فـــــــــوق
ليس أكثر نقاءً من بالونات ملوّنة!
لن يفعل مثل العجوز في الفيلم الكرتوني حينما علّق البالونات في مدخنة بيته، ليحلّق ببيته طائرًا إلى (أرض الفردوس)!
بل كان جالسًا يطالع جريدته عندما رأى ألوانًا زاهية تتحرك على صفحة جريدته وأصواتًا أوبرالية تغني غناءً حالمًا. نظر من النافذة..
ثمة نساءٍ يطرن نحو السماء لا يدري من أين يخرجن؟! .. وما الذي جمعهّن على تلك الهيئة دون موعد؟!.. أو ربما كن على موعد!
رآهن يرتدين فساتين رمادية .. معلقة أيديهن في بالونات، أو الأحرى أن البالونات هي التي رُبطت في أيديهن لترفعهن إلى السماء.
لوهلة شعر بخجل شديد تجاههن خشية أن تتكشف ثيابهن التحتية وهن يطرن على تلك الشاكلة..
أنّى له أن يفكر في مثل هذه الأمور؟!.. وتلك النسوة يبدين مغيبات عن الوعي أو أنّ هناك من يدفعهن رغم إرادتهن نحو الطيران معتمدات فقط على قدرة البالونات في التحليق.. وقوتهن على ضرب الأرض بأقدامهن لينطلقن إلى أعلى، في طيران تقليدي قديم يشبه فكرة (الباراشوت)..
شعورهن مفكوكة يكاد يرى تباين ألوانهن، لولا أن لمح جسدًا مألوفًا وملامح عهدها زمنًا طويلًا .. فالتفت إليه أثناء سيره مغيّبًا قبل صعوده إلى السماء ..
إنها أمه !..
تلك التي انضمت إلى زمرة النسوة وراحت تصدر نشيجًا.. سريعًا ما انسجم مع أصوات صاحباتها..
أخذ يعدو في إثرها مندهشًا.. من أين أتت بهذه السرعة الفائقة؟.. أهي سرعة البالونات أم هو الهواء الذي يحملها وصاحباتها كعرائس هزيلة على وشك أن تفارقهن أرواحهن وتتركهن هشيمًا تطوّحه الرياح؟!.
أسرع نحوها يطوي الأرض تحته وتدفعه الأرض وترفعه حتى لحق بها وأمسكها من قدمها، في لحظة مفارقة قدمها للأرض..
هكذا صار بين زمرة النسوة .. لولا خجله من الموقف، لاطمئن لقربه من أمه
ماذا سيقول من يراه وهو الرجل الوحيد في إثر نساء طائرات؟.. كيف سينظر بعد ذلك في وجه ابنه، الذي كثيرًا ما يعنّفه حين يراه يجلس إلى بنات أعمامه أو خالاته؟..
الجلوس وسط النساء عيب، لا يصح مشاركتهم الحديث .. عليك التزام مصاحبة الرجال!
سيغض طرفه إذن..
ويطلق بصره نحو السماء ليرى إلى أين ينطلق ذلك الموكب المهيب وما الجهة التي تقصدها تلك النسوة الحالمات الضئيلات الجسد الناعسات الأعين..
أ يزعق بأمه لتنظر إليه؟
ربما حاول ذلك مرارًا في هذا الصعود الأبدي الذي لا يعلم له منتهى .. لكنّ أصوات صاحباتها تطغى على صوته، تشوّشه.. ثم يتآمر معهن الهواء فيبدد صوته بعيدًا وسط ذرات الهواء، حتى تلاشى!
لا يعلم كم صار يبعد عن الأرض الآن.. أ ينظر إلى الأسفل ويحتمل صورة العالم المرعب في تقزّمه أم يطلق قرارًا مجنونًا بأن يترك قدم أمه وزمرة صاحباتها ليعود مجددًا إلى حمى اليابسة؟!
سماوات فوق سماوات.. كل منها تقود إلى أخرى في سلاسل غير منتهية .. سحب تغلفها أخرى فيتيه في صخب تباين السحب .. أشكالها وألوانها.. والنسوة ينطلقن دون توقف، حتى لاحت رائحة غريبة ..
رائحة احتراق!..
لابد أنه اقترب الآن من الغلاف الجوي ذلك الذي درسه قديمًا في مادة العلوم، فهو يعلم جيدًا أن من يقترب منه مصيره الاحتراق إلى ذرات يبددها النسيان.
ليته ترك قدم أمه منذ أن واتته الفكرة .. ليته لم يصحب هذا الموكب النسائي العجيب!
تسارعت دقات قلبه فيما تباطأ صعود أمه ..
أوقفته برفق على سحابة رمادية تنذر بعاصفة قريبة..
وانطلقت مع صاحباتها نحو المصير المحتوم.
ما العمل إذن؟ .. لا يدري ..
رأى ذرات الاحتراق تمطره بوابل أسود كريه الرائحة.. كاد أن يبكي لولا فكره الذي تشوّش، فشلّه عن الحراك. أ يحزن لهذا المشهد أم يرتعب من موقفة الآني؟!
هل يقفز من تلك السحابة العجيبة؟
لربما خانته قدمه وداست بقعة هشة منها فتتفتت على إثرها ويسقط إلى مصيره المؤلم.
إلى داخل جيوبه امتدت يداه لتحتمي من البرد القارس .. وجد بجيبه بضعة بالونات زاهية في حاجة إلى بعض الهواء لتنطلق إلى الفضاء الرمادي.
دينا نبيل
تعليق