الذي تكوّر خلفه على الأرض وهي تخبط بلاطها:
لا ..لا ياولدي عُد لي أحبّك ، لن أطيق البعد عنك ، لا تتأخّر ، سأبقى هنا خلف الباب أنتظرك ، لن أغادر !
جاء المساء ، وكاد ينتصف الليل ، ما عادَ . توجّهتْ إلى غرفتها ، بعثرتْ محتوى أدراج خزانتها ، عثرتْ على شيءٍ ما ، حدّقتْ به بعيونٍ مجمّدةٍ ، وأصابع لم تهتز ، وفي ثوانٍ أحسّتْ أن ّ أوجاعها تتخدّر، أنها تنسلّ عن هذا العالم .أن طيف ابنها عاد إليها ، احتضنته ، خالها أنها تصطحبه معها إلى ذاك الدرب البعيد الذي كانت تقصده ، غابت ، تلاشتْ ، مااستبقتْ في إطباقة جفنيها غيرصورته..
مرّ من الزمن بعضه..
استفاقت فجأة لتجد أمام وجهها عينيه تبتسمان لها ، قال لها : الحمد لله على سلامتك
تنحنحتْ بوهنٍ بادٍ ، استحثّتْ ذاكرتها علّها تسعفها في تفسير ما يجري ، أخذ المكان يتوضّح لها شيئاً .. فشيئاً .
سريرٌ في المشفى ، ضمن غرفة منفصلةٍ منعزلةٍ ، محاليل إسعافيّة مغروسة في يدها ، أغراضها البسيطة المرميّة على طرف الكرسيّ المقابل لها ، زجاجات دواء، وأكواب عصيرٍ وماء ، وضوء خافت يتسرّب من حائطٍ أخضر.
وهمهمات بين طبيب وممرّضة فوق رأسها.
أرادتْ أن تتكلّم لم يسعفها لسانها المتخشّب في حلقها ، أسكت فمها بأطراف أصابعه قائلاً:
الآن لا كلام ...ارتاحي..وكرّر : الحمد لله على السلامة..
التفت إلى الممرّضة التي كانت تحقنها بإبرةٍ وريديّة ، يعلمها نيته المغادرة قليلاً ، من أجل إحضار بعض المتعلّقات الشخصيّة من المنزل لابدّ منها.
دخل الصالة، وجد آثار نبضها، حتى نبضها يفتح ذراعيه له الآن ، ولج غرفتها ، وجد سجادة صلاة تحضن جلبابها وسبحتها، وعلبة دواءٍ فارغةٍ كادت أن تميت حشاياها ، وعلى مخدّتها وجد بقايا دموعٍ نديّةٍ، وورقةٍ كتب عليها:
لا شيء يعادل نار قلبي ياولدي ...أحبك.
في كلّ خطوةٍ كان يتهشّم ضلع منه ، وصل إليها ، كانت إبرة المهدّئ قد أخذت مفعولها ، وجدها مغمضة العينين
شاحبة الوجه ، مكسورة الجناح، سارع إليها، جلس على طرف السرير يتأمّلها ، أخذ يخنق الشيطان الذي كاد يصيبه بمسّ جنونٍ ويلتهمه.. حتى دحره.
هاتفه يرنّ ، أبوه يحادثه بصوته الذي يلعلع كأنه قادم من كوكبٍ آخر بادره السؤال.
أين أنتم ياولدي لقد شغل فكري إذ لا أحد في الدار بهذه الساعة المتأخرة...؟
أجابه ويده تمسح شعر أمه المبتلّ من فرط التعرّق الموهن :لا شيء تسمّم غذائي تعرّضت له أمي إثر تناولها وجبة ملوّثة
وقبل أن يقفل الخط متمنيّاً لها الشفاء ، مختصراً متملّصاً كعادته ،من واجب روتينيّ أنهاه على عجل..
عدّل من جلسته وحشر كلّ قهره في صوته المنقول إلى أبيه:
أبي ...أبي لا تغادر قبل أن تسمعني ، يجب أن تتصرّف ، أن تحسم الأمر، إمّا العودة ، وإمّا أن نذهب إليك ، أو فلتطلقْ سراح أسيرتك...لا خيار غير ذلك ، أتسمع أبي ؟
كرّر ماقاله مراراً إمعاناً في التأكيد، وأطبق الخطّ دون أن ينتظر الجواب، وهو يرتجف، ولكنه يشعر برجولته الكامنة تتدفّق ، تهدر، تنصف .
لمح دموعها تبرق على وجنتيها ، قالت له : اقترب يا حبيب أمك..
لم يتردّدْ، شمّ كفيها، لثمهما، قبّلت جبينه، ودغدغتْ أنفها بأنفه كما كانا يتمازحان...
وسؤال يرفرف بينهما : هل تغفر الروح ؟
من مجموعتي القصصيّة الثالثة / 2010
[/align]
[align=right]
شدّت اللّحاف على أكتافها، لمّا تسلّلتْ إليها برودة الجدران؛ لعلّها تلمّستْ بعض الدفء الهارب فيها من صوته الشجيّ العابق بالرجولة ، عبر أسلاك الهاتف الذي أخفته قربها على الوسادة ، كعذراء تعيش قصّة حبّها الأول .
سألها : هل ما زلت ترتجفين برداً ؟
أدارت وجهها بحركة دلالٍ لا شعوريّة ، إلى الجانب الآخر من السرير:
لا...أنت معي ..كيف سأشعر ؟
وماذا ترتدين الآن ؟
احمرّ وجهها ؛ كأنه يراها ، وراحت تداعب خصلات شعرها ، متجاوزة الوقوف عند حدّ السؤال.
أنتظرك غداً على الهاتف ، في ذات الموعد..لا تتأخّر ..تصبح على حبّي الكبير.
: نامي بخير حبيبتي ( وزفر بحرقةٍ قبل أن يطبق سمّاعته )
التفتت بفرح ، بدمٍ يتقافز سعادةً ، والسماعة لا تزال في يدها ، تعيش لحظات عشقٍ ، أورقت رقصاتٍ ذات إيقاعٍ حالمٍ ، بين خلايا نامت طويلاً ، في سُباتٍ شتويّ ممتدّ ٍ ، لزمن ليس كالزمن ، لقسوته وعهر ثوانيه .
ثمّ شهقت ، لطمتْ خدّها، توقّفت أنفاسها ، شيء ما ، طلقةٌ ما أتتها مباغتة ، أنهتها ، غيّبتها ، ثمّ أعادتها.
خُيّل إليها إطباق سمّاعة أخرى بعد إنهاء المكالمة.
: ياويلي ..ياويلي ..أيكون ابني على الجانب الآخر، طرفٌ ثالث ، شاهد وسمع فصول مسرحيّةٍ ، كان هو الوحيد جمهورها..ياإلهي كان نائماً ، تأكدت من ذلك.
قالتها ، وقفزت على أطراف أصابعها تنضو لحافها عنها ، وهي ترتجف .
وجدت بابه مغلقاً بالمفتاح ، وصوت نشيجٍ مكتومٍ ، يصدر عنه ، إنها أنّاته ، حنجرته التي خالطت دمها ، بواكير رجولته التي تداخلت مع طفولة يزحزحها رويدأً ...رويداً عنه .
حاولت أن تنقر الباب ، خانتها أصابعها..وصلت باب غرفتها ، ثمّ عادت إليه . لقد تعوّدت أن تمسح شعره ، وتقبّل جبينه قبل أن تؤوب إلى فراشها ، تغطّيه ، وتستشفّ من عبيره غابات عشقٍ أبديّ ، تُزرع في نبضها .
لم تقوَ على الإصرار في الوقوف عند بابه ، لأوّل مرّة تحسّ بالعجز، تمنّت عليه في هذه اللحظة ، التي كانت بها في أوج ضعفها ، لو يتبادلا الأدوار، فتكون هي الابنة ، وهو الأب الذي يتفهّمها ، يعنّفها ، يقسو ، ويحطّم كلّ أواني الدار ؛ ولكن ليستمع إليها أخيراً.
لم تنم..قلّبت الأمور، سارتْ بها بكلّ أطياف الكون ، بجهاته الأربع.
تأكلها شفتاها اللتان لم يلامسا جبينه ، وهو من بعض تكوينها ، وأنفها هذا الذي تدغدغه بأنفه تحبّباً ، أحسّت به يأتي إليها بروائح موت ، أصاب قلبيهما معاً وإلى الأبد.
عند الصباح كانت تمنّي النفس ، بأن تستفيق على صحوٍ ، يقول أن الذي مرّ ليلة أمس ، كان كابوساً بشعاً ، وأنها لفرط خوفها ، تهيّأت لها أحداث فيلمٍ مرعبٍ ، لم يكن له وجودإلاّ في قوّة الإخراج.
صارت ترقب باب غرفته . هاهو يدير المفتاح ، ويخرج منه.هاهو الشحرور يستفيق عند الصباح، بكلّ هذا الجمال، والوداعة والإلفة .
حاولت أن تتماسك ، ألاّ تتهوّر بالنظر إلى عينيه ؛ لتترك الدقائق تسير على رسلها.
تشاغلت عنه ، والقلب يرقبه بإعداد الإفطار، تخيّلت يديه يحجبان من الخلف عينيها كما كان يفعل، انتظرته ، كثيراً انتظرته .
دقائق كالسنين انتظرته ، لكنّه لم يبادرها كعادته بتحيّة الصباح.
صفّفت الأطباق على طاولة الطعام ، أتتْ إليه بكأس الحليب .
الصمت المطبق ، ثمّ ارتطام درفة الباب بقوّةٍ وراءه وهو يخرج من البيت، أوضحت أنّ الأمر صار حقيقةً.
لحقتْ به عبر النافذة ، لمحته وهو يتباعد عن عينيها رويداً...رويداً نحو شارعٍ فرعيّ ٍ آخر، أيقنت أنّ الموت فعلاً أطبق عليها من كلّ جانبٍ ينهش في ثناياها، وأنّ عطباً أصاب السفينة فأغرقها
احتبست الدماء في عروقها، جمّدتْ صور جدران بيتها في ناظريها، الابتسامة الباهتة التي تعلو وجه زوجها المتوضّع في برواز فخمٍ ،يكمل أثاث المنزل أناقةً ،جعلها تصرخ فيه وتقول: أنت المسؤول ، قم وابحث معي عن ابنك الذي هام على وجهه . وهاجمتها نوبةٌ عنيفةٌ من البكاء، من الانهيار، من لسعاتٍ كهربيّةٍ تبطئ ضخّ قلبها ، ثمّ ترفعه.
نظرت إلى المرآة ، ساءلت نفسها عن تيك التي تراها ؟
شعرها المشوّش ، عيناها المتورّمتان ، وجهها الما عاد له لون..، ساعات فاصلة ، كانت فيها بين الموت والحياة.
كلّ شيء فيها كان يرتعد.
هبط ماتبقّى من أوردتها ، وهو يعود من جديد إلى البيت، دخل غرفته ،أقفل بابها ، عذّبها بصمته القاتل،عندما تجاهل تحيّتها ولهفتها بأن تكسر جدران الصمت بينهما.
انسحبت إلى عالمٍ يفتّتها بذكرياته القاتلة ، فرحها القديم ، أمنياتها، عشقها لزوجٍ كان يحمل كلّ أمانيها.
هذا الفارس الذي كسر زغاريد أنوثةٍ تفتّحتْ على يديه ، لم تعدْ تلتقط أنفاسه إلاّ عبر الهاتف ، حيث يأتيها بصوتٍ يغيب ، ثمّ يعود في أبعد مسافاتٍ تفصله عنها، وقد عشق غربته بحثاً عن قصورٍ يباهي بها أقرانه ، لم تدرِ متى كانت زيارته الأخيرة الخاطفة ، التي زرعت أسلاكاً أقوى بينهما ، كم شدّته إلى أضلاعها كي لا يرحل من جديد..؟؟
أن تستبقيه رجل حياتها الأوحد ، ما ذنبها إذا كان أصمّ ،أعمى ؟
حاولت أن تدفن هذا القلب ، قصّت الورود عنه ، لم تعد تسقيها ، أرادتْ إذبالها، لم تعرف كيف تسرّبت إليها بعض أغراس جديدة..تفتّق الربيع فيها، وتبختر في حناياها ،هازئاً من كلّ احتياطاتها وتدابيرها ، شيئاً فشيئاً كبر هذا العالم البديل في خيالها ، استعاضت عن سني قحطها به ، عبر فيها إلى دروبٍ لم تسلكها ، ولم تستحمّ بينابيعها ، وصفاء قمرها.
لم تكن تقصد الخيانة ، بقدر ما كانت تقصد دواء لروحها التي تماوتتْ قسراً.
وكزها شرودها لما عاود ، يفتح باب غرفته ، يطلّ منها حاملاً حقيبة سفرٍ، يهزأ من سطوتها المزعومة ، وهي تشدّ عنه الحقيبة قائلة: هيه أنت ..اسمع..تكلّم ..إلى أين..هيه..إلى أين ؟
بحركةٍ قاسية أبعد يدها كي لا تصيب أوردته التي كانت تنزّ قهراً ووجعاً. تحجّرتْ مآقيه، كأنها قُدّتْ من حجرٍ .
يا إلهي ...كيف تحوّل شحرورها إلى هذه القسوة..كيف طاوعه قلبه في لحظة ألمٍ أن يتنكّر لها .. كيف لم يتلهّف لأناملها التي كان يلثمها ، دون مللٍ..؟
أدار ظهره لها قاصداً باب الدار ، شدّته من قميصه قبل أن يخرج مستجمعةً بعض قوّة ما قبل الانطفاء:
اسمع ..قبل أن تغادر اسمعني انظر لي .. إني أحبّك ياولدي ، لم أكره بيتي ، لم أكُ في يومٍ بغيّاً ، أنا الأمّ العذراء ياولدي .. أنت تعرفني .
أكملت وهي تمسح دمعها بطرف كمّها: أنت لم تشعر بما أعاني ، كنت لك الأب والأمّ ، كنت جنّتك التي عوّضّتْ كلّ شيء وأكثر...أمّا أنا.. لم أجد من يمسح دمعي، من يدثّرني بعطفه وحنانه ، من يضمّني عند الخوف ، يسارع لنجدتي إن دعوته، كان أبوك غائباً ، وكأن ريحاً قد اقتلعت جذوره من هنا ، لم يملأ بطنه بالدولارات بعد، ولن يمتلئ أبداً.
كم قلت له اكتفينا ، عدْ إلينا ،لا نريد أكثر من ذلك ، أنت الأغلى عندنا من كلّ مال الكون ، وكأنّي أعانق السراب ، وكأني أحاور الصخر.
كم كنت شاهداً على دموعي ياولدي..كم مسحتها بيديك..كم انفردت بغرفتك التي تتركها الآن للأشباح ..وأنت عاجزٌ عن الحل فيما يتنازعني مدّاً وجذراً.
تهالك على أقرب أريكة ، انفجرت بواكير رجولته الجريحة ، انطلقت حممها:
لا تقولي يا ولدي ..انكسر ما بيننا ، لا تقنعيني أن أتجرّع سُمّ الحجرات هانئاً ، لن أغفر لك ما حييتُ.
والآن..اذهبي ..اخرجي من قلبي.. وروحي .
وهمّ بالوقوف من جديدٍ محاولاً الإمساك بحقيبته ، دفعته بيديها بغضبٍ يتبعه انكسار ، ثمّ ضعفٍ ، ثمّ انهيار . تتهاوى حروفها:
إذن اذهب ..اذهب ياسندي.. يا قطعة من فؤادي... كما تحبّ..اتركني أغرق بألمي ، أصارع الحياة وحدي..يارجلي القويّ: أسألت نفسك لمَ كلّ هذا ؟
وأيّ إعصارٍ زلزل كياني حتى طرحني، أكنت ترقب بعينيك كم وردة أشبكتها بشعري المنسدل على كتفي ، ثمّ انتزعتها وهي ذابلة آخر المساء ، وأنا أفتّتها بين أصابعي، لمَ تتجاهل عذاباتي وأنا أدافع عن مركبة بيتي ، وأحميها من الغريب والقريب ، حتى تثلّمت سيوفي ، تعبت ياولدي ، تعبت من أجلك ، تعبت وأنا أرمّم كلّ يومٍ أحجار بيتي الذي ينهار ، وصاحب الأسوار ليس هنا ، يرزم أمواله التي تتنامى ، ولا أدري إن كانت تنام على يديه ألف جميلة غيري .
أبوك صار عندي صدى صوتٍ لا وجود له ، أنت تعلم وتكابر ..اذهب ...اذهب
دفعته من جديد أمامها ، ودون أن يلتفت ، فتح الباب بنزقٍ وأغلقه وراءه بعنفٍ أصاب منها ، لم تستطع أن تلامس منه بعد خروجه إلاّ طيفه على الباب ، راحت تخبط بقبضتها على درفته بصوتٍ يقطعه البكاء قائلة:
وأنا أيضاً لا أريد أن أراك بعد اليوم ، لن أشتاقك ، حسبتك تسمع ، تغفر ، تلتمس لي الأعذار، تقول لي: أنا أعرفك..أنت أمّي الطاهرة التي أحبّها .. ستكذّب أذنيك حتى ولو سمعتا ، لأنّي عند كلّ عشيّة أنام قرب غرفتك ، أحنو عليك ، أشمّ طيبك ، وأهدهد أنفاسك ، اذهب. سحبت يدها عن الباب تنزلها مع جسدها الذي تكوّر خلفه على الأرض وهي تخبط بلاطها:
لا ..لا ياولدي عُد لي أحبّك ، لن أطيق البعد عنك ، لا تتأخّر ، سأبقى هنا خلف الباب أنتظرك ، لن أغادر !
جاء المساء ، وكاد ينتصف الليل ، ما عادَ . توجّهتْ إلى غرفتها ، بعثرتْ محتوى أدراج خزانتها ، عثرتْ على شيءٍ ما ، حدّقتْ به بعيونٍ مجمّدةٍ ، وأصابع لم تهتز ، وفي ثوانٍ أحسّتْ أن ّ أوجاعها تتخدّر، أنها تنسلّ عن هذا العالم .أن طيف ابنها عاد إليها ، احتضنته ، خالها أنها تصطحبه معها إلى ذاك الدرب البعيد الذي كانت تقصده ، غابت ، تلاشتْ ، مااستبقتْ في إطباقة جفنيها غيرصورته..
مرّ من الزمن بعضه..
استفاقت فجأة لتجد أمام وجهها عينيه تبتسمان لها ، قال لها : الحمد لله على سلامتك
تنحنحتْ بوهنٍ بادٍ ، استحثّتْ ذاكرتها علّها تسعفها في تفسير ما يجري ، أخذ المكان يتوضّح لها شيئاً .. فشيئاً .
سريرٌ في المشفى ، ضمن غرفة منفصلةٍ منعزلةٍ ، محاليل إسعافيّة مغروسة في يدها ، أغراضها البسيطة المرميّة على طرف الكرسيّ المقابل لها ، زجاجات دواء، وأكواب عصيرٍ وماء ، وضوء خافت يتسرّب من حائطٍ أخضر.
وهمهمات بين طبيب وممرّضة فوق رأسها.
أرادتْ أن تتكلّم لم يسعفها لسانها المتخشّب في حلقها ، أسكت فمها بأطراف أصابعه قائلاً:
الآن لا كلام ...ارتاحي..وكرّر : الحمد لله على السلامة..
التفت إلى الممرّضة التي كانت تحقنها بإبرةٍ وريديّة ، يعلمها نيته المغادرة قليلاً ، من أجل إحضار بعض المتعلّقات الشخصيّة من المنزل لابدّ منها.
دخل الصالة، وجد آثار نبضها، حتى نبضها يفتح ذراعيه له الآن ، ولج غرفتها ، وجد سجادة صلاة تحضن جلبابها وسبحتها، وعلبة دواءٍ فارغةٍ كادت أن تميت حشاياها ، وعلى مخدّتها وجد بقايا دموعٍ نديّةٍ، وورقةٍ كتب عليها:
لا شيء يعادل نار قلبي ياولدي ...أحبك.
في كلّ خطوةٍ كان يتهشّم ضلع منه ، وصل إليها ، كانت إبرة المهدّئ قد أخذت مفعولها ، وجدها مغمضة العينين
شاحبة الوجه ، مكسورة الجناح، سارع إليها، جلس على طرف السرير يتأمّلها ، أخذ يخنق الشيطان الذي كاد يصيبه بمسّ جنونٍ ويلتهمه.. حتى دحره.
هاتفه يرنّ ، أبوه يحادثه بصوته الذي يلعلع كأنه قادم من كوكبٍ آخر بادره السؤال.
أين أنتم ياولدي لقد شغل فكري إذ لا أحد في الدار بهذه الساعة المتأخرة...؟
أجابه ويده تمسح شعر أمه المبتلّ من فرط التعرّق الموهن :لا شيء تسمّم غذائي تعرّضت له أمي إثر تناولها وجبة ملوّثة
وقبل أن يقفل الخط متمنيّاً لها الشفاء ، مختصراً متملّصاً كعادته ،من واجب روتينيّ أنهاه على عجل..
عدّل من جلسته وحشر كلّ قهره في صوته المنقول إلى أبيه:
أبي ...أبي لا تغادر قبل أن تسمعني ، يجب أن تتصرّف ، أن تحسم الأمر، إمّا العودة ، وإمّا أن نذهب إليك ، أو فلتطلقْ سراح أسيرتك...لا خيار غير ذلك ، أتسمع أبي ؟
كرّر ماقاله مراراً إمعاناً في التأكيد، وأطبق الخطّ دون أن ينتظر الجواب، وهو يرتجف، ولكنه يشعر برجولته الكامنة تتدفّق ، تهدر، تنصف .
لمح دموعها تبرق على وجنتيها ، قالت له : اقترب يا حبيب أمك..
لم يتردّدْ، شمّ كفيها، لثمهما، قبّلت جبينه، ودغدغتْ أنفها بأنفه كما كانا يتمازحان...
وسؤال يرفرف بينهما : هل تغفر الروح ؟
من مجموعتي القصصيّة الثالثة / 2010
[/align]
تعليق