من عسير الأمور أن تغوص في دروب الأدب العربي شعرا ونثرا، فغزارة ما كتب في آداب العربية يستوجب قراءة مضنية قبل الكتابة، ليست طبعا تلك القراءة العادية التي ينجم عنها احتطاب ليلي يخلط هذا بذاك فلا تكاد تعرف الخيط الرفيع الذي يعزل المقبول عن المرفوض من الكلام. سنكون معا في مجلس علمين حديثين رغم
تنافرهما وتباعدهما، فالأدب العربي يجمعهما، ويعترف لكل منهما بدوره في دعم لبناته، وتوطيد صرحه وتزيين رحابه. أحدهما لقّب بعميد الأدب العربي والآخر بشيخ العربية وهما علمان مصريان يشتغلان بالنقد عامة والأدبي منه خاصّة.
في العادة عندما أتناول الأعلام أحبّذ الحياد رغم أن الحياد والموضوعية نشيد صعب المنال، خاصة عند من يعتبر الذات جزءا من الموضوع يتأرجح تأثيرها فيه بين الإهمال والسيطرة. فإن لم استطع الحياد الكامل فعلى الأقل تجنّبت التّدخل السّافر المنفّر خاصّة أنّ الموضوع يغري بالعوم وتزيده حدّة طرفيه في تناوله
تحريضا للنفوس على الاصطفاف، لكن سأحاول إن اصطففت أن لا يتجاوز اصطفافي الجانب المعرفي بعيدا عن الجوانب الأخرى المغرية.
هل كنت أحتاج كل هذا التقديم، ربما هذا ما خمّنته، أن الأمر فعلا يحتاج إلى تقديم واف لعلنا نستطيع تحمّل القول الثّقيل الذي يميز كلا العلمين طه حسين ومحمود محمد شاكر، ونزالهما الذي كانت له تبعاته كما حسناته، فإن كنت أبتعد عن الجوانب المجانبة للمعرفة رأيت ذلك النّزال خيرا جلّه إذ أعطى دفعة للنقد والحركة المعرفية والأدبية على السواء، فعلى سبيل التأكيد على هذا الحراك الدّافئ يمكن تسجيل ثلاثة كتب لطه حسين وهي في الأدب الجاهلي الذي كان امتدادا للطبعة الأولى المسجلة تحت عنوان في الشعر الجاهلي، ثم كتاب حديث الأربعاء، ثم كتاب مع المتنبي. وأيضا كتب ثلاثة على الأقل أيضا لمحمود شاكر في مقدّمتها المتنبي، ورسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ثم قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام.
يمكن إضافة كتاب عبد الوهاب عزام حول المتنبي لكونه دخل إلى حلبة النزال المباشر، ولمن يحب التوسع ربما أضاف أباطيل وأسمار وجال جولة في كتاب على هامش الغفران لصاحبه لويس عوض. ومن أراد الاستزادة ربما أضاف كتاب سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام وكذا مقالات شاكر لا تسبوا أصحابي، فتلاحظ هنا اختلاطا بين ماهو أدبي لغوي وديني وثقافي وسياسي وهي حقول إلى حدّ ما هي قريبة من الرؤية الفلسفية بين ماهو وجودي ومعرفي وأخلاقي وسياسي، وهنا ستلامس أيضا أن سؤال الأدب ليس دائما سؤالا بريء النّسب وسليم الطويّة بل يدخل في علاقات تجعله يتقلّد محافظ ثقيل وزنها على حمولة الأدب عينه.
كتاب المتنبي لمحمود شاكر في طبعته الثانية في السبعينيات ربما أجمل الكثير من هذه الحكاية وإذا أضيف له كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي ظهرت صورة الصراع أكثر.
محمود محمد شاكر تلميذ طه حسين في كلية الآداب، تمّ قبوله في الكلية بتدخل من طه حسين لكونه واحدا من معارف أسرته، حيث ينحدر من الشعب العلمية، فما كان متاحا له التوجّه إلى الشّعب الأدبيّة، وهي مكرمة ما جحدها شاكر لأستاذه طه حسين
بل بجّل فيه هذا الموقف، رغم لا أخلاقيته، لكن تعوّد الأشياء اللاأخلاقية، تجعلنا أحيانا نراها بعين أخلاقية ولن يرى لا أخلاقيتها إلا من كان يريد تغيير الشعبة يومئذ وما وجد من يقف بجانبه لتجاوز هذا القانون أو العرف الحائل دون رغبته، لا علينا فلا غرابة في هذا، فمحمود كما طه ما وصلت يوما علاقتهما الشخصية إلى القطيعة رغم ما يكنّه الواحد للآخر من عداء، فما أنكر محمود كما ابنه أن محمودا كان يتوسط للناس عند طه عندما كان وزيرا لقضاء مآربهم وأغراضهم، وما ردّ طلبا يوما في وجهه، فإن كان أنصار الرجلين يتباغضان بغضا حقيقيا والطلاق بينهم بين وبائن، فما أحوجنا إلى التدبّر في السّير وقراءتها بلا تعمية.
كان طه يشرح نظريته في الشعر الجاهلي وكان تلميذه يتميز غيظا، ويؤجل ثورته في وجه أستاذه الذي يعتمد منهج الشّك الديكارتي الذي يدعو إلى تعليق الأحكام المسبقة وتحطيم المسلّمات إلى حين البرهان عليها، فينطلق طه مشكّكا في صدقيّة الشّعر الجاهلي وينتهي نافيا لصحّته مدّعيا أنه شعر منحول في الإسلام. وكانت ضربة قاصمة لثقة شاكر بطه، من وجهين مؤلمين، الأول أن شاكرا ما اختار
الأدب العربي إلا لكونه مولعا بالشعر عموما والجاهلي منه خصوصا، يقول شاكر، بعد أن تحدث عن حفظه لديوان المتنبي أنه أهمله وانصرف إلى الشعر الجاهلي منذ أن التقى به فما فارقه فحفظ المعلقات ومعانيها وتواريخها وقرأ دواوين الشعراء الجاهليين، ومئات القصائد للّذين ليست لهم دواوين:" وجدت يومها (في الشعر الجاهلي) ترجيعا خفيّا غامضا كأنه حفيف نسيم تسمع حسّه وهو يتخلّل أعواد نبات عميم متكاثف، أو رنين صوت شجيّ ينتهي إليك من بعيد في سكون ليل داجن...." يفسر شاكر مضيفا أن ذلك
الترجيع يختلف جرسه من شاعر إلى شاعر لكنه نفس الترجيع يختلف عن الأموي والعباسي رغم كونهما لا يخلوان من هذه الظاهرة، لكن هناك مباينة ظاهرة في الترجيع والطنين والدندنة، وليس الأمر يتعلق باختلاف لفظي أو في الوزن، مضيفا أنه يومئذ يميزبين الأشعار بالتذوّق وفقط.
عندما وجد شاكر طه يشكّك في الشّعر الجاهلي كان كمن حضر مجلسا يطعن ويعرّض فيه المتسامرون بالتي تسكن هواه، لكن ليس هذا وحده ما أقلق شاكرا بل إن هذا الكلام الذي يسمعه من فم طه كان قد قرأه في مقالة لمستشرق اسمه مارجوليوت. ولأن طه يعيد نفس الأفكار دون أن ينسبها إلى صاحبها، ويقدّم البضاعة كما لو كانت من بنات أفكاره فكان طه يمارس في نظر محمود سطوا فاضحا، سببان كافيان حسب اعتقادي لقيام الثورة، الطّعن في المحبوب هو الطّعن في خيارات الذّات، والمبرر الأخلاقي أي أنّ الخصم حائط قصير، والمبرّر الأخلاقي في الثقافة العربية الإسلامية له مركزية فيكفي أنّها خصّصت له علما كاملا يسمى بعلم الرجال، فالرجل المجروح رجل لا يقبل قوله.
شاكر اتبع تكتيكا في مواجهته لطه، فغالبا أثناء الخصومات لا يتم الدخول مباشرة إلى بؤرة التّوتّر، بل تكون المناوشات على الأطراف فعندما قرّر شاكر مواجهة أستاذه لم يرمه مباشرة بالسّطو بل عارضه في تطبيقات المنهج الديكارتي، وعدم تطبيقه وفق أصالته، فقال له أنت تريد أن تزيل الشّك بالشّك ، شككت في شيء واستعملت حججا مشكوكا في صحتها لتثبيت صحة شكّك، وكان محمود يراجع المنهج الديكارتي مع طالب في قسم الفلسفة وهو محمود محمد الخضري الذي ترجم كتاب ديكارت مقالة في المنهج بعد ذلك.
يتبع.
تنافرهما وتباعدهما، فالأدب العربي يجمعهما، ويعترف لكل منهما بدوره في دعم لبناته، وتوطيد صرحه وتزيين رحابه. أحدهما لقّب بعميد الأدب العربي والآخر بشيخ العربية وهما علمان مصريان يشتغلان بالنقد عامة والأدبي منه خاصّة.
في العادة عندما أتناول الأعلام أحبّذ الحياد رغم أن الحياد والموضوعية نشيد صعب المنال، خاصة عند من يعتبر الذات جزءا من الموضوع يتأرجح تأثيرها فيه بين الإهمال والسيطرة. فإن لم استطع الحياد الكامل فعلى الأقل تجنّبت التّدخل السّافر المنفّر خاصّة أنّ الموضوع يغري بالعوم وتزيده حدّة طرفيه في تناوله
تحريضا للنفوس على الاصطفاف، لكن سأحاول إن اصطففت أن لا يتجاوز اصطفافي الجانب المعرفي بعيدا عن الجوانب الأخرى المغرية.
هل كنت أحتاج كل هذا التقديم، ربما هذا ما خمّنته، أن الأمر فعلا يحتاج إلى تقديم واف لعلنا نستطيع تحمّل القول الثّقيل الذي يميز كلا العلمين طه حسين ومحمود محمد شاكر، ونزالهما الذي كانت له تبعاته كما حسناته، فإن كنت أبتعد عن الجوانب المجانبة للمعرفة رأيت ذلك النّزال خيرا جلّه إذ أعطى دفعة للنقد والحركة المعرفية والأدبية على السواء، فعلى سبيل التأكيد على هذا الحراك الدّافئ يمكن تسجيل ثلاثة كتب لطه حسين وهي في الأدب الجاهلي الذي كان امتدادا للطبعة الأولى المسجلة تحت عنوان في الشعر الجاهلي، ثم كتاب حديث الأربعاء، ثم كتاب مع المتنبي. وأيضا كتب ثلاثة على الأقل أيضا لمحمود شاكر في مقدّمتها المتنبي، ورسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ثم قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام.
يمكن إضافة كتاب عبد الوهاب عزام حول المتنبي لكونه دخل إلى حلبة النزال المباشر، ولمن يحب التوسع ربما أضاف أباطيل وأسمار وجال جولة في كتاب على هامش الغفران لصاحبه لويس عوض. ومن أراد الاستزادة ربما أضاف كتاب سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام وكذا مقالات شاكر لا تسبوا أصحابي، فتلاحظ هنا اختلاطا بين ماهو أدبي لغوي وديني وثقافي وسياسي وهي حقول إلى حدّ ما هي قريبة من الرؤية الفلسفية بين ماهو وجودي ومعرفي وأخلاقي وسياسي، وهنا ستلامس أيضا أن سؤال الأدب ليس دائما سؤالا بريء النّسب وسليم الطويّة بل يدخل في علاقات تجعله يتقلّد محافظ ثقيل وزنها على حمولة الأدب عينه.
كتاب المتنبي لمحمود شاكر في طبعته الثانية في السبعينيات ربما أجمل الكثير من هذه الحكاية وإذا أضيف له كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي ظهرت صورة الصراع أكثر.
محمود محمد شاكر تلميذ طه حسين في كلية الآداب، تمّ قبوله في الكلية بتدخل من طه حسين لكونه واحدا من معارف أسرته، حيث ينحدر من الشعب العلمية، فما كان متاحا له التوجّه إلى الشّعب الأدبيّة، وهي مكرمة ما جحدها شاكر لأستاذه طه حسين
بل بجّل فيه هذا الموقف، رغم لا أخلاقيته، لكن تعوّد الأشياء اللاأخلاقية، تجعلنا أحيانا نراها بعين أخلاقية ولن يرى لا أخلاقيتها إلا من كان يريد تغيير الشعبة يومئذ وما وجد من يقف بجانبه لتجاوز هذا القانون أو العرف الحائل دون رغبته، لا علينا فلا غرابة في هذا، فمحمود كما طه ما وصلت يوما علاقتهما الشخصية إلى القطيعة رغم ما يكنّه الواحد للآخر من عداء، فما أنكر محمود كما ابنه أن محمودا كان يتوسط للناس عند طه عندما كان وزيرا لقضاء مآربهم وأغراضهم، وما ردّ طلبا يوما في وجهه، فإن كان أنصار الرجلين يتباغضان بغضا حقيقيا والطلاق بينهم بين وبائن، فما أحوجنا إلى التدبّر في السّير وقراءتها بلا تعمية.
كان طه يشرح نظريته في الشعر الجاهلي وكان تلميذه يتميز غيظا، ويؤجل ثورته في وجه أستاذه الذي يعتمد منهج الشّك الديكارتي الذي يدعو إلى تعليق الأحكام المسبقة وتحطيم المسلّمات إلى حين البرهان عليها، فينطلق طه مشكّكا في صدقيّة الشّعر الجاهلي وينتهي نافيا لصحّته مدّعيا أنه شعر منحول في الإسلام. وكانت ضربة قاصمة لثقة شاكر بطه، من وجهين مؤلمين، الأول أن شاكرا ما اختار
الأدب العربي إلا لكونه مولعا بالشعر عموما والجاهلي منه خصوصا، يقول شاكر، بعد أن تحدث عن حفظه لديوان المتنبي أنه أهمله وانصرف إلى الشعر الجاهلي منذ أن التقى به فما فارقه فحفظ المعلقات ومعانيها وتواريخها وقرأ دواوين الشعراء الجاهليين، ومئات القصائد للّذين ليست لهم دواوين:" وجدت يومها (في الشعر الجاهلي) ترجيعا خفيّا غامضا كأنه حفيف نسيم تسمع حسّه وهو يتخلّل أعواد نبات عميم متكاثف، أو رنين صوت شجيّ ينتهي إليك من بعيد في سكون ليل داجن...." يفسر شاكر مضيفا أن ذلك
الترجيع يختلف جرسه من شاعر إلى شاعر لكنه نفس الترجيع يختلف عن الأموي والعباسي رغم كونهما لا يخلوان من هذه الظاهرة، لكن هناك مباينة ظاهرة في الترجيع والطنين والدندنة، وليس الأمر يتعلق باختلاف لفظي أو في الوزن، مضيفا أنه يومئذ يميزبين الأشعار بالتذوّق وفقط.
عندما وجد شاكر طه يشكّك في الشّعر الجاهلي كان كمن حضر مجلسا يطعن ويعرّض فيه المتسامرون بالتي تسكن هواه، لكن ليس هذا وحده ما أقلق شاكرا بل إن هذا الكلام الذي يسمعه من فم طه كان قد قرأه في مقالة لمستشرق اسمه مارجوليوت. ولأن طه يعيد نفس الأفكار دون أن ينسبها إلى صاحبها، ويقدّم البضاعة كما لو كانت من بنات أفكاره فكان طه يمارس في نظر محمود سطوا فاضحا، سببان كافيان حسب اعتقادي لقيام الثورة، الطّعن في المحبوب هو الطّعن في خيارات الذّات، والمبرر الأخلاقي أي أنّ الخصم حائط قصير، والمبرّر الأخلاقي في الثقافة العربية الإسلامية له مركزية فيكفي أنّها خصّصت له علما كاملا يسمى بعلم الرجال، فالرجل المجروح رجل لا يقبل قوله.
شاكر اتبع تكتيكا في مواجهته لطه، فغالبا أثناء الخصومات لا يتم الدخول مباشرة إلى بؤرة التّوتّر، بل تكون المناوشات على الأطراف فعندما قرّر شاكر مواجهة أستاذه لم يرمه مباشرة بالسّطو بل عارضه في تطبيقات المنهج الديكارتي، وعدم تطبيقه وفق أصالته، فقال له أنت تريد أن تزيل الشّك بالشّك ، شككت في شيء واستعملت حججا مشكوكا في صحتها لتثبيت صحة شكّك، وكان محمود يراجع المنهج الديكارتي مع طالب في قسم الفلسفة وهو محمود محمد الخضري الذي ترجم كتاب ديكارت مقالة في المنهج بعد ذلك.
يتبع.
تعليق